خاص|| الشاعر «موسى حوامدة» يكتب سيرة سنوات العمر الأولى (الحلقة الأولى )
وقف الشاعر الفلسطيني «موسى حوامدة» ذات يوم على أطلال بيته في تلك القرية الفلسطينية، بالخليل، وظل يتحضر ذكريات حياة شكلت الشاعر والإنسان، وأسهمت في بنائه، بكل ما احتوتها من ذكريات بسيطة في مخيلة طفل بكى بحرقة على عنزته التي أضحت صديقته، وبكى يوم تاهت خطاه وترك يد أمه في ذاك السوق التاريخي في مدينة الخليل..من هذه الذكريات يبدأ حوامدة في سرد سيرة حياته ومسيرته التي أودت به شاعرا مجيدا.. فإلى ذكريات الشاعر والممزوجة بحكايات وطن لازال في طريق النضال من أجل انتزاع حقه…
من العقد الفلسطيني القديم كانت البداية
يقال أن الإنسان يتكون خلال السنوات العشرة الأولى من عمره، وإذا كان هذا الكلام صحيحاً، ولعله كذلك، فلا بدَّ أن تكون السنوات الأولى من حياتي، قد فعلتْ فعلها تماماً، وحينما ألتفت إلى تلك السنوات أو أستعيدها، أدرك أنها حفرت عميقاً، وأثَّرت وما تزال في نفسيتي، وجعلتني أشبه بورقة في مَهبٍّ عاصفة لا تهدأ، ولا تستقر على حال.
كانت ولادتي في “عقد” فلسطيني قديم، يقع بين عقود متلاصقة متشابهة مكتظة، وكان لكل عقد منها حوش يحيط به جدار عال.
العقد الذي كانت تعلوه قبة، له نافذة صغيرة واحدة، وكانت له مصطبة مرتفعة، وهي مكان للجلوس، ومكان للطبخ، ومكان للنوم، ومخزن للحبوب، حيث تقف على جوانبه صوامع ضخمة، تمتلئ بالقمح والحبوب، أما المنطقة الأقل ارتفاعاً، فكانت توضع فيها آلات وأدوات الزراعة والفلاحة، وأدوات الطبخ وأغراض متنوعة، ومن خلال مرابط الدواب البارزة، وبعض الحلقات المتصلة بالأوتاد المغروسة على طرف المصطبة، وبعض مذاود مطمورة، يتضح أنها كانت أيضاً، حظيرة داخلية تنام فيها الدواب سابقاً.
أما الحوش الواسع نوعاً ما، فيفضي إلى سقيفة مقوسة، وعلى طرف منه طابون بلدي، يقابله حمام خارجي، وينتهي بباب تقف بجانبه حجر عملاقة، يبدو أنها استعملت لإغلاقه وقت الطوارئ، ومن الواضح أن الحوش قديماً استعمل كذلك، حظيرةً لبعض الدواب، مثل الجمال والحمير والأغنام أو الماعز البلدي والشامي.
تناقصت أراضي البلدة الخصبة، والمراعي الواسعة، بعد نكبة عام 1948م، فضاع جزء كبير منها مع سقوط بئر السبع، وضاع جزء آخر، بعد ترسيم الحدود عام 1950، بين الأردن و(اسرائيل)، ترافق ذلك مع زيادة القحط وشح الأمطار، فصارت العائلة تكتفي بعدد قليل من المواشي والأبقار، يزيد العدد وينخفض، حسب الظروف.
صداقة مع عنزة شامية
هذا قبل ولادتي، وبعد أن وعيت نوعاً ما، لا زلت أذكر رفيقة طفولتنا، تلك العنزة الشامية الجميلة، والأليفة والتي تحول اعتيادنا عليها، وتجاوبها معنا، وذكاؤها الغريب، إلى صداقة متينة جمعتنا، فصرنا نحبها كثيراً، وتبادلنا هي الحب واللعب معنا، وتنام بيننا، إن لم يحتج أبي في أغلب الأحوال، فتربط جوارنا في قاع العقد.
غريبة تلك العنزة، التي تزداد غرابتها، كلما كبرتُ وعرفت الماعز والأغنام أكثر، فكانت تعيش بيننا، كأنها فردٌ منا، نداعبها فتتجاوب، نكلمها فتجيبنا بحركات رأسها وأذنيها وفمها، نمدُّ لها العشب والخبز وحتى الحلو، فتقبل عليه، وتلتهمه من بين أيدينا.
وحين تتقدم والدتي لتحلبها، تكون في غاية الكرم، فتدر علينا حليباً وافراً، تصنع منه أمي ما يكفينا ويزيد، من الرايب واللبن والزبدة، وظلت هذه الصحبة مثار فرحتنا وتسليتنا، حتى فوجئنا في يوم من الأيام أنها اختفت، بحثنا عنها كالمجانين، بكيناها بكاء مراً، ونحن نسأل عنها، حتى عرفنا أن أبي كان السبب وراء اختفائها، فقد باعها إلى “سليمان طوبشو”، تاجر الحلال، فأقمنا عليها مناحة مفتوحة، وبيت أجر بلا معزين، وبقيت لا أحب رؤية هذا الرجل، رغم صلة القرابة بين زوجته وأمي، وابتسامته الدائمة، وصداقته مع أبي.
ربما كانت هذه العنزة، هي الفقد الأول الذي شعرت به، وبقيت حزيناً حتى بعد أن نسي أخي “حسين” وأختي “نعمة” العنزة، وأرضاهما أبي بوعوده الزائفة، باسترجاعها مجدداً من “طوبشو”، أو شراء عنزة أجمل منها، لكني بقيت مقتنعاً أنها ذهبت ولن تعود، وأنها حزينة مثلي، وقد تكون الآن في بيت راع ظالم، يضربها ولا يطعمها، حتى جفَّ حليبها، وربما بدأ أولاد الراعي في التودد منها، لكنها ترفضهم، ولا تلعب معهم، فيبدأون بضربها بالعصي، وإذلالها، حتى باتت لا تأكل ولا تشرب، وقد تنام في مكان سيء، أو في حظيرة متسخة.
حاولت أمي وعمتي، التخفيف عني، أمي لم تجد مبرراً لما فعله أبي، لكنها تهدئ من خاطري، فتقول: أنت جاهل تبكي على عنزة، كبِّر عقلك، البلاد راحت، ما وقفت على بهيمة، ثم تضيف: الله يسامحك يا “محمد”، تتصرف من نفسك، ولا تشاورني، وحين تنتبه لوجودي، وانتباهي، تقول: أبوك اضطر لبيعها، يمّه، لكنه لم يخبرني، لكن عمتي الممالئة لأبي تقول: سيشتري لك أبوك عنزة أحسن منها، فقد كبُرتْ، وتوقفتْ عن الولادة، وصار لحمها “وتيش” لا يؤكل، ولهذا باعها أبوك، ليشتري لكم واحدة أصغر منها عمراً، وأطرى لحماً، وأزكى حليباً، لا تزعل يا عمتي الحلال كثير، والماعز متوفر، وتهمس لأمي: أنتِ وحدي الله، أي راحت راحت الله لا يردها، واللي جابها بجيب غيرها، فأزعل من عمتي، وأعود للبكاء حتى تعدني أن تضغط على أبي ليعيدها، فأتخيلها عائدةً لنا وهي تبتسم وقد هزلت كثيراً، وبدا عليها الحزن على فراقنا.
الأيام تمضي، والحوش يظل فارغاً، وهو الملعب والمتنزه والمتنفس لنا طيلة النهار، وجدرانه العالية التي نما العشب بين حجارتها، صارت حافزاً لنا لتسلقها، واللعب تحتها، والتمتع ببعض فيئها أيام الحر.
ورغم خطورة انهيار جزء من تلك الجدران، أو سقوط بعضها علينا، وقد وقع ذلك أكثر من مرة، ورغم التحذيرات من الأفاعي التي كنا نرى بعضها تطلُّ من بين شقوقها، ونرى جارنا “حسين شمة”، الذي لا يستحم مطلقاً، وكأنه الحاوي الخبير، يدخل يده، بين تلك الجدران، ثم يسحبها فنراها تنزُّ دماً، وأحياناً يخرجها، وقد قبضت على إحدى الإفاعي، ونراها تتلوى وتلتف على يديه، بينما يقبض بإحكام على عنقها، ثم يضعها في مرطبان، ويغلق عليها، ورغم كل ذلك، لم نكن نخاف أو نكفَّ عن تسلق الجدران، والصعود حتى على العقود المجاورة لعقدنا، واللعب دون تعب.
ولد ضايع.. لمين ها الولد..
أمي كانت امرأة جميلة جداً، متسامحة وطيبة، بل مسالمة، أكثر مما يجب، سواء أمام أبي النزق، أو عمتي “آمنة” التي تعيش معنا، وتهيمن على البيت، وتشارك أمي تربيتَنا، بل هي الأم الثانية، التي تدير الأمور، ولا يرفض لها أبي طلباً، بينما يعامل أمي معاملة صارمة، رغم أنها كانت مدبرة، دائمة العمل، فمن أعمال الزراعة في الكرم، إلى أعمال الفلاحة والحصاد، وغربلة القمح وتنقيته من الزوان، وإرساله إلى بابور الطحين في “يطا” البلدة القريبة من بلدتنا، أو طحن بعضه بالرحى، إلى تجفيف البندورة، وتخزين طعام الشتاء، إلى التطريز والخياطة، واستخدام ماكينة خياطتها الشهيرة ماركة “سنجر”، إلى صبغ صوف الغنم، وغزله ونسجه وعمل بسط بلدية منه، إما لاستخدامها في البيت، أو بيعها، وأذكر أنها اصطحبتني مرة، وحين أقول مرة فربما تكون أول مرة أذهب معها إلى مدينة الخليل، وربما لم يكن عمري يتجاوز الثلاث أو الأربع سنوات، أذكر أننا كنا في سوق عتيق جداً، وشهير في مدينة الخليل، يسمى “خزق الفار” وهو يتألف من محلات صغيرة، على جانبي السوق الذي يفضي طريقه إلى باب الحرم الإبراهيمي، وهو يضم كافة المهن والبضائع التقليدية، ويبدو أن أمي أفلتت يدي، وهي تتحدث مع التاجر، وتعرض بساطها للبيع، فمشيت مع الماشين في السوق، ولما أدركت أني تهت وفقدتها، بدأت أبكي، فأمسك بي أحد الرجال، وصار يصيح بأعلى صوته، مما دبَّ الرعب أكثر في صدري: ولد ضايع، ولد ضايع، لمين هالولد؟
لم تمض دقائق كثيرة، حتى جاءت أمي مفزوعة، والتقطتني، ولكن تلك الدقائق أو اللحظة القصيرة، ظلت محفورة في ذاكرتي، ماذا لو فقدت أمي، وتهت إلى الأبد، وظلت تلك القصة تعاود الحضور حتى اليوم، حتى كتبت مرة في إحدى قصائدي دون أن استحضر تلك القصة:
يا بلادي
لستُ موسى الفرعوني
ولست شعيباً
إنني أنثى الرجاء
ضيعتني أمّي في سوق الصرافين..
وحين عدت للشام
كانت سيناء محبوسةً في قبضة الهكسوس.
ولعلَّ حالة الضياع تلك، على بساطتها، أثَّرت فيَّ كثيرًا، ليس من باب العتب على أمي المسكينة، التي شعرت بالهلع والخوف، حين لم تجدني بجانبها، وركضت في السوق تصرخ، وهي تبحث عني، تاركة البساط عند التاجر، ولكن من باب ذاتي ونفسي بحت، ولعل لحظة التيه هذه ظلت تلازمني، بل أشعر بنوع من المتعة فيها، أو الفقد حتى اليوم، هل هذا ممكن من باب سيكولوجي، ام أنه مبالغة مني؟
على العموم، يبدو أن امي فطنت إلى لحظة الهلع التي أصابتني، وظلت تشحذ همتي، وتقنعني بقدرتي على الذهاب وحدي إلى “الخليل”، وربما بعد مدة قصيرة، أقنعتني بقدرتي على حمل بعض الدجاجات البلديات، وبيعهن في المدينة، وكان لها ما أرادت، حيث حملت بعض الدجاجات، وركبت الباص، وبقيت ممسكاً بهن رغم خفقانأجنحتهن ونقيقهن العالي، والتفات الركاب نحوي، وشعوري بنوع من الخجل، حتى وصلت الكراج، فحملتهن سريعاً، إلى سوق الدواجين، وحين عرضتهن للبيع، سألني الدواج من أين أحضرتهن، فقلت من أمي، نظر للدجاجات وإلى ملابسي، واقتنع أنني لم أسرقهن، فقدر ثمنهن وناولني إياه، وعدت سريعاً إلى نفس الباص، ولما عدتً إلى البلد، ووصلتُ إلى أمي، ناولتها ثمن الدجاجات، وأنا أشعرُ بنوع من النصر.