ماكرون عانق الناس في الشوارع.. لماذا ترى فرنسا نفسها “الأب الروحي” للبنان؟
بعد 48 ساعة على انفجار بيروت الكارثي، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في شوارع بيروت يعانق الناس ويطمئنهم: “لبنان ليس وحيداً”، ثم قال في مؤتمره الصحفي وباللغة العربية: “أحبك يا لبنان”، في حين لاقاه الشعب اللبناني بعريضة على الإنترنت وصل عدد موقعيها إلى 60 ألفاً، مطالبين بعودة الانتداب الفرنسي.
ما سر هذه المسارعة الفرنسية لزيارة لبنان المكلوم بانفجار بيروت؟ وما تاريخ العلاقة الخاصة بين البلدين؟
تاريخ العلاقات اللبنانية الفرنسية
يعود تاريخ العلاقات اللبنانية الفرنسية لأكثر من 4 قرون إلى الوراء.
ترتبط فرنسا ولبنان بعلاقات وثيقة تعود إلى القرن الـ16 حين تم التوصل إلى اتفاق بين الملك فرنسوا الأول والسلطان العثماني سليمان القانوني، وضع مسيحيي الشرق تحت حماية فرنسا.
كان السلطان سليمان القانوني يتمتع بعلاقة جيدة مع ملك فرنسا، بل كان يشعر بنوعٍ من الوصاية على فرنسا التي استنجد ملكها بالعثمانيين لحمايته من هجمات الإسبان.
ومنذ ذلك الحين تدعم فرنسا المسيحيين في لبنان، وتحديداً أبناء الطائفة المارونية الكاثوليكية باعتبارهم أقلية في المنطقة العربية.
ولم تكتفِ فرنسا بالدعم المعنوي والمادي، بل تدخلت عسكرياً عندما شعرت بحاجة إلى أن يكون لها موطأ قدم في الشرق.
أنشأت نظام المتصرفية في جبل لبنان
ففي العام 1861، تدخلت عسكرياً في الحرب الأهلية اللبنانية الأولى التي أسفرت عن قيام نظام متصرفيّة جبل لبنان أو نواة الدولة اللبنانية المعاصرة، والذي تم تعيين حاكم مسيحي بموجبه، رغم أن لبنان كان حينها جزءاً من الدولة العثمانية.
ثم في العام 1920 وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى، طلبت عصبة الأمم إدارة لبنان من قِبل فرنسا بعد تقسيم الإمبراطورية العثمانية، تحت عنوان الانتداب الفرنسي، وتمت إدارته من دمشق وفرنسا، لتصبح من بعدها هناك دولتان: لبنان وسوريا بحدودها الحالية.
ثم أنشأت دولة لبنان الكبير وعززت تقسيماته الطائفية
وفي 31 أغسطس/آب عام 1920، أعلن المندوب السامي الفرنسي في سوريا ولبنان الجنرال هنري جورو، نشوء دولة لبنان الكبير، التي ضمت المنطقة الساحلية ووادي البقاع، بأغلبيتهما السكانية الإسلامية، إلى جبل لبنان، الذي يهيمن عليه المسيحيون الموارنة، بنزعاته الاستقلالية، وروابطه الوثيقة بالغرب.
أدى إنشاء دولة لبنان الكبير إلى انقسام اجتماعي عميق غذَّى الطائفية وبثَّ روح الفرقة بين المسيحيين والمسلمين، بسبب تقسيم المناصب وفق الطوائف.
كما كانت المناطقية عنصراً آخر، عاق اندماج السكان المختلفين في بوتقة واحدة: الموارنة في شمال لبنان ووسطه، والدروز في شرقه وجنوبه، في حاصبيّا وراشيّا، والشيعة في صور وجبل عامل وشمال سهل البقاع ووسطه، والسُّنة في المدن الساحلية الرئيسية وسهل عكار، والروم الأرثوذكس في الكورة وبيروت وطرابلس، والروم الكاثوليك في جنوب البلاد وزحلة. وتَوزَّعت بيروت، المركز السياسي والاقتصادي للبلاد، بين الطوائف كافة، بأعداد متساوية.
واجه الفرنسيون مصاعب كبيرة، أثناء محاولتهم وضع نظام، سياسي وإداري، للبنان؛ إذ إن الهوّة بين المسيحيين والمسلمين، كانت واسعة، وكلٌّ منهما كان مقسماً إلى مذاهب مختلفة، يحاول كلٌّ منها تحقيق مصالحه على حساب مصالح الفئات الأخرى. وكل مذهب، كان منقسماً على نفسه، تبعاً لمصالح عائلية، وشخصية.
بيد أن هذه الصعوبات لم تحُل دون نجاح الفرنسيين واللبنانيين أنفسهم، خلال عام 1920، في إرساء نظام سياسي وإداري استطاع على ثغراته، البقاء أكثر من نصف قرن.
أما المسلمون، الذين رفضوا منذ البداية التعاون مع الانتداب، فاستغلّوا عيوب النظام السياسي وتعزيزه للانقسامات الطائفية والمناطقية، ونادوا بالانفصال عن لبنان.
ولم تقتصر التفرقة على المسيحيين والمسلمين، بل تعدّتهما إلى المسيحيين أنفسهم، فالروم الأرثوذكس امتعضوا من العناية الخاصة التي أظهرها الفرنسيون نحو الموارنة الكاثوليك، وأحجموا عن إظهار الولاء الكامل لدولة كان الموارنة فيها العنصر المسيطر.
الولاء للطائفة أولاً ثم الوطن
هذه السياسة كانت استكمالاً لسياسة المدارس والإرساليات التبشيرية المسيحية التي جعلت الولاء أولاً للطائفة ثم للوطن، وكان تلاميذ تلك المدارس يتقدمون لنيل الشهادات الأجنبية لا اللبنانية، بأغلبية مسيحية ضمن الطلاب.
قُدِّر عدد تلك المدارس التي أسست لأجيال تدين بالولاء للفرانكفونية بنحو 650 مدرسة عام 1900، موزعة كما يلي: 120 مدرسة إسلامية، ومدرسة واحدة درزية، والبقية مدارس مسيحية (مارونيةـ أرثوذكسيةـ ملكيةـ بروتستانتية).
من الجدير ذكره أن الفرانكفونية هي رابطة تضم الدول والشعوب التي تتحدث الفرنسية كلغة رسمية أو حتى لغة إضافية (تونس، والمغرب، والجزائر وغيرها)، وقد ظهر هذا المصطلح لأول مرة في القرن التاسع عشر.
فرنسا تعترف باستقلال لبنان
ثم انتهى الانتداب رسمياً عام 1943 دون وجود ذكريات دموية وسيئة لدى اللبنانيين، فاعترفت فرنسا باستقلال لبنان وأجلت قواتها العسكرية.
بعد ذلك، أصبح الانتداب ثقافياً أكثر منه سياسياً، وبقيت فرنسا حاضرة في المشهد السياسي اللبناني، تتابع من كثبٍ كلَّ ما يدور في ساحة هذا البلد الصغير بمساحته والمتعدد بطوائفه، باعتباره بلداً فرانكفونياً.
ومنذ ذلك التاريخ، سعت فرنسا على الدوام إلى جعل لبنان، الدولة المتعددة الأديان التي تعتمد نظام حكم طائفياً، نقطة ارتكاز لنفوذها في الشرق الأوسط.
ولعل ما يساعدها على لعب هذا الدور هو فتحها قنوات للحوار مع جميع الأطراف اللبنانية والطوائف، عكس سياسة دول أخرى مثل أمريكا وبريطانيا وألمانيا.
الحرب اللبنانية الأهلية الثانية
تجلَّى الدور الفرنسي واضحاً في العام 1958، عندما تدخلت فرنسا من جديد في الحرب الأهلية الثانية بين المسيحيين المارونيين من جهة والمسلمين من جهة أخرى، ورغم أنها لم تتدخل عسكرياً، فإنها كانت تدعم فريقاً من اللبنانيين.
وقتها رفض الرئيس اللبناني كميل شمعون الموالي للغرب، قطع العلاقات مع الدول الغربية التي هاجمت مصر أيام العدوان الثلاثي، بينما كان النظام الناصري يدعم رئيس الوزراء المسلم السُّني آنذاك رشيد كرامي الداعم للقومية العربية، فاندلعت اشتباكات بين الطرفين، فدعمت فرنسا التيار المسيحي الموالي للغرب.
الحرب الأهلية الثالثة
لم يمر 20 عاماً حتى اندلعت الحرب الأهلية الثالثة عام 1975 والتي استمرت 15 عاماً.
حاولت فرنسا التدخل، لكن الأمر انتهى بقتل سفيرها لوي دولامار عام 1981، إلى جانب عشرات الجنود في صبيحة يوم الأحد 23 أكتوبر/تشرين الأول 1983، عندما تعرّض مبنى “دراكار” في بيروت لتفجير نجم عنه مقتل 58 مظلياً فرنسياً وعائلة حارس المبنى اللبناني.
وبعدما نقلت ببوارجها المقاوَمة الفلسطينية الموجودة في بيروت إلى منافيها، تضاءل التدخل الفرنسي في الحرب واكتفى بمنح اللجوء لقائد الجيش السابق العماد ميشال عون.
دعم اقتصادي لإعادة الإعمار
بعد انتهاء الحرب الأهلية ووصول الرئيس الراحل رفيق الحريري إلى منصب رئاسة الحكومة، عاد الدور الفرنسي من جديد ومن بوابة إعادة الإعمار، عبر احتضان مؤتمرات باريس 1 و2 و3 المانحة التي أمَّنت الأموال اللازمة لبناء ما تم تدميره في الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي للبنان.
وكان من المقرر أن ينعقد مؤتمر “سيدر 1” لدعم لبنان في أزمته الاقتصادية الحالية، ولكن تم تأجيله بسبب الأزمة السياسية الحالية التي تعصف بلبنان والعزلة التي تعيشها الدولة، بسبب الحكومة التي يؤمن المجتمع الدولي بأنها خاضعة لهيمنة حزب الله.
اللبنانيون في فرنسا
هذه العلاقة التاريخية بين لبنان وفرنسا يمكن رؤيتها جليةً في عدد اللبنانيين الذين يعيشون في فرنسا، بعدما ساعدتهم ثقافتهم الفرنكفونية على الهجرة والتأقلم فيها.
إذ شهدت فرنسا موجات هجرة عديدة من لبنان إليها وتحديداً بعد الحرب الأهلية في 1975، ويقدَّر عددهم حالياً بنحو 250 ألف شخص، علماً أن التقديرات ترجح أن معظمهم من المسيحيين المارونيين.
العلاقات الفرنسية مع آل الحريري
ولعل أكثر العلاقات تميزاً بين الدولتين هي العلاقة التي جمعت الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك مع رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري.
تعود هذه العلاقات إلى مطلع الثمانينيات، حين التقى شيراك في وقت كان رئيساً لبلدية باريس رجل أعمال لبنانياً حقق ثروته في السعودية؛ رفيق والد سعد الحريري.
نشأت بين الرجلين صداقة متينة، وكثفت مجموعة رفيق الحريري الاستثمارات والصفقات في فرنسا. واتخذت شركة “أوجيه إنترناشونال” المتفرعة عن “سعودي أوجيه”، الشركة الأم العملاقة التي كان يملكها رفيق الحريري، مقراً لها في باريس.
ترسخت العلاقات أكثر حين أصبح رفيق الحريري رئيساً للحكومة اللبنانية في 1992 لأول مرة، وانتُخب جاك شيراك رئيساً للجمهورية عام 1995، فدعم شيراك الوساطات واحتضن كل المؤتمرات لدعم لبنان.
ومن الجدير ذكره أن شيراك هو الرئيس الغربي الوحيد الذي حضر تشييع رفيق الحريري بعد اغتياله في 14 فبراير/شباط 2005 في وسط بيروت، وقد وصفه بأنه من طينة الزعيم الفرنسي شارل ديغول الذي شاركت قواته في تحرير باريس من الاحتلال ألمانيا النازية في نهاية الحرب العالمية الثانية.
وحتى بعد انتهاء ولاية شيراك عام 2007، وضعت عائلة الحريري في تصرُّفه شقة فخمة بباريس أقام فيها لأكثر من ثماني سنوات حتى وفاته.
وفي عام 2017 عندما أعلن سعد الحريري استقالته من منصب رئيس الوزراء خلال وجوده في السعودية بشكل مفاجئ وعبر التلفزيون، تدخَّل ماكرون شخصياً، في وساطة دولية، بعدما اتهمت وسائل الإعلام اللبنانية وليَّ العهد السعودي محمد بن سلمان باحتجاز سعد الحريري وإرغامه على الاستقالة في الرياض.
وبعد تدخُّل ماكرون كوسيط دولي، توجَّه الحريري مع أسرته إلى باريس وتم تصوير عائلتَي الشخصيتين على مأدبة غداء، في تجسيد واضح للعلاقات الوثيقة بين الرجلين، بل حتى الدولتين.
لبنان منصة فرنسا في الشرق
على مدى عقود، مثَّل لبنان منصة فعالة لفرنسا للعبور إلى العالم العربي. وفي بيروت، ينظر المسؤولون اللبنانيون إلى فرنسا باعتبارها الوحيدة القادرة على الحوار مع الأطراف كافةً انطلاقاً من رئيس الجمهورية ميشال عون و”التيار الوطني الحر” وصولاً إلى “حزب الله” الذي يلتقي المسؤولين الفرنسيين دورياً. أمّا إقليمياً، فتُعتبر فرنسا الوحيدة القادرة على مخاطبة اللاعبين المؤثرين والتأثير عليهم، من إيران وصولاً إلى السعودية.