تستدرج صوره المُتلقي أبعد وتستفز تفاصيل أعماله الواقعية والتجريبية الذهن لينفعل ويتفاعل ويتقمص الملامح المكبوتة في صراعها مع الوجود القلق فيتكامل مع المشهد بكل خصوصياته العراقية بما تحمل من تاريخ وحضارة وواقع استفز لحظات المعاناة المباشرة والمخفية الجماعية والفردية، وكأنه يُعيد إحياء المجد اللوني المُنطلق في تعابيره للفن التشكيلي العراقي بنفاذ أبعد في المفاهيم.
هي الرحلة التي تستنطق اللغة البصرية في حروف الخيال ليصف وينفعل ويفعّل صورا عميقة ومُنجزا فنيا جديرا بالبحث والغوص هو التجريب الفاعل بعمق يتجلى في تجربة الفنان التشكيلي العراقي ثائر العرداوي.
منذ التواصل الأول معه يعطيك انطباعا حقيّ التفاعل في البحث والتطوير والنضج والاهتمام بالفن من عدة جوانب قادرة على خلق الاستثناء في أعماله من حيث المحاكاة بين الخصوصية الشرقية والجرأة التعبيرية الغربية بتفصيل صدمتها المفككة للعمق النفسي، فهو يعتبر أن الفن في أساسه تفاعل واقعي تنتجه المحاكاة البصرية مع المشاهد اليومية وهو بدرجاته التفاعلية تلك قادر على التماهي الروحاني في التعامل مع الأشياء المُختلفة والأحاسيس المُختلطة فيكوّن الصورة الذهنية التي تولّد عصفا وتصادما في كل تلك الأفكار والأحاسيس لتعيد صياغة المواقف من الواقع وهنا يدخل الخيال ليمارس دوره في انتشال الأمل من ثنايا التيه حتى يكون العمل الفني مصحوبا بنوع من الابتكار الجمالي والعبقرية الفكرية التي تجعله أكثر توثيقا للحظة المؤثرة وأكثر استنطاقا للصدمة الذهنية، والتي يراها نتيجة “فالوقوف أمام أكثر المشاهد صدمة له تأثير في نفس الفنان والمتلقي لأن العمل الفني يؤثر بالفنان نفسه قبل المتلقي كما قال الفنان الاسباني بيكاسو، على الرسام أن يرسم لكي ينجو، وبالتالي يستدرجه الإحساس أو الصدمة إلى الابتكار ويمكنه من أن يستخدم أدواته الفنية المتمثلة في عناصر العمل الفني لخلق الصورة البصرية لدى المتلقي وخاصة عنصر التوازن الذي يكون إما عن طريق الخط أو الشكل أو اللون أو الكتلة، إذا كان لدينا لون يدل على الغموض والضبابية فإننا نحتاج إلى لون آخر يوازن ذلك اللون حتى يدل على الأمل والتفاؤل في نفس الوقت.”
وهنا يُعتبر العرداوي بارعا في تكثيف الدلالات واستفزاز العلامات من خلال التماهي مع العناصر التي تكوّن العمل في تماس الفراغ وعمقه وتنفيذ الخطوط والإضافات المباشرة للأمكنة والشخوص والأزمنة أو العلامات الرمزية التي تعطي المتلقي مساحة للفهم والتفاهم الأليف مع العمل، وعنها يقول
“الدلالات البصرية تتجلى في الشكل والخط الخارجي لها وكذلك في الفضاء، حيث أن لها دورا أساسيا في دعمها لتكثيف المعنى، فقد يتجلى الشكل في معالجة الفضاء من الناحية الفنية كما في الهيئة ومن الناحية الزمنية فتكون لدينا علامات زمنية للماضي ودلالات زمنية للمستقبل باعتبار أن الصور المرئية تعبر عن حركة ديناميكية تحتاج الى زمن بالنسبة للعمل الفني وزمن مستغرق في التذوق بالنسبة للمتلقي أي أن الفاصل الأساسي في كون الصورة المرئية ذات دلالة تعبيرية أو غير تعبيرية هو معالجة الفراغ، فالفراغ لا يمنح أي دلالة تعبيرية مرئية الا في حالة إضافة عنصر لهذا الفراغ حتى لو كان هذا العنصر مجرد نقطة فإنها بذلك تضيف دلالة تعبيرية قد تُحرك هذا الفضاء أو تكون نقطة ارتكاز ومصدر شد يحاكي خيال المتلقي”.
في أعماله يهتم العرداوي للإنسان في المكان فيتراءى لنا الانتماء والانعكاس والتمازج حيث أن التوافق الحسي والذهني بين الفنان ومُنجزه والمتلقي وفهمه أسّس لديه محاورات داخلية وحكايات مختلفة توافقت مع الأطر في أساسياتها الفنية والجمالية من حيث الحضور والتماهي لبلورتها وتركيزها وكأنها بدورها تحمله إلى عوالم من إثارة وغموض فللمكان في تعابيره ذاكرة وهي لم تتكوّن من الفراغ ولا من التراكم لأنها تآلفت مع كل ما يعيشه الانسان وما عاشه شخصيا وما يعايشه من أحداث ومواقف تُخزّنها الذاكرة ويستذكرها الانسان فكل حدث يتحوّل بدوره إلى تاريخ يُحكى وأحاسيس تمزج الذكرى بالحنين أو بالصدمة، فهذه الذاكرة كما يقول عنها العرداوي “ليست جامدة بل مخزنة لأنها شاهد على كل الأحداث والمواقف ولا يمكن تناسيها لأنها جزء من حياة الإنسان فهي تلازمه منذ الطفولة وتكبر حسيا ومعنويا مع مراحل حياته، فيمكن تجسيد الأمكنة ارتكازا على الذاكرة، فذاكرة المكان يتمّ ترسيخها بصريا عن طريق العناصر الفنية والخامات مثل اللون والشكل وبالتالي ترتقي نحو الأسلوب لتحاكي المقاصد تعبيريا أو تجريديا فاللون الأزرق مثلا يعطي تصورا بصريا للذاكرة الطفولة والشكل سواء بالعلامة أو الدلالة يُعطي تصورا بصريا حيث أن هذا الشكل قد يقترن بمكان معين فتكون لدينا صورة فنية بصرية مفهومية عن ذلك المكان.”
تتكامل تجربة ثائر العرداوي مع الفن في علاقته مع منجزه وواقعه مع البحث في العمق المفهومي ودلالاته وعلاماته التعبيرية لذلك فهو يخوض في التجريب بالشكل الذي يمكّنه من اكساب العمل حيوية وتناسقا حسيا يماهي بينه وبين مواقفه من كل معايشاته فهو يتستثير مع الفن الحياة ويستنطق بها الأمل ويعلي من قيمة فنه في التعبير عن معاشه وينتصر به أبعد في التعبير الداخلي عن ذاته وحكمة الحياة على أنقاض التصادم فيُشرق من ركام العتمة في وطنه أو في كل العالم، حيث لا يتجاوز فكرة إلا وانتشلها من فراغها ليعمّقها في التعبير لأن للفن عمقه التعبيري، فالفن كما يقول “هو وسيلة للتعبير ويحتاج التميّز فيه إلى التجريب، وقد يكون لهذه التجارب بداية وليس لها نهاية أثناء ممارسة العمل الفني، لأن عالم الفن متغير في تشكّله وتفاعله بكثافة مع حياة الانسان ونظرته للوجود لذلك تحتاج هذه التجارب إلى أدوات ووسائل مثل الخامات والألوان وهي وسائل يستخدمها الفنان، ولكي أجعل هذه الخامات تحقق الغاية الجمالية فأنا أوظفها بما يخدم العمل الفني والفكرة الفنية فتوظيف الخامة التي تعطي العمل الفني دلالة تعبيرية حزينة أو قاسية ليس كتوظيف الخامة في العمل الذي يعطي دلالة عن الأمل والأمان، كذلك عنصر اللون أيضا فلكل لون دلالة تعبيرية مثل الأسود الذي يعطي دلالة عن الغموض أو ضبابية المشهد أو الازرق الذي يعطي دلالة عن الحرمان كما أن هناك ألوان تعطي دلالة عن ذاكرة معينه مثل الالوان الهادئة ذات الطابع الهارموني التي تعبر عن الماضي أو السكينة وهي بذلك تمنح الإنسان الطمأنينة في الوصول إلى أمانه.”
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections