إسرائيل والفرصة التي لا تعود: حتى نحبط تطلع الفلسطينيين لارتباط جغرافي مع باقي العرب
كما كان متوقعاً، مع إقامة حكومة في ظل نية لبسط القانون الإسرائيلي على الغور وشمال البحر الميت وكتل السامرة، “بنيامين” و”عتصيون”، بدأنا نسمع صافرات إنذار وسيناريوهات يوم الدين. أناس جديون مثل إيهود يعاري وضباط جيش محافظون متقاعدون مقتنعون بأننا نقف أمام انهيار في علاقات إسرائيل مع الأردن ومصر، وإغلاق بوابات دول شبه الجزيرة العربية، وتخريب خطير بالعلاقات مع أوروبا، وتهديدات من الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة والأمم المتحدة ومحكمة لاهاي، وفقا لصحيفة “إسرائيل اليوم” العبرية.
لا شك أن ترسيم حدود إسرائيل في الشرق وتسوية مكانة الاستيطان يستوجبان كفاحاً سياسياً غير بسيط. يحتمل أن نواجه موجة إرهاب فلسطيني، ولكن يجدر بنا أن نقلص شدة صافرات الإنذار، فهي تشوش التفكير في المكان الذي نحتاج فيه إلى رباطة الجأش. إن مراجعة قصيرة لعدة قضايا في ماضي دولة إسرائيل ستساعد في تنقية عقولنا من رعب زائد والنظر إلى الأمور بحكمة.
لقد أعلن دافيد بن غوريون وزملاؤه عن إقامة دولة بعد الانتصار على الميليشيات الفلسطينية مع أنهم كانوا يعرفون بأن قيامها سيجر اجتياحاً عسكرياً وخطر احتلال وإبادة. برأي نائب رئيس الأركان، يغئال يدين، كانت فرص النجاح “فيفتي فيفتي”. وزير الخارجية الأمريكي جورج مارشل قال لوزير الخارجية المرشح موشيه شاريت: “لا تعلنوا. وإذا أعلنتم لن نبيعكم السلاح ولن نأتي لإنقاذكم من الاحتلال العربي”.
كثيرون في قيادة الحاضرة اليهودية خافوا من الاجتياح. كان هذا خوفاً معقولاً، وليس جبناً عديم الفهم مثلما يطيح بنا الحكماء بعد وقوع الحدث. كما أن المخاوف من بسط القانون اليوم ليست عديمة الأساس. ولكن الوضع في حينه كان أصعب بكثير مما هو الآن. التوقعات السوداء في حينه كانت مقنعة أكثر. في 1948 كان الخيار بين منع الحرب وضياع الفرصة التاريخية وبين الإعلان والحسم، كما كان رأي بن غوريون وشاريت. واليوم أيضاً، ونحن أقوى بكثير، مطلوب على الأقل القدر ذاته من التفكير المتوازن، والجرأة والواقعية في الخيار الذي بين استمرار المراوحة في المكان والخطر من الشرق وبين إحباط الأمل التصفوي للفلسطينيين.
بعد سنة ونصف، مع الانتصار في حرب الاستقلال، بسطت إسرائيل القانون على القدس في شباط 1949 وخرقت قرار الأمم المتحدة في تشرين الثاني 1947 بأن يقوم في المدينة نظام وصاية دولي. ولكن إسرائيل لم تحدد في حينه عاصمتها في القدس. مشاعر مسيحية وإسلامية شديدة حركت ضغوطاً دبلوماسية ردعتها. وينبغي أن نتذكر أن في حينه، بخلاف وضعنا اليوم، كنا مجتمعاً لاجئًا هزيلاً، بلا تراص للصفوف ومعزول، عدم الحلفاء الهامين. ولكن إسرائيل أعلنت رسمياً بالفعل بأن القدس هي عاصمتها في كانون الأول 1949. قبل بضعة أيام من قرار مرتقب في الأمم المتحدة لتبني مشروع قرار أسترالي لفرض التدويل على القدس. هكذا تقرر بقيادة بن غوريون، ورغم التحذيرات الخطيرة من شاريت، الذي استقال وعاد بعد وقت قصير إلى منصبه. السماء لم تسقط على الدولة المنعزلة رغم “وقاحتها” للإصرار على موقفها. فما بالك إسرائيل اليوم.
هذان مثالان بارزان. في الزمن إياه، كانت إسرائيل هشة جداً من نواحٍ عديدة، وهذه الحقيقة تبرز جرأة المقررين. ولكن بعد ذلك جاءت سلسلة قرارات وأعمال كهذه في ضوء التخويفات والتحذيرات والحسابات التي بدت مؤكدة في حينه: قرار بمضاعفة عدد سكان إسرائيل في غضون سنتين ونصف في بداية الدولة، وتقليص الجيش الإسرائيلي، وقرارات بمهاجمة مصر في 1956 وفي 1967؛ وقرارات ببسط القانون في شرقي القدس (1967) وفي الجولان (1981)؛ واتفاقات كامب ديفيد، وقرارات قصف المفاعلات النووية في العراق وسوريا. وبالمقابل، فإن المراوحة في المكان أمام مصر من حرف الاستنزاف، والتورط في لبنان عقب عدم حسم القيادة خوفاً من تداعيات الحسم؛ وفك الارتباط… كان حسماً جاء بعده بشرّ.
صحيح أنه لا يجب استخلاص استنتاجات مشابهة، ولكن مقابل كل القرارات الحاسمة وغير الحاسمة إياها، يوجد مكان أقل بكثير للخوف من المصيبة. فتجربتنا تفيد بأنه من الأفضل الامتناع عن التخويف الذاتي وليس فقط من الثقة الزائدة بالنفس. قوة من يطلبون الشر لنا أقل بكثير. وأمامنا الآن فرصة سياسية نادرة، قد لا تعود. والمصلحة الإسرائيلية واضحة: ترسيم حدودنا الشرقية وتثبيتها، وهكذا نحبط تطلع الفلسطينيين كي تتراجع إنجازات الـ 48 من خلال الارتباط الجغرافي بينهم وبين باقي العالم العربي. وعلى أساس هذا الإحباط سيكون بوسعنا أن نفتح فتحة حقيقة نحو تسوية فلسطينية – أردنية للنزاع معنا، لتسوية قابلة للعيش ودون أن نعرض للخطر الدولة القومية اليهودية. وهذا ما ينبغي النظر فيه وليس انطلاقاً من فزع محافظ.