في لحظة الإدراك الفني للمعنى البصري، يجد المشاهد نفسه في حالة تواطؤ أمام عمل مكّنه من استراق النظر لذاته بين كل تلك التراكمات المبنية على صراعات الواقع والانتماء فيتفاعل معها ويستمر في تفكيك مشاعره، بينما يُكرس الفنان نفسه لخلق جماليات قادرة على حمل اللوحة إلى أبعد مما كان يتوقّعه المشاهد بالترحال عبر فضاءاتها والانعتاق بصورها التي تستطلع الحالات ولا تستثيرها بل تلتقي مع اللغة البصرية التي انشغل على ترتيبها في السرد البصري.
وهو ما يتوافق مع الفلسفة البصرية التي يترنم على إيقاعها الحركي والحيوي والسيميائي التشكيلي السوري صلاح السايس من خلال أسلوبه التعبيري الذي حمل تصورات مستحدثة وبلاغة رمزية وعلامات لها مقاصدها المعلنة ومفاهيمها المختلطة التي تقف خلف الدلالات اللونية والتقنية وعناصر اللوحة التي تتناغم وتتصارع وتتجادل وتتشابك بين الفراغ والحجم والشكل والشخوص والألوان والخطوط التي تتقمّص أدوارها وتعلي حركتها الحوارية التي تمكّن العلامة البصرية من قول موقفه وسرده دون قيود حسية بل بتداخلات لونية تعرف مساحاتها وتدرك مواقعها وتستدرج ذاكرتها من خلال الأمكنة والأمنة التي تعالج حالاتها واقعها بتعبيرية تفرط في خلق ترابط معنوي بين كل مكونات اللوحة وتفاصيلها المحكية والمستنبطة من القراءات.
إن التعبيرية التي يخوض في مغامراتها صلاح السايس لها تجلياتها التي مكنته من اتباع حدسه وحواسه ومواقفه وتشكيل أسلوبه ليكون مختلفا من خلال التفاعل مع شخوصه وحكاياتها التي تظهر سواء في اختيار اللون أو في تجسيد تلك الشخوص وأحجامها أوفي ترتيب المساحة بصخب أو بصمت بين العلامة والإيماء.
فمساحات الصمت في الألوان الباردة التي يعتمدها للتعبير تؤثر على المتلقي كما تحتمل كل مستويات المفاهيم في اللوحة وكأنها تتجاوز ذلك البرود الباهت إلى عمق داكن يتحمّل أكثر من تأويل وأعمق من انتظار تعبيري، إنها المساحة تلك التي تحمل علاماتها البصرية في الخطوط وفي الموازين الثقيلة والخفيفة التي تحاكي ثقة الوجود وثبات الإحساس دون الإفراط في الحساسية.
تبدو اللوحة التي يقدمها السايس مبتكرة على مستوى التعبيرية والرموز بشكل له توافقاته الجمالية التي تتفاعل دراميا مع الشخوص والعلاقات التي تميزها معا من حيث الخصوصية الانسانية والانفتاح على المسطّح والانعتاق نحو التعبير باللغة التشكيلية التي تجعله يمتدّ بحريّة نحوها.
فالخصوصيات التي تقابله في التوافق التلقائي بينها تحاكي اللوحة بأكثر من حاسة وتتواصل معها وبينها حسب أفكارها الفردية والجماعية وانتمائها للواقع بين انكساراته وانتصاراته، من خلال الأزمنة المتلونة التي يرسمها ويحيطها بها في المساحة وكأنه بدوره يُفرط في تمرده على قيود الأزمنة من خلال الأشكال والمساحات اللونية التي تحاكي بعضها البعض في تناقضاتها بين الألوان الباردة والحارة.
يتراءى اللون في تصورات السايس التعبيرية قويا ومبالغا له قدرة محاكاة الحالات والأزمنة والذاكرة ما يجعل له مرونة تطويعية للمعنى ودورا في توظيف المواقف التي تظهر في شخوصه التي يعايش حالاتها وحضورها في مجتمعه وعلاقة المرأة بالرجل وعلاقتهما المنفردة وتواصلهما واتصالهما مع الواقع والانتماء دون أن يحدّد لهما هوية خاصة ولكنه لا يخفي توافقات العلاقة وتضادها المعلن عن حالات من الترقب والانتظار والقلق فيكشف بخبرته التقنية عن توتراتها ومشاعرها بين حزنها وحيرتها وشغفها الطافح على امتداد تدرجات تلك الألوان وانعكاساتها وتداخلها، فهو يحرّرها من نمطية التأويل والتفسير فيكوّن لها قراءات خاصة ميّزت أسلوبه.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections