Le tachisme .. التجريب الحركي التجريدي والموقف البصري التعبيري
يتوازى الفن في مصطلحاته ويختبر الفنان حضوره البصري فيمهد طريقه العابر لمعيقات المصطلح وينطلق بين جغرافيا المسطحات باحثا عن ذاته ليُكوّن التماس القوي والمتين الذي فتح منافذ التجريب على فضاءات التعبير، خصوصا بين أوروبا والولايات المتحدة الامريكية، حيث كان التجريب انعكاسا قويا لواقع تسارع وتمادى في تمرّده على القواعد والقوالب الفنية باعتبار التغيرات الجمالية والبصرية التي ميّزت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما بدا في فرض الرؤى التجريبية بين التجريد التعبيري الذي ظهر في التجربة التشكيلية الأمريكية منذ الأربعينات والتسريع اللوني أو التلطيخ حسب المصطلح Le tachisme الذي ظهر في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات من القرن الماضي في فرنسا، ليكون نتاجا للتفاعل المتوازي في الفن المؤثر أمريكيا على أوروبا والذي كان يتنافس في تكثيف الخبرات وتدعيم التجارب والتحرّر الداخلي من القوالب والتبادل البصري للثقافات المختلفة في العالم، خاصة وأن العديد من التشكيليين الامريكيين كانوا يتنقلون نحو أوروبا والشرق والعديد من نقاد الفن والفنانين الأوروبيين كانوا منبهرين بالولايات المتحدة الامريكية، وهو ما جعل تجاربهم تترك الأثر الفاعل بينها وبين التجارب الأخرى وبالخصوص التجربة الفنية التشكيلية الفرنسية حيث حملت التجربتان خصوصية كل رؤية بصمودها العميق أمام كل المتغيرات دون أن يتخلى أي منتم لكلتا التجربتين عن حضوره ودون أن ينفصل عن ذاتيته، وهنا نذكر المدى العميق والمؤثّر لحضور الفنان التشكيلي الأمريكي Sam Francis في باريس وتأثيره الواضح على الحركة التجريدية الفرنسية في تناولاته البصرية للحقول اللونية التي قادت لتجريب التجريد التعبيري والتجريد الغنائي وخلق أسلوب التاشيزم خاصة وأن التواصل البصري والمنافسة الحسية للألوان كانت تقع في تماس فني وجمالي بينه وبين الفنان الفرنسي من أصول ألمانية هانس هارتونغ Hans Hartung الذي يُقدّم باعتباره رائد من رواد التجريد الغنائي والتاشيزم خاصة بشكل تنوّع أكثر في توافقه التقني والتنفيذي للون، مع تميّزه بالعقلانية البصرية والتواصل العلمي مع اللون والتعامل حسابيا مع المسطّح ما جعل تجربته مٌختلفة وثرية في حساب الحركة والقدرة على التعامل الإيمائي بين اللون والحركة، إذ كان سعيه الحقيقي في فنه هو تحقيق التوازن بين العفوية والكمال في صميم جماليته التصويرية.
*Fred Martin
غير أن التساؤل عن التاشيزم وظهور الحركة يُحيل إلى عدّة تفاعلات تجريبية وبصرية وحركية لم تكتف بالعنصر الواحد بل جمعت الكثير لتكون وفق خصوصياتها الفرنسية واندفاعها الأبعد في توظيف الفعل والخامة والأداء والألوان سواء حسيا أو ذهنيا أو طبيعيا يبقى للحضور الأمريكي دور بارز في تفكيك جوانب الجرأة المتاحة للأداء والانفعال والتعبير حسب المستويات المختلفة والمتناسقة مع فلسفة كل تجربة وفنان.
