Noel Harry Leaver تفاصيل المكان نضج التجربة التشكيلية
كتبت.. بشرى بن فاطمة
منذ ظهور فكرة الاستشراق والتهافت الغربي على ثقافات الشرق وتفاصيله تطوّرت الرؤية الفنية التشكيلية بعمق أبعادها التي نمّت الصورة وألوانها والخيال وأفكاره وارتقت بمعالم جديدة وحضور مختلف القيم الجمالية وتناقضاتها وهو ما ميّز هذه الظاهرة وخلق الجدال والتجاذبات الفكرية عن الغايات والأهداف من حركات الاستشراق في العموم والاستشراق الفني خاصة، فقسّم الفنانون المستشرقون إلى جيلين، جيل نقل الدهشة المحكية بخيال مبالغ وإثارة حالمة، وجيل تنقل بكل أحاسيسه ووجدانه وأفكاره إلى الشرق لتطوير تجربته والاستفادة من المكان فأثّر وتأثّر وطوّر أساليب تعبيره ومن بينهم الرسام الإنجليزي “نويل هاري ليفير” (1889-1951) الذي تعدّ لوحاته الفنية عن الشرق ظاهرة طوّرت الرؤية الاستشراقية التي نبشت تفاصيل الزخرف والهندسة والعمارة التي نقلها إلى الغرب سواء كنظريات جمالية في الهندسة والمعمار أو في لوحاته، ما ساهم في خلق بصمة خاصة ألقى فيها شغفه وتعلّقه بمدن الشرق وهندستها الاسلامية المتنوعة التزيين تلك النظريات الهندسية التي لم تقصر على اللوحة فقط بل شملت تدريسه للهندسة بالجامعة لخصوصياتها وألوانها مفصّلا واقعها وحضورها المتفاعل مع الطبيعة.
فقد انغمس في المعالم بتنوعها ونهل من كل ما ميزها من الزخرف الإسلامي والأندلسي الغارق في شرقيته إلى الفوضى الغارقة في المكان بين الاتساع والضيق وفق طبيعة مختلفة ومستوى متنوع.
وقد كان انبهاره واضحا بمدن المغرب العربي وخاصة مدينة تلمسان الجزائرية التي سحرته بعمرانها وبألوانها تاريخها وطبيعتها وتنوعها الفكري والبشري والديني والزخرفي والعمراني الذي لامس دهشة الطبيعة وعلاقتها بالروح في المعالم الدينية والمساجد المزخرفة في المآذن والألوان أشكالها واندماج الطبيعة في عمقها اللوني بين الأبيض والأخضر والأزرق الذي سحر ليفر لينغمس فيه موسّعا أفق اللون في هندسة اللوحة،فلم يركز كثيرا على الحضور البشري بقدر ما سلّط فكرته الجمالية على المعالم والفضاء والبيئة والخصوصية التي تميّز كل مكان.
اعتمد نويل هاري ليفر فكرة الاستشراق لبناء لوحة ذات خصوصية هندسية فقد ساعدته أسفاره في مدن أوروبا على خلق فضاءات جديد للخيال فمن المباني والألوان الداكنة في درجاتها التي تعكس بيئة أوروبا في ألوانها الترابية والرمادية أحيانا والسماء التي تخترق اتساعها المباني أو الغيوم،إلى سماء الشرق بزرقتها وضوئها والأشعة التي تصدر من مداها لتنعكس على المباني وتأثر في الألوان والظلال فرغم أنه عمل على المناظر الطبيعية والعمارة في كل مكان كان يقصده في أروبا إلا أن تأثره الأكبر كان بمدن شمال افريقيا من خلال انبهاره بالزخرف الإسلامي بالديكور الداخلي والحياة بتفاصيلها الدقيقة وجمالياتها وتنسيقاتها اللونية التي قد تبدو غير معقولة ولكنها بعثت في التفاعل الحسي لديه جمالية أنضجت تجربته التشكيلية ما منح أعماله ليونة ومرونة وألوانا اختلفت بتدرجاتها وسطوعها وإضاءاتها التي تدفقت مع تفاصيل البناء وزخرفته المميزة بطابعها الإسلامي-الأندلسي في الأسلوب الانسيابي بين الطبيعة والقداسة والألوان والحياة وقد ساعدته دراساته الاكاديمية للفنون واهتمامه بالهندسة على بناء لوحة متكاملة التفصيلات المتراكبة بين الألوان المائية والورق وقلم الرصاص فكان يجيد اقتحام المساحة وترميم الفضاء بزينة واقعية وتعبير شامل انطلاقا من التصميم إلى الزخرف فقد تجاوز المرئي المثير إلى التفاصيل اليومية في الشوارع والطرقات والأزقة بمساحاتها الطبيعة والطرقات القروية لم يتغافل حتى عن الشقوق في الجدران ولا عن تفاصيل تصفيف الطرقات بجمالياته المميزة، فقد تأثر بالطبيعة بالإضاءة والفضاءات وعلاقتها مع المباني فمن الأقواس إلى الطرقات فالمساجد والبيوت والكنائس طوّر أسلوبه وأنضج حواسه التي استمتعت بتدريج الألوان في تفاعلاتها مع الطبيعة.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum