الحملة الصليبية الخامسة.. عندما أنقذ فيضان النيل العالم الإسلامي
كانت الحملات الصليبية جميعها تحمل أحداثاً كثيرة، ولكن الفترة ما بين الحملة الصليبية الثالثة عام 1189 حتى الحملة الصليبية الخامسة عام 1217، حفلت بالأحداث المثيرة والمتداخلة التي خرجت عنها نتائج أثَّرت في تشكيل التاريخ من بعدها، أبرزها بداية النهاية الحقيقية لكل من فرسان الهيكل، والإمبراطورية البيزنطية.
ومن الملاحظ أن هذه الحملات الثلاث فشلت جميعها، فالثالثة فشلت على يد القائد المسلم الأشهر صلاح الدين الأيوبي، والرابعة فشلت بفعل اقتتال الصليبيين فيما بينهم داخل أوروبا وكانت بيزنطة وعاصمتها القسطنطينية هي مسرح الأحداث، أما الحملة الخامسة فقد أفشلها تدخُّل العناية الإلهية على أرض المسلمين إلى جانب الدفاع الشديد الذي أثبتته قوات الأيوبيين، وذلك على الرغم من التخاذل الذي ظهر أحياناً من القائد المسلم الملك الكامل الأيوبي.
في هذا التقرير سنتناول تفاصيل الحملة الصليبية الخامسة على بلاد المسلمين، التي استمرت حوالي أربع سنوات، وعن سبب فشل هذه الحملة فشلاً ذريعاً.
ترتيبات الحملة الجديدة.. مصر هي الهدف
بعد أن سادت حالة الجنون في أوروبا نتيجة الأحداث المروعة التي سادت بعد إراقة الدماء المسيحية إثر تحويل مسار الحملة الصليبية الرابعة إلى احتلال بيزنطة بدلاً من بيت المقدس، وقيام حملة الأطفال الصليبية المروعة، التي لم تصل القدس أيضاً، رأى البابا إنوسنت الثالث أنه لا بد من توحيد الصفوف من جديد وشن حملة صليبية خامسة على المشرق الإسلامي.
بدأ البابا إنوسنت الثالث، الذي فشل في السيطرة على زمام الأمور في الحملة السابقة، بتحضيراته لحملةٍ جديدة للاستيلاء على القدس والدفاع عن المستوطنين الصليبيين هناك، ودعا الجميع للانضمام لها عام 1215.
لبَّى النداء كلٌّ من فريديك الثاني ملك ألمانيا وليوبولد ملك النمسا، وأندريه الثاني ملك المجر، وغي دي لوزينيان ملك قبرص وغيرهم.
لكن تقرر تغيير خط سير الحملة إلى سواحل مصر بدلاً من سواحل الشام، بطلبٍ من جان دي بريين الذي كان يأمل بحكم بيت المقدس، والذي كان في عكا، وذلك لأسبابٍ مختلفة، أول هذه الأسباب كان اقتصادياً، وهو رغبة المدن التجارية الإيطالية، التي كانت الممول الرئيسي للحملة، في السيطرة على تجارة المتوسط، وضرب التجارة المصرية، وذلك بالسيطرة على ميناء دمياط، أحد أهم موانئ البحر المتوسط حينها.
أما السبب الثاني العسكري، فكان يكمن في إضعاف مصر التي كانت مركز الثقل في العالم الإسلامي، من أجل ضمان بقاء المستوطنات الصليبية في الشام، أما السبب الثالث فكان لاسترداد الشرف العسكري لجيوش الصليبيين وفرسان الهيكل، بعد الهزيمة التي مُنيوا بها في حطين، وفقدانهم للقدس.
وبعد مرور عام على التجهيزات، تُوفي البابا إنوسنت الثالث عام 1216، وتأخرت الحملة سنة بسبب وفاته، وخلفه البابا هونوريوس الثالث الذي حاول فرض سيطرته بشكلٍ سريع، وأراد أن يُؤكد نفوذ وسيادة الكنيسة الكاثوليكية على الحملة، وأرسل الكاردينال البرتغالي بيلاجيوس ليكون القائد العام ونائبه في الحملة، على الرغم من قلة خبرته الحربية.
كانت بلاد الشام ومصر في هذه الفترة تحت حكم الأسرة الأيوبية بقيادة الملك العادل أبوبكر الأيوبي، وهو أخو الناصر صلاح الدين الصغير وشريكه في الجهاد ضدَّ الصليبيين، وكان ابنه الكامل ينوب عنه في الحكم في مصر.
بداية الحملة الصليبية الخامسة
وصلت جيوش الصليبيين إلى عكا، التي كانت تحت سيطرتهم، في جيشٍ ضخم لم تشهد بلاد الشام مثله منذ أيام الحملة الصليبية الثالثة، حسبما وصفه المؤرخ قاسم عبده قاسم في كتابه “ماهية الحروب الصليبية”، فلما وصلت أخبار للملك العادل، حيث كان بالشام وقتها، أسرع وعسكر بجنوده عند مدينة بيسان.
أخذ الصليبيون في بادئ الأمر بالإغارة على قرى ومدن الشام لجمع المؤن والأموال وعاثوا فيها فساداً، مع إضمار النية على غزو مصر بشكلٍ مباغت، ولكنّ جيش الملك العادل لم يقوَ على ردعهم في الشام لضخامة جيوشهم.
وعلى الرغم من ضخامة جيش الصليبيين؛ فإن قياداته كانت فوضوية، لذلك عجزوا عن القيام بأي حملة عسكرية حقيقية في الشام، ففضّلوا الرجوع إلى عكا، لوضع ترتيبات الانتقال إلى دمياط.
وحدثت مفاجأة أخرى في صفوف الصليبيين، وهي انفصال ملك المجر أندراش الثاني عن الحملة التي رأى أنها عقيمة ولم ترَ النجاح، وعاد ومعه عددٌ كبير من الصليبيين إلى بلاده، فضعفت الحملة وانتظرت قليلاً حتى يأتيها المدد من غرب أوروبا لاستكمال أهداف الحملة.
في عام 1218، اتجهت جيوش الصليبيين كاملة نحو ميناء دمياط، ونزلوا على الميناء في موقعٍ اسمه “جيزة دمياط”، التي كان بها قلعة حصينة، ويبدو أنّ هذا الموقع كان مثالياً من وجهة النظر الدفاعيَّة وليس الهجوميَّة، وفق ما ذكره راغب السرجاني في كتابه قصة الحروب الصليبية.
وبطبيعة الموقف، شكّل هذا التغيير في سير الحملة مفاجأة صاعقة للسلطان العادل وابنه الكامل والي مصر وخليفة والده، فخرج الكامل بالجيش المصري للدفاع عن دمياط، وتحصّن داخل برج السلسلة المنيع في دمياط، والذي كان في غاية القوَّة والصلابة، إذ به سلاسل من حديد ضخمة تمتد بطول النيل لتمنع أي مراكب تريد الإغارة على البلاد من هذا الطريق.
حاصر الصليبيون القوات المصرية داخل البرج، وحاولوا اقتحام البرج مراتٍ عديدة، وبعد مرور أربعة أشهر من الحصار، تمكّن الصليبيون من الاستيلاء على البرج بعد أن خاضوا معركة طاحنة مع جيش المسلمين، ولما علم الملك العادل بذلك مات من الحزن بعدها بقليل وكان في السبعين من عمره.
بعد سقوط برج السلسلة، حاول الكامل إعاقة تقدُّم الصليبيين، فصنع جسراً عظيماً أنفق عليه سبعين ألف دينار، ليمنع الصليبيين من التقدم، فقاتل الصليبيون عليه قتالاً عنيفاً حتى تمكنوا من تدميره، فأمر الكامل بتفريق عددٍ من المراكب في النيل ليسد بذلك مجرى السفن.
في المقابل، توجّه الصليبيون إلى خليج هناك يعرف بالأزرق، وكان النيل يجري فيه قديماً، فحفروه حفراً عميقاً وأجروا فيه المياه إلى البحر المتوسط، الأمر الذي يُبين إصرار الصليبيين الشرس وصبرهم على القتال وهنا بقيت الأمور بين مدٍ وجزر ما بين الجيشين.
تخاذل السلطان الكامل الأيوبي
ظل الجيش الإسلامي يقاوم ويُدافع عن المدينة، إلى أن وقعت حادثة غيرت مسار القتال عندما ترك السلطان الكامل معسكر الجيش في دمياط وعاد إلى القاهرة سريعاً لتدارك محاولة انقلاب، دبرها أحد الأمراء واسمه عماد الدين بن المشطوب، فأراد خلع الكامل وتنصيب أخيه الصغير الفائز مكانه.
عندما علم الجنود قرار قائدهم تركوا جميعاً المعسكر، فوقعت المدينة بكل سهولة في يد الصليبيين عام 1219، وارتكبوا فيها مذابح مروعة، وعاثوا فيها الخراب، وطمسوا معالمها الإسلامية.
إن هذه الحادثة لم تكن الأغرب، بل كان هناك ما هو أغرب منها، فقبل أن يترك الكامل مدينة دمياط، كان قد قدّم للصليبيين عرضاً غريباً، وهو أن يسلمهم بيت المقدس ووسط فلسطين والجليل وشمالها، أي أغلب ما استعاده عمّه صلاح الدين، علاوة على أن يدفع لهم المسلمون جزية عن المناطق التي تبقى بأيديهم، مقابل رجوع الصليبيين عن دمياط.
كان الكامل يريد أن يثبّت ملكه خليفةً لأبيه العادل أولاً، ومن ناحية أخرى كانت أنباء المغول تأتي من الشرق، ويبدو أنّ الكامل لم يكن مستعداً لخوض المعارك الكبرى، فهو نفسه سيسلّم للصليبيين بعض المناطق في بيت المقدس بعد عدّة سنوات.
أما ما يُثير الدهشة حقاً، فهو رفض الصليبيين القاطع لهذا العرض، فقد رفض بلاجيوس مندوب البابا وفرسان الهيكل هذا الطلب، وآثروا استكمال مهمتهم التي كلفها بهم البابا، كما رفض مندوبو التجار الإيطاليين ذلك، لأنهم أرادوا أن تكون دمياط مركزاً تجارياً لهم بالكامل.
العناية الإلهية تساعد في هزيمة الحملة الصليبية
منذ بداية الحملة، عانت الجيوش الصليبية من فوضويّة قيادتها، وهذا ما عانته بعد السيطرة على دمياط، فعند اجتماع قادة الصليبيين لتحديد الخطوة التالية، نشبت بينهم خلافات معقدة، بحيث مضى عام ونصف وهم غير قادرين على القيام بأيّة حملات عسكرية حاسمة، على الرغم من أنهم هم الحلقة الأقوى حالياً، وانتهى الخلاف بانسحاب القائد العسكري جان دي بريين، وأصبح بلاجيوس هو القائد الوحيد للحملة، وبدأ يخطط للزحف نحو القاهرة.
من حسن حظ المسلمين، أن تلك الفترة كانت كفيلة بإحداث الاستقرار عند القيادة الأيوبية نسبياً، وهم أبناء الملك العادل الذي كان قد قسَّم حكم البلاد بين أبنائه في حياته، فكانت مصر للكامل، ودمشق للمعظّم عيسى، وحران للأشرف موسى، فلما توفي استقل كل منهم بحكمه ومصالحه، وقد أرسل الكامل رسائل استغاثة لإخوته، فتلقى الدعم منهما، من أجل التصدي للحملة الصليبية الخامسة.
استطاع الكامل إذن توحيد موقف إخوته لمساندته في ردع الصليبيين، كما أنّ موقف الصليبيين الرافض للمفاوضات لم يدع أمامه أو أمام إخوته خياراً سوى الحرب.
وقد عسكر جيش المسلمين في مكانٍ حصينٍ شيَّده الكامل في فترة الهدوء الصليبي في منطقة أسفل ثغر دمياط أسماها الكامل المنصورة، وهي محافظة المنصورة الحالية في مصر. ودعا الناس إلى التطوع لصد الصليبيين عن مصر، وشن المسلمون هجمات متتالية على المعسكر الصليبي، حققوا فيها انتصاراتٍ عسكرية مهمة.
توازن المعسكران الآن، وفكّر الصليبيون بالانسحاب، إلا أنّ وصول قواتٍ صليبية جديدة من ألمانيا شجعت بلاجيوس على استكمال مخططه الذي تأخّر للزحف نحو القاهرة، ولكنّ اختيار التوقيت لم يكن في صالحه، فقد تدخّل القدر في ردع الحمة وإنهائها تماماً، بفعل حدوث فيضان نهر النيل السنوي عام 1221 الذي يشتدّ في شهر أغسطس/آب.
بعدما خرج الصليبيّون من دمياط للزحف نحو القاهرة متقدمين ناحية الجنوب، نزلوا تجاه بلدة طلخا شمال المعسكر الإسلامي حيث كان جيش الكامل معسكراً في المنصورة في موقعٍ عسكريّ مميّز بين ضلعين مائيين هما البحر الصغير من ناحية والنيل من ناحية، فلا يستطيع الصليبيون أن يصلوا له إلا بعد عبور البحر الصغير المعروف بشدة انحدار جانبيه وسرعة تياره.
وجد الصليبيون أنفسهم محاصرين بالماء الذي أغرق غالبية الأرض من حولهم، وبين جيش المسلمين المصري الذي انتهز الفرصة وحاصرهم جنوباً، وبين جيