ما وراء حروب فرنسا المستمرة في الساحل الإفريقي
حرب بلا أفق، تلك التي تخوضها فرنسا في الساحل الإفريقي منذ 2013، وبدل أن تطرد الإرهابيين والانفصاليين من شمال مالي، انتشرت التنظيمات الإرهابية في بلدان الساحل حتى وصلت إلى حدود كوت ديفوار، المطلة على المحيط الأطلسي. لكن طول بقاء القوات الفرنسية في دول الساحل الخمس (مالي، النيجر، بوركينافاسو، تشاد، وموريتانيا) يعزز من نفوذها بمستعمراتها السابقة، في ظل الصراع الذي تخوضه قوى دولية للاستحواذ على الأسواق الإفريقية، كما تقول وكالة الأناضول.
هذا الأمر أصبح يقلق شعوب المنطقة، التي لم تُمحَ صور جرائم الاحتلال الفرنسي لبلدانها في حقب سابقة واستغلاله لثروات بلادهم، مما جدد الشعور العدائي تجاه القوات الفرنسية المتواجدة في أرض غالبية سكانها مسلمون.
وتجلى هذا الشعور من خلال مظاهرات معادية للتواجد الفرنسي، الذي رافقته انتهاكات لحقوق الإنسان، وصلت إلى حد اتهام قوات إفريقية مدعومة من باريس بقتل مدنيين عزل. لكن التكلفة المالية للحملة الفرنسية على الإرهاب في الساحل الإفريقي أصبحت مرهقة لباريس، وازدياد العداء الشعبي ضد جنودها يقلقها، وإن لم يصل إلى مرحلة يهدد فيها مصالحها.
عولمة الصراع
ولتخفيف الأعباء عليها، أطلقت فرنسا تحالفاً دولياً يضم كندا ودولاً أوروبية بالإضافة إلى مجموعة الخمسة (موريتانيا، ومالي والنيجر وبوركينافاسو وتشاد)، فضلاً عن السعودية والإمارات كداعمين ماليين، لمواجهة التطرف في الساحل الإفريقي، عبر جانبين أمني وتنموي.
وهذه نفس المقاربة الأمريكية في مكافحة الإرهاب، التي تقرن الجانب التنموي بالأمني، كما سبق للجزائر أن طالبت بألا يكون التركيز على الجوانب العسكرية بالساحل فقط، في الوقت الذي يتغذى فيه الإرهاب من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة في إحدى أفقر دول العالم.
بينما تسعى فرنسا لإشراك أكبر عدد من الدول حتى لا تغرق لوحدها في رمال الصحراء المتحركة، حيث خسرت مجموعة الخمسة أكثر من 200 جندي في قتالها ضد تنظيمي القاعدة و”داعش” الإرهابيين.
لكن شكَّل مقتل 10 أشخاص، الخميس، في هجوم شنه متطرفون بكوت ديفوار بالقرب من الحدود مع بوركينافاسو، لأول مرة منذ 2016، نكسة جديدة لفرنسا قبل يوم واحد من الإعلان عن تحالف الساحل، إذ يعني ذلك أن تنظيمَي القاعدة وداعش يتمددان إلى خارج منطقة الساحل الإفريقي.
كما قُتل 24 جندياً مالياً في كمين لإرهابيين في منطقة بوكا وري (جنوب شرق)، بعد ثلاثة أيام من إعلان وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، الجمعة، في تغريدة له، عقد “الاجتماع الوزاري الأول لتحالف الساحل مع أكثر من 45 وزيراً وممثلي المنظمات الدولية الرئيسية في الساحل”.
لكن هذه الإخفاقات المتتالية في لجم التنظيمات الإرهابية في المنطقة التي أصبحت تسيطر على مناطق شاسعة بالساحل، لا تنفي تحقيق القوات الفرنسية بعض النجاح بعد تمكنها من القضاء على عبدالقادر دروكدال، قائد تنظيم القاعدة في بلاد المغرب، في 3 يونيو/حزيران الجاري.
الماضي الاستعماري يُلقي بظلاله
الشيء المشترك بين بلدان الساحل الخمسة أنها خضعت جميعها للاستعمار الفرنسي، واستقلت جميعها في 1960، وباستثناء موريتانيا فجميعها جعل الفرنسية لغة رسمية بديلاً عن كل اللغات المحلية.
فالاحتلال الفرنسي دخل إلى مالي في 1833 عبر السنغال، وفي 1896 استعمر بوركينافاسو، أما النيجر فدخلها بداية من 1904، بينما استعمر تشاد الواقعة بقلب الصحراء الكبرى في 1920.
وخلال فترة الاحتلال الفرنسي لدول غرب إفريقيا تم استغلال ثروات هذه المناطق، ومحاولة القضاء على الهوية الثقافية والدينية لشعوبها، وتحويلها إلى أسواق للرقيق (إلى غاية 1848 تاريخ إلغاء العبودية).
كما جندت فرنسا شباب مستعمراتها للقتال في الحروب التي خاضتها خلال الحربين العالميتين، الأولى (1914-1918) والثانية (1939-1945)، وأيضا في حربها للقضاء على الثورة الجزائرية (1954-1962)، التي كانت سبباً رئيسياً في منح عدة مستعمرات استقلالها في 1960، لإبقاء الجزائر “جزءاً لا يتجزأ من التراب الفرنسي”.
وخلال عقود من الاحتلال لدول الساحل، تركت فرنسا جراحاً لم تنسَها شعوب المنطقة، وهذا ما يفسر المظاهرات التي شهدتها كل من مالي والنيجر وبوركينافاسو ضد تواجد القوات الفرنسية في بلادهم، رغم أنه كان ينظر إليها في البداية كمنقذ، لكنهم اليوم يطالبونها بالرحيل.
رفض شعبي للتواجد الفرنسي
في العاصمة المالية باماكو، شارك عدة آلاف بمظاهرة في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، رددت شعار “فلتسقط فرنسا.. أوقفوا الإبادة الجماعية” وكانت عنيفة بعض الأحيان، بحسب مجلة “جون أفريك” الفرنسية.
كما شهدت نيامي، عاصمة النيجر، مظاهرة مماثلة في مايو/أيار 2019، وفي العاصمة البوركينابية واغادوغو أيضاً في أكتوبر/تشرين الأول من ذات العام، طالبتا برحيل فرنسا من بلديهما، وفق ذات المجلة.
وعبّر السفير المالي لدى باريس توماني دجيمه ديالو، في فبراير/شباط 2020، عن بعض أسباب غضب شعبه من تجاوزات القوات الفرنسية في بلاده قائلاً: “في بعض الأحيان، في شوارع باماكو.. ستجدونهم، أجسادهم مغطاة بالوشوم ويقدمون صورة لا نعرفها عن الجيش (الفرنسي). إنه أمر مثير للحيرة”، وندد بما وصفه بـ”السلوك الشائن” للجنود الفرنسيين في بلاده، وهو ما نفته باريس.
لكن ليست وحدها القوات الفرنسية من يرتكب تلك التجاوزات في حق الشعوب المحلية، بل حتى جيوش المنطقة متهمة بارتكاب “جرائم”. حيث ذكر موقع راديو “آر إف إي” الفرنسي، الإثنين، أن جنوداً ماليين يشتبه في أنهم قتلوا 43 شخصاً في قريتين، الأسبوع الماضي.
ومثل هذه الممارسات تزيد من حنق شعوب المنطقة على العمليات التي تقودها القوات الفرنسية وجيوش المنطقة، وتعطي فرصة للمتطرفين لنشر أفكارهم بين الساخطين من الناس.
تجاوزات وفشل في صد الإرهاب
وفي هذا الصدد، حذرت دريسا طراوري، الناشطة المالية في مجال حقوق الإنسان، في مؤتمر صحفي، الخميس، من أنه “إذا كانت هناك عمليات صارمة ضد المدنيين، فلا يمكنك توقع تعاونهم”، مع القوات الفرنسية والجيوش المحلية.
لكن بحسب ما نقلته الإذاعة الفرنسية الدولية، فإن وزير خارجية مالي تيبيلي درامي قال إن المزاعم الأخيرة ستذهب إلى المحاكم، في حين حثَّ لودريان على المساءلة.
إذ إن هذه التجاوزات، والفشل في وقف المد الإرهابي، يجعلان شعوب المنطقة ترتاب في حقيقة التواجد العسكري الفرنسي في بلدانهم، وتتساءل حول ما إذا كانت مكافحة الإرهاب ستصبح ذريعة لعودة الاستعمار الجديد، وفرض الهيمنة على موارد هذه الدول الفقيرة.