ترجمة خاصة|| الوعي الطبقي يُكتَسَب من الخارج.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة 34)
بدأَت إضرابات العمال في تلك الأيام، فلم أذهب إلى العمل في المصنع، بل ذهبتُ إلى المقاومة التي اندلعت في منطقة “قولا منسوجات”، وبقيتُ هناك مع العمال مساءً. كنتُ ذكرتُ لإيبو أنني سأذهب إلى تلك المقاومة التي شارك فيها كل العمال فدَبَكوا ورقصوا على أنغام الطبل والمزمار، ونَصَبوا الخيام. أما حرّاس الإضراب، فارتدَوا سترات بيضاء. وهناك لافتات مكتوب عليها شعارات عدة مثل: “نعم لتحسين ظروف العمل!” و”لا للنقابات الصفراء!” و”الحق يؤخَذ ولا يُعطى!”.
رأيتُ العديد من الوجوه التي أَلِفتُها سابقاً في الجمعيات. زارَ “إحسان آلياناك”، رئيسُ بلدية غولتبه، العمالَ المضربين حينها بـ”استعراض” لافت! ومساندةً لهم، استجلَبَ إحدى سيارات البلدية مليئةً بالفواكه والخضار، فاحتفى بها العمال بالتصفيق والهتافات. كانت مجموعة من العمال المطرودين من دون تعويضات موجودةً في ساحة الإضراب. يشرب المضرِبون الماءَ المحلّى بالسكّر في أوقات معينة، ونقوم نحن بخدمتهم. وأحاوِرُ الأشخاص الذين كنتُ تعرّفتُ إليهم سابقاً، فأستمتع جداً لدرجةٍ تُنسيني ما أعانيه في المنزل. إذ تناقشنا حول مدى صعوبةِ تحفيزِ عمالِ المصنع الذي أعمل فيه على دخول الإضراب، وحول ظروف ذلك المصنع. فأكّدوا لي على ما ينبغي الانتباه إليه لأجل تنظيم العمال هناك.
ثم قالوا: “من الصعب أن يُضربوا من تلقاء أنفسهم. ولن تُنهِضَهم إلا الإضرابات العامة”، وأضافوا أنه لا بد من دخول ثوار من الخارج إلى هناك كي ينظّموا صفوفهم، إذ “يُكتَسَب الوعي الطبقي من الخارج” على حدّ تعبيرهم. وهذا ما قاله لينين أيضاً عن وجه حق. إذ لا يمكن للطبقة العاملة أن تتحلى بالوعي تلقائياً. ولكن، ما من أيّ ثوريّ في المكان الذي أعمل فيه، وإلاّ، لَتَعرّفتُ عليه دون بد.
بقيتُ هناك في اليوم الثاني أيضاً. أما في اليوم الثالث، فأتت صائمة وباقي لنذهب ونشارك سويةً. احتضنَتني صائمة وقبَّلَتني قائلةً: “عروستنا”. لكني طلبتُ منها عدم تكرار هذا اللقب. إنها شخصية متميزة ومراهِقة حيوية. فقد درسَت على الدوام في المدارس الداخلية، فاغتربَت نوعاً ما عن واقعها. أما أحاديثها وسلوكياتها فطفولية. بقينا معاً في ذلك المنزل لفترة.
حصلَت ذات مساء أحداثٌ في جمعية “أولكو بير” المجاورة لمنزلنا في الحي. إذ داهمَها الفاشيون، فنظّمَ باقي ورفاقه هجوماً عليهم. انكشفَ أمرُ منزلنا بعد هذه الحادثة، فخرجنا منه على الفور، ثم نقلنا حوائجنا المعدودة منه بعد فترة. وبدأنا البقاء في منزلَين منفصلَين: حيدر وأخته في منزل، ونحن الآخرون في منزل آخر في حيّ “بيراقلي”. وباشرنا العمل في معمل النسيج في “آلسانجاك”، والذي أتَت للعمل فيه عدةُ طالبات من جامعة “بورنوفا” ممّن كنا تعرَّفنا إليهنّ في الجمعية. إنهنّ أتَين للعمل بقرارٍ من تنظيمهنّ “حزب التحرير الشعبي”. قلتُ بيني وبين نفسي: “لا فرق عندي من أي تنظيم يَكُنّ. وربما هذا أفضل كي ننظّم العمال معاً”.
المصنع كبير، وفيه أقسام القطنيات والبكَرات والأقمشة. باشرنا العمل في قسم الخيوط. إنه عمل ممتع للغاية. إذ أستمتعُ بالمظهر الجميل للبكَرات المصفوفة على التوالي وبمنظر التفاف الخيوط حول حلقاتها البيضاء. لكنّ الوقتَ لا يسعني كثيراً للتفرج بالطبع. إذ ينبغي ربط الخيوط المنقطعة، ووضع البكرات الفارغة أو المنتصِفة في أماكن أخرى. فرؤساء الأقسام يقفون مراراً في مقدمة الكابينة للمراقبة، ويُقيمون القيامة في حالِ وقفَت بكرة أو انقطعَت خيوطها. وبطبيعة الحال، فإنهم لا يوبّخون أحداً كيفما اتَّفقَ على ذلك، بل يصرخون فيمَن يرَونهم بؤساء ذليلين. أما نحن، فغالباً ما يبتسمون لنا ابتسامةً شكلية. ولكن، عندما يصرخون في الآخرين، فكأنّ لسان حالهم يقول: “القول لكِ يا جارة، واسمعي يا كنّة”.
وبخصوصنا، فكنا نتفاهم بتبادل النظرات الخاطفة، فنضحك خِفيةً على أحوالهم. حتى قضاء الحاجاتِ كان مضبوطاً بالتوقيت. لذا، فإن أغلب العمال يذهبون إلى الحمّامات مراراً لأجل التدخين. أما نحن، فنذهب إليها لأجل النقاش حول بعض الأمور، مع مراعاة عدم لفت الأنظار طبعاً. ذلك أن الكلام أو التجمع ممنوعان وقت العمل! ورؤساء الأقسام هم أقرب ما يكونون إلى عناصر الشرطة والجواسيس، حتى في أماكن تناول الطعام.
شملَت مقاومةُ منطقة “قولا منسوجات” عدةَ مصانع للنسيج. فالإضرابات في المصانع القريبة من بعضها بعضاً قد أضاقت الخناق على أرباب العمل، فباشر العمال بالعملِ بعد القبول بمنحهم نسبةً مهمةً من حقوقهم. لكنّ أغلب مطالبهم كانت اقتصادية. كما تبدّلت النقابات فتحولت جميعها من نقابات صفراء تابعة لـ”تورك–إيش Türk-İş” إلى نقابات تابعة لـ”ديسك DİSK”. ذلك أن هذه الشرارة المندلعة في المصانع قد تنتشر سريعاً. فإزمير مدينة مليئة بالمصانع، وتعجّ بالعمال في المناطق الصناعية الضخمة مثل منطقتَي علي آغا وتاريش. لم تَطغَ الرقابة إلى هذه الدرجة على مصنع السكاكر، على عكس المصنع الذي باشرنا العملَ فيه حديثاً. ومع ذلك، فإن غولناز، التي كانت من بين الفتيات اللواتي بدأنا العمل سويةً هناك، قد وضعَت البياناتِ ونُسَخاً من جريدة “تحرير الشعب” في خزانات بعض العاملات. خافَت بعضهنّ فسلَّمَت البيانات لرئيس قِسمِها حتى دون أن تقرأها.
ازدادت صرامةُ الرقابة علينا بعد تلك الحادثة. كان لـ”غولناز” أصدقاء شباب تجتمع بهم بين الحين والآخر في أوقات الاستراحة، ما لَفَتَ الأنظار أكثر. يبدو أنها تتصرف بنحوٍ هاوٍ أقرب ما يَكون إلى المقاربة الكلاسيكية. وقد نبَّهتُها من ذلك. ولَمّا فضحَتها تصرفاتُها سريعاً بات عمرُنا هناك قصيراً، فطُرِدنا من العمل دون أي مبرر، بل وقبل أن نُكمِل أسبوعَنا الأول حتى. واكتفوا بالتحجج: “لا حاجة لنا بالعمال. فالآتون مؤخراً كانوا في فترة اختبار، ولنا الحق في عدم قبولهم”.
لكننا أدركنا يقيناً سبب ذلك. فصرَخنا ورفضنا الأمر، بل وهدّدناهم نوعاً ما، مؤكدين أنه لا يمكنهم أن يكونوا مزاجيين إلى هذه الدرجة، ولا أن يبدّلوا شروط قبول العمال على هواهم. وعندما استفزّهم كلامُنا قالوا قبل أن يطردونا: “لقد وزّعنا صُوَرَكم في كل الأماكن. ولن تستطيعوا دخول بابِ أي مصنع بعد الآن. أنتم إرهابيون. وهذا واضح من ملابسكم وتصرفاتكم”.
تَمازَحنا أنا و”غولناز” طوال الطريق، وتناقشنا حول نقاط النقص والخطأ. فتصرفاتها الهاوية قد كشفَت أمري أيضاً بكل تأكيد. ذهبنا سويةً إلى الجمعية التي في حيّ كامارالتي. فرأيتُ هناك هاشم دمير، الذي كان جارنا أيام مساكن الموظفين. كان هناك أشخاص آخرون أيضاً من ديرسم، فانتقلنا إلى غرفة هادئة، وتناقشنا.
قال هؤلاء: “ستظهر المشكلة القومية”. لكني أكدتُ أنه ثمة إلهاءٌ في الأمر. ومع ذلك، لم يقتنعوا ولسانُ حالهم يدل على أنّ لهم طموحاتهم. إذ قالوا: “لن نبقى بلا موقفٍ إنْ عَجزوا عن إقناعنا أو لم يأخذوا مقترحاتنا على محمل الجد”. سُررتُ بموقفهم هذا. ثم اتفقنا على الالتقاء لاحقاً، وافترقنا. إن المستجدات المختلفة تدفعني نحو شبكة واسعة من العلاقات. فلا أتوقف أبداً، بل أذهب إلى أي مكان يوجدُ فيه كل جديد.