في كتابه “فن آخرUn Art autre” الذي صدر في سنة 1952 أعاد الناقد الفرنسي “ميشال تابييه Michel Tapié” اعتماد مصطلح “تاشيزم” ليعبّر فيه عن الفن الموازي للتجريد التعبيري الأمريكي الذي كان قد انتشر بشكل ملفت مع جاكسون بولوك منذ 1946 خاصة وأنا تابييه كان قد عاد من جولة بصرية قادته لاكتشاف عالم الفن في نيويورك وسان فرانسيسكو والحيوية المتفاعلة بينهما في خلق وابتكار التصورات البصرية الجديدة للتجريد، وهو ما دفعه نحو تحديد الخصوصية التجريبية للتاشيزم كتجربة فرنسية ذات تأثرات بصرية تتشابه مع التجريد التعبيري وتتفرد أكثر حيث أشار تابييه إلى أن التأثر الفرنسي بالتجربة الأمريكية كان واضحا ولكن الاختلاف كان في التكنيك التعبيري باللون حيث كان الأسلوب الفرنسي أكثر غنائية والتداخل بين البقع الملونة لم يحمل القسوة والعنف والتصادم الذي كان في التصورات المختلفة للون والخطوط في التجريد التعبيري، ليعتبر أن المصطلح هو إشارة بصرية معقولة لذلك المدى الحاصل بين تجربتين ومنطقتين، حيث استوعب الفنانون التوليفات وانطلقوا عبرها في تجسيد تلك التناقضات الذهنية بين الكثافة والصدام وهي التي أثبتت تفرّدهم.
Hans Hofmann
ولشرح الأسلوب البصري الفني للتاشيزم فإنه يتميّز بكونه متمرّدا في الأداء على التكعيبية والتجريد الهندسي لأنه يٌفرغ ذات العمل من القوالب والأحجام ويتحرّر مع الفنان في ترك المساحات للون والخط والمسطح بتنفيذ رشرشات الألوان بتلقائية أو البقع التي تحدثها الفرشاة وتمرير التفاعل بينها وبين اللون والقماش بشكل صدامي يفرض للون حرية الحركة العمودية والأفقية وقد يتم إحداث تلك البقع أحيانا بالأوعية المثقوبة أو سكب الألوان مباشرة والانتصار لحركتها الفردية وتعبيريتها، مع فرض التواصل الحسي بين اللون والفكرة، ورغم أن فناني هذا الأسلوب يدّعون استقلاليتهم وتفرّدهم وبأن فنهم لا يشبه إلا ذاته، لا يمكن لمؤرخي الفن والمطلعين إنكار حركة التواصل الفني الأوروبي الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية.
Sam Francis
ولعل الحديث عن التمازج في أسلوب التاشيزم يحيل بالضرورة إلى تأثير خاص من الفنانين الأمريكيين Fred Martin- Sam Francisو Jack Head باعتبار ما حمله هذا التأثير من تجريب وابتكار، وخاصة تجربة سام فرانسيس الذي اعتبر تأثيره كبيرا على الأسلوب في فرنسا باعتبار أن تعلقه بالفن لم يكتف بذلك التواصل الطبيعي بل اقترن بالحسي والتعبيري والخيالي والفكري والفلسفي والإديولوجي والنفسي، وهو ما جعل منه أب التجريب اللوني ومبتكر الحركة الخاصة باللون ولذلك فإن تأثيره لم يكن على الأسلوب فحسب بل على الفنانين الذي خطوا أسماءهم بشكل رمزي في تاريخ الحركة التجريدية التعبيرية.
Left to right, Sam Francis, Jack Head, Fred Martin
in the Delta Epsilon Alumni Show
in the UC Berkeley Power House Art Gallery,
Spring 1949.
فقد كان الرسام الأمريكي سام فرانسيس من رواد الجيل الثاني من التعبيرية التجريدية، يعتبره العديد من النقاد أحد أكثر رسامي القرن العشرين إبداعًا في ابتكار حقول التلوين، وهو معروف بفنه التجريدي واسع النطاق، والذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمساحات اللونية وقدرتها على ابتداع لغة بصرية تسرد مع اللون العواطف المتداخل بحسب درجات انفعالها.
حصل فرانسيس على درجة الماجستير في الفنون الجميلة في جامعة كاليفورنيا (1950) ثم انتقل إلى باريس درس على يد الرسام التكعيبي الأسطوري فرناند ليجيه (1881–1955). ما أكسبه روحا منطلقة في التجريب قادته لخلق ميزة في لوحاته المبكرة عمّقت الفلسفة البصرية لفن اللاقالب وابتكرت خصوصيات فنية تمثّلت في أسلوب Tachisme فترك بصمته في أسلوب التاشيزم وانطلق منها باحثا عن منافذ اللون في اليابان ما عمّق رؤاه ببصريات شرقية فكان مبتكرا للون والخامة والأسلوب قام بإنتاج الألوان المائية والطباعة الحجرية وبعض الجداريات ليكون أحد أهم الرسامين التجريديين في أواخر القرن العشرين ، فنانًا نشأ في تقاليد الفن الحديث ولكنه ساهم أيضًا في فتح بوابات الفن المعاصر، استخدم كل فلسفات الاستيتيقا الشرقية والغربية لخلق لغته البصرية المتميزة.
يقول عنه صديقه الفنان والباحث في تاريخ الفن الحديث وزميله في تعميق رؤى التجريد بخصوصياته التعبيرية والغنائية والهندسية وأسلوب التاشيزم فريد مارتن “كان له الكثير من الحيوية البصرية والتسارع اللوني في أعماله التي تستثيره نحو الأعمق، كما له الكثير من الحضور الذي ساعده على التعلّم أولا ثم التجريب وبالتالي كان له دوره في خلق الميزة الفنية والجمالية لأسلوب التاشيزم التي انتشرت في فرنسا منذ أواخر الأربعينات واستمرت حتى الخمسينات لذلك يمكن اعتبارها الصدى العابر من الولايات المتحدة الامريكية والمتأجج في مطلع الخمسينات في فرنسا كأساس بصري جمالي تعمق أكثر في التجريب ووصل أبعد في العمق واللون والفكرة”.
David-teachout-
إن فريد مارتن وسام فرانسيس عملا معا كثنائي تشارك الفكرة والتطوير وتنافس على فك رموز اللون وفق منطلقاته الصدامية مع المساحة أولا ومع اللون الآخر بدرجاتها المتفاعلة تلقائية والمنسابة بصريا وهو ما تلاقى في الكثير من التفاصيل الفريدة مع أسلوب التاشيزم خاصة وأن لكلا الفنانين تعلّق حسي عميق بثقافات الفن الكلاسيكي في أوروبا فنون الشرق وفلسفته الجمالية المتناغمة حسيا مع الرؤى العقلانية وهو ما برع فيه أيضا التشكيلي جاك هيد خاصة أنهم أسّسوا لروح بحثية في عمق اللون وفلسفة الحقول اللونية التي نافست حكمتها مدرسة نيويورك وتفاعلت مع الأسلوب التنفيذي أكثر من الأداء، ليكون لها أثرها في التواصل البصري مع الحركة الفرنسية بالخصوص مع تسارع حركة النقد والكتابة والوساطة الفنية في العرض والاقتناء.
لا يمكن إنكار التسارع البصري الذي أثرت فيه المدرسة الأمريكية على تفاصيل الفن خلال الأربعينات وهو ما أثارته الجدارية التي تثبت الأصول الأولى “للتاشيزم” مع الثلاثي الأمريكي سام فرانسيس فريد مارتن وجاك هيد حيث يتم للآن الاحتفاظ بأول عمل بصري جداري ثلاثي في هذا الأسلوب بجامعة بيركلي أنجزت سنة 1949 لتكون بمثابة دليل تأريخي للأثر الأمريكي على الأسلوب وتطويره الأبعد.
*الأعمال المفرقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections