عام على الحراك اللبناني.. فهل ينقذ البلاد ويُسقط نظاماً عمره 100 عام أم يتحول لأداة بيد الغرب؟
بعد عام من تحرّكات شعبية غير مسبوقة، خرج خلالها لبنانيون غاضبون إلى الشوارع مطالبين برحيل الطبقة السياسية، تراجعت اليوم حماسة النشطاء مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والسياسية في البلاد، فما هو مصير الحراك اللبناني بعد عام على انطلاقه؟ وهل ينجح في إسقاط نظام سياسي عمره 100 عام؟
في 17 أكتوبر 2019، خرج مئات آلاف اللبنانيين إلى شوارع بيروت والجنوب والشمال والبقاع، ضاربين عرض الحائط الانتماءات الطائفية والحزبية وغير آبهين بزعيم أو قيادي. رفع المتظاهرون صوتهم عالياً في وجه الطبقة السياسية مجتمعة، وطالبوا برحيلها متهمين إياها بالفساد وعدم المبالاة وحمّلوها مسؤولية تردي الوضع الاقتصادي وضيق الأحوال المعيشية.
خلال سنة واحدة، أُسقطت حكومتان وكُسرت محرّمات وتحققت انتصارات نقابية ومبادرات مدنية، ولكن الوضع الاقتصادي ازداد سوءاً وما زال النظام السياسي متمسكاً بالسلطة الفعلية رغم أن البلاد على شفا الانهيار.
دفعت التظاهرات حكومة سعد الحريري إلى الاستقالة، قبل أن تتراجع وتيرتها مع تشكيل حكومة جديدة مطلع العام ضمّت اختصاصيين سمّتهم أحزاب ضمن تيار ٨ آذار الذي يقوده حزب الله من دون أن تنجح في تحقيق تطلعاتهم، فقدّمت استقالتها بعد انفجار المرفأ المروّع في 4 أغسطس 2020.
وساهمت عوامل أخرى في تراجع الحراك الشعبي وغيابه تماماً، من انتشار فيروس كورونا المستجد إلى قمع القوى الأمنية لتحركات عدة تخللتها أعمال شغب، ثم انهماك اللبنانيين في تأمين لقمة العيش واستحصال أموالهم من المصارف أمام الانهيار الاقتصادي المتسارع في البلاد.
قد تكون حماسة الشارع تلاشت لكن كلمة “ثورة” أو “انتفاضة” لم تغب عن ألسنة الكثيرين وباتت شعاراً لكل مَن يسعى نحو التغيير. ويؤكد ناشطون أنهم لن يتراجعوا عن سعيهم من أجل بلد أفضل وإن كانت الأزمات تتراكم وآخرها انفجار المرفأ.
مصير الحراك اللبناني بعد عام على انطلاقه
ومع أن التظاهرات توقفت، إلا أن نتائجها مستمرة.
إذ يخشى سياسيون كثر من وزراء ونواب اليوم التواجد في الأماكن العامة، كالأسواق والمطاعم، بعد اعتراض متظاهرين عدد منهم وإطلاق هتافات مناوئة لهم دفعتهم غالباً إلى مغادرة الأماكن التي كانوا يتواجدون بها.
ويقول الباحث وأستاذ العلوم السياسية في باريس زياد ماجد لوكالة فرانس برس: “يخشى السياسيون أن يتم استهدافهم من المتظاهرين، فاختفوا.. يخشون أن يتم ربط أسمائهم بالفساد”.
وبعد انفجار المرفأ، الذي أودى بحياة أكثر من 200 شخص، لم يجرؤ أي مسؤول رفيع المستوى على تفقد الأضرار خشية من ردّ فعل الأهالي. وتعرّض وزيران على الأقلّ للطرد من قبل محتجين.
وحين تعهّد المجتمع الدولي خلال مؤتمر نظمته فرنسا بتوفير مساعدات للبنان بعد الانفجار، قرر تقديمها مباشرة إلى الشعب اللبناني عبر منظمات المجتمع المدني من دون المرور بالمؤسسات الرسمية التي يتهمها المتظاهرون بالفساد.
محرمات ونقابات
وكسر الحراك الشعبي أيضاً حواجز عدة بعدم استثنائه منطقة أو طائفة أو زعيماً، خصوصاً بعدما طالت الهتافات حزب الله وأمينه العام حسن نصرالله، في مشهد لطالما اعتُبر من “المحرّمات”.
وتشدد مديرة المجلس العالمي لثورة الأرز، المحامية ريجينا قنطرة، على ضرورة أن يكون القرار الدولي 1559 الصادر عن مجلس الأمن منذ 2 سبتمبر/أيلول 2004 مدخلاً أساسياً للثورة، تحصيناً لسيادة واستقلال لبنان السياسي داخل حدوده المعترف بها دولياً.
ورأت أن تطبيق القرارات الدولية سيعيد لبنان إلى الحاضنة الدولية، حيث ينال دعم المجموعة الدولية لإنقاذه من الانهيار الاقتصادي الناتج عن سيطرة “حزب الله” وتحويل لبنان إلى جزيرة معزولة عن محيطه العربي والدولي، مشيرةً إلى أن الانطلاقة المتجددة للثورة ستحمل عناوين سياسية جريئة إلى جانب المطالب الاجتماعية والاقتصادية باعتبار أن الإصلاح الاقتصادي يمر عبر انتظام العملية السياسية.
في المقابل، يعتبر “حزب الله”، وحلفاؤه أن “الذين يدّعون أنهم ثوار ليسوا سوى أدوات خارجية تستهدف ضرب الاستقرار الداخلي”، ويزعمون أن انهيار سعر صرف الدولار بدأ بما سُمي انتفاضة نوفمبر الماضي، وأنه بعدما اتخذت الحكومة سلسلة إجراءات لاستيعاب الانهيار والسيطرة عليه وبعد الشروع بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، “تعود بعض الأبواق لتدمير لبنان تحت شعار الثورة”.
وطالت رياح التغيير الانتخابات النقابية والطلابية، فاعتبر انتخاب ملحم خلف، القريب من المتظاهرين والناشط منذ عقود في المجتمع المدني نقيباً لمحامي بيروت “انتصاراً” لطالبي التغيير.
وحقّق ناشطون مستقلون اختراقات في الانتخابات الطلابية في جامعات عدة. وأطلق الحراك مبادرات مدنية عدة ومنح دفعاً لمبادرات أخرى بينها منصة “ميغافون” الإعلامية التي انطلقت عام 2017.
ويقول أحد مؤسسي المنصة جوناثان داغر إنها تهدف إلى نقل مطالب الشارع بعيداً عن “الخطاب المهيمن” على الإعلام المحلي، في غياب وسائل إعلام “مستقلة” بشكل كامل، كون غالبيتها موالية لطرف سياسي ما أو على الأقل مؤيدة لخط سياسي ما.
وخلال عام، أقرّ مجلس النواب قانونين لمكافحة الفساد، في محاولة من الأحزاب السياسية لتهدئة الشارع من جهة وإرضاء المجتمع الدولي الذي يطالب لبنان بإجراء إصلاحات ضرورية للحصول على دعم مالي يخرجه من دوامة الانهيار الاقتصادي.
ويقول القانوني والنائب السابق غسان مخبير لوكالة فرانس برس إن “الحراك الشعبي والضغط الدولي سرّعا الأمر”.
ويعتبر ناشطون أنهم حققوا إنجازاً بعدما قرر البنك الدولي وقف تمويل مشروع بناء سد بسري جنوب بيروت، الذي عارضه ناشطون بيئيون ومجموعات مدنية ضاعفت تحرّكها خلال فترة الاحتجاجات.
ماكرون والمجتمع المدني
ويلاحظ تركيز الرئيس الفرنسي في محاولاته لإنقاذ الوضع في لبنان، على المجتمع المدني.
فقد قال ماكرون خلال زيارته للبنان إن وجوده فى العاصمة بيروت للتأكد من وصول المساعدات لمكانها الصحيح، وإلى الأشخاص المناسبين، مشيراً إلى أن الجهود الفرنسية مع المجتمع المدني اللبناني أنجزت عملاً استثنائياً في أقل من شهر.
وسبق أن قال ماكرون في تغريدة عبر حسابه الرسمي بتويتر: “في بيروت لأتحقّق من وصول المساعدات الطارئة إلى مكانها الصحيح وإلى الأشخاص المناسبين، وفي المرفأ، تتجلّى ثمرة ما بذلناه من جهود. ففي أقل من شهر، أنجزت فرقنا بمعيّة المجتمع المدني اللبناني عملاً استثنائياً. فكل التحيّة لهم”.
وتؤكد مبادرة ماكرون ضرورة تطعيم حكومة الإجماع الوطني المبتغاة بعناصر وزارية من أصحاب الاختصاص ينتمون إلى المجتمع المدني الفاعل، وهم الذين أثبتوا منذ اندلاع انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول أنهم قادرون على لعب دور جدي في إنقاذ لبنان، حسب رؤية الرئيس الفرنسي.
“تحول تاريخي”
وبثّ الحراك زخماً في نقاش قضايا عدة من العلمانية إلى حق المرأة في منح جنسيتها لأولادها ودعم الفئات المهمّشة، وهو ما يعتبره ماجد “بداية تغيير في الذهنية”.
وشكلت التظاهرات، وفق ما تشرح أستاذة التاريخ والعلوم السياسية كارلا إده لوكالة فرانس برس، “تحولاً تاريخياً بالتأكيد” في لبنان، لكنه “لا يزال من المبكر الحديث عن مرحلة تأسيسية”.
ولعلّ المثال الأكثر وضوحاً هو أن الطبقة السياسية، التي يطالب المتظاهرون منذ عام برحيلها واستبدالها بحكومة اختصاصيين مستقلة تماماً، لا تزال تتحكم بالحياة السياسية، تتقاسم الحصص في ما بينها وتحدد شكل الحكومات وأعضاءها.
وتوضح إده أن الحركات الثورية “تحتاج لوقت بشكل عام” لتحقيق التغيير “إلا أن الوقت وحده لا يكفي”.
وترى أن الحركات التي نجحت في “هيكلة” نفسها تمكّنت من تحقيق تغيير، فيما “تغيب القيادة” عن الحراك اللبناني الذي يقوم على مجموعات مختلفة تتباين وجهات نظرها أحياناً.
ولم تثمر المحاولات المستمرة لإنشاء تحالف سياسي واسع يشمل العدد الأكبر من المجموعات، وفق ناشطين.
ويقول داغر: “إنها عملية تحتاج وقتاً”.
ويضيف: “لا نتوقع أن ينهار نظام معقد بهذا الشكل بين ليلة وضحاها.. نعرف جيداً حجم الوحش الذي نجابهه”.
إشكاليات أمام الحراك
ولكن تجارب الحراك السابقة غير مبشرة في مواجهة نظام طائفي عميق ومتجذر في البيئة الاجتماعية والسياسية للبلاد.
فقدت شهدت أزمة النفايات عام 2015 حراكاً واسع النطاق وحققت قائمة مدعومة من المجتمع المدني نتائج لافتة في الانتخابات البلدية في بيروت 2016 حتى لو لم تفز، ولكن في الانتخابات النيابية لم يحصل أعضاء الحراك على مقاعد تذكر.
فحتى الآن ما زال الحراك يقتصر على دور الرفض والثورة، ولكن ترجمة نشاطه في صورة دور سياسي عبر القنوات الطبيعية يبدو صعباً في ضوء تجذر القوى الطائفية وتعددها.
فعلى المستوى الوطني يسهل تبني شعارات إصلاحية ثورية ضد النخب يمكن رفعها وسط بيروت، حيث تتركز تظاهرات الحراك وأنشطته، ولكن على المستوى المحلي والطائفي، الثورة على الزعيم هي خيانة للطائفة، خاصة أن كل زعيم يتبرأ من الكارثة التي حلت بالبلاد.
كما أن الحراك نفسه يفتقد لقيادة ومنقسم بين اليساريين الذين تبدو أجندتهم في السياسة الخارجية تحديداً ليست بعيدة عن حزب الله والليبراليين المفضلين للغرب.
وهذه النقطة -أي إعلاء الحراك من قبل الغرب التي يبدو أن مبادرة ماكرون تسعى إليها- تضعف الحراك ولا تقويه، فمحاولة دعم الحراك من قبل الغرب كما يبدو من توجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ستجعله مجرد طرف جديد في الساحة اللبنانية يتلقى دعماً خارجياً مع افتقاده الجذور المحلية التي تميز القوى الطائفية.
ولكن يبقى للحراك نقاط قوة أبرزها قدرته المحتملة على تحقيق اختراق وليس فوز في أي انتخابات برلمانية تكون فيه الدوائر واسعة عابرة للطوائف أو جعل لبنان كله دائرة واحدة وخاصة في ظل سخط اللبنانيين على أوضاعهم المزرية.
أيضاً هنالك نقطة مستقبلية في صالح الحراك هي تأييد الشباب له مع ضعف تواجدهم في الأحزاب الطائفية التقليدية أو تمثيلهم بشكل غير فاعل بل كمجرد بيادق في هذه الأحزاب.