حملت عاشوراء قيمة فنية تعبيرية ورمزية اعتمدها الفنانون حتى تكون مُحفّزا لمواقفهم البصرية وتصوراتهم التشكيلية ولتقود رؤاهم الانسانية وتستدرج المفاهيم التي من خلالها خاض الانسان صراعاته مع الأزمنة والأزمات والتناحرات التي لم تنته من تاريخ البشرية المتعطش للدماء، وكأن الخلاص ليس إلا توافقات الجذب وتضحيات الحكمة بأرواحها المتناثرة في كل رمز وكل تلوين وهو ما قدمه التشكيليون عبر مراحل متقلّبة ومتداخلة من مسيرتهم الفنية حملت الرمز والعلامة وانتقلت عبرها لتستخلص عبرها ودلالاتها التي تقع على الحد الأدنى من حقيقة الإنسانية.
*حسين يونس
وليست عاشوراء تعبيرا وفنا وصياغة ومفهوم، مجرد انتماء لمذهب أو طائفة ولا انتصارا لجهة قابلة للتفريق والتصنيف والتمييز الذي يضع المنجز ضمن خانات الفن العاشورائي المتعارف عليه في الاحتفالات الشيعية ولكن التعبير الأساسي حمّل الكثير من الفنانين مجازات البحث عن تناقضات الانتماء للإنسان والإنسانية فبين نجاة موسى ومقتل الحسين تقع العلامة في التقابل المبني على معنى الفداء والدم ومعنى التصعيد البصري في رؤى المفاهيم المختلفة جماليا وتشكيليا.
*أحمد عبد الله
حمل التصوير المباشر للحدث عاشوراء رؤاه التي بناها التشكيليون على الحادثة ومن سياقها استخلصوا الواقع ومنه كان الدمج محكيا وفق فلسفة الجماليات المتصادمة مع تناقضات التاريخ والواقع والتراكيب المنفعلة والخطوط التي رغم تصاعدها كانت تحاول الهدوء وتهدئة المواقف لتكون أكثر نضجا وحكمة مع الحفاظ على الملامح والأفكار والعلامات المباشرة للتمازج البشري والتعايش الإنساني من حيث التراكيب الخاصة بالأعمال في رمزية المعركة أو في سرد الواقعة وتجسيد مداها المعنوي الخاص بكل انتماء دون المساس بالتصورات المختلفة لذلك الانتماء ومدى التشبع به وهو ما جعل من التعبير عن عاشوراء يحمل رمزية تماهت مع علاماتها عبر الجغرافيا، ما جعلها ميزة شرقية عبّر عنها المستشرقون في لوحاتهم من خلال سردها وتصوير احتفالاتها وإعادة التواترات بصريا حتى خلقت تواصلا ثقافيا وتراثا محمّلا بالكثير من النماذج الاحتفالية.
*أحمد الخطيب
وما قدّمه المستشرق غوردن غوتس عن عاشوراء من خلال الاحتفال الذي جسده في إحدى مناطق المغرب العربي في لوحته الشهيرة “عاشوراء” يعد من أبرز اللوحات الاستشراقية التي خاض فيها في الخصوصية التي ميزت اللحظة من الحشود الى التفاعل من خلال تشكيل اللون وتركيز الظلال بالتوازي مع النور المتواري بين التشبث بالحدث والانعتاق منه في تشديد على الحشد وانسياقه مركزا على الأمكنة ودلالاتها المعمارية وعلى الشخوص وتواترها في الفصل بين عالمي النساء والرجال.
إن الأيقونات والشخصيات والزخارف والعلامات التي تناسقت في سردية بصرية استطاعت بمرونة أن تكتمل مع المشهد وتقتلع منه عمق الواقعة مُستلة منه تفاصيله في تجسيد الرماح والسيوف، الخيول والعمائم الرايات وصداها، التراب والأرض لتعكس هُوية صراع انساني أبدي ودائم من أجل البقاء والثبات والبحث عن الحكمة الوجودية لأن التعامل البصري والتشكيلي في توظيف الحدث أيقونيا لم يأخذ جوانب الانتماء ولا تصارع الفكرة وبحثها عن الحق والأحقية بل نبش في تفاصيل تقع بين الموقف من الحدث والتعبير عنه من أجل إيجاد مساحة من ضوء للتعايش والسلام.
*أحمد عبد الله
فالرموز المعتمدة خرجت من حدود البكائيات والرثاء وطرقت أبواب التعبيرية والتجريد والخط والتشخيصية والمفاهيمية فكل فنان أراد أن يخلق لذاته منفذا في مساحات التعبير والفراغ من أجل أن يجد أجوبة لأسئلته فتلك الأحداث لم تجعل الدماء تكف ولا الصراعات تنتهي وبقيت الحروب واتسعت واتسع معها الفساد الذي داس الإنسانية بين نزاعين الأول مبني على البقاء للأقوى والآخر مبني على التضحية للأجدر بتلك الإنسانية من أجل النجاة من هذه المعاناة.
وهي الفلسفة البصرية التي أجاد أحمد عبد الله الارتحال عبرها بين مسارات الزمن وحضور الذاكرة في التشخيص للذكرى وفي التجسيد والتكامل مع القصة بتناقضاتها الحسية المتعاصفة واستشراف الحكمة الأبعد فيها.
فهو يعمل على تشكيل المشاعر ذهنيا وتحميلها عاطفيا لأكثر من صياغة أسلوبية ذات محتوى إنساني عميق وحقيقي في واقعيته الصارخة بالوجع والمعاناة التي تحمل دور البطولة للأسمى والأجدر بحمل رايات تلك الإنسانية دون أن يتجاوز القيمة الجمالية العالية للوحة على مستوى الخامة ليُنطق الفكرة واقعيا ويستدرجها نحو جماليات الفنون الكلاسيكية بكل مبادئها وقيمها وتشاكيلها الواسعة في التمعن والتعمق، في أقصى الحالات الشعورية للوقائع والمعارك، ما يحوّل المتلقي من مجرد مشاهد إلى مشارك فيها بل وموثّق للأحداث وكأنه يستحيل روحه ألوانا تتماثل عبر كل اتصال وكل حركة وكل تحوّل يتنقل بين الشعور والفكرة وتقابلها معه ومع التماس الذي يصنع من تلك التوليفات أيقونات ورموز بين كل تفصيل تاريخي موثّق من خلال رؤية تتوازن بين السرد المحكي والسرد البصري وتلك خصوصياته الفنية التي جعلته يستدرج الحكاية أبعد في معايشة مشاعرها الخالدة المتراكمة والمتصادمة والمتداخلة معا، ففي كل عمل يتجدّد ويحمل ذاته نحو مناطق أبعد في التعبير والسرد والكشف البصري عن عبقريته الحسية التي تساعده في توظيف المعاني من خلال اللون وتكامله مع عناصر اللوحة.
*معتز العمري
بدت الاعمال كثيفة المعاني كما ساقها أحمد الخطيب من خلال تبويب الإرث وترتيبه بصريا حسب الرؤية التي غاص فيها في عمق الأزمنة البعيدة والازمنة المؤطرة للحدث وكذلك الأمكنة وصداها المُنعكس على كل ظل يحاول أن يقتلع أسطورته من عتمتها ويستخلص من ذاكرته من أحاسيسها، وهو ما صاغه أيضا معتز العمري في عمله الذي حمل دهشة الانفعال وقسوة الاحتمال الأول للذود والتضحية فكأنه أراد القول إن الحياة لم تنته وكذلك الصراعات الدموية من خلال الخامات التي اعتمدها في اللون وفي توظيف الشاشة الحريرية.
*حسين يونس
أما حسين يونس فقد ارتكز على قيمة الخط والحرف لاستدراج المتلقي نحو التذكر والغوص مع اللون أبعد في الفكرة والموقف حيث لا مجال إلا للخطوط وانحناءاتها وهي تتقمص دورها في محاكاة الإنسانية بألوانها رغم علو اللون الأحمر دلالة على أن الدماء مستمرة والتضحيات كذلك من خلال العلامات المرئية المضيئة التي اندمجت جماليا لخدمة النص والمعنى التشكيلي.
*خولة الطفيلي
في عملها التشكيلي حملت خولة الطفيلي رؤية معاصرة وأداء منفرد جمع بين التجريب والأداء حيث جسّدت السواد الطافح والحزن الذي بات يسود لبنان بالخصوص والإنسانية عموما خاصة في تلك العين الباكية والمترقبة لأمل قادم قادر على انهاء الفساد والظلم وفي انعكاس ذلك على صورتها وكأنها تبحث هي أيضا عن الخلاص وترصده بترقب يحاول أن يعبر العتمة ويخترق السواد.
إن الموقف البصري التشكيلي من عاشوراء لم يكن ليكون بكل هذا العمق الفني لولا تنوع الأعمال والرؤى التي انتشلت الحدث من المباشرة والعنف حيث لم تخضع الرؤى المتلقي للصدمة بقدر ما اخضعته للتفكير في مصيره ومصير الإنسانية دون أن يقطع الأمل مع الحياة ودون أن ينسى اختلاف التضحيات وأن النجاة والسلام هي الهدف الباقي والمستمر.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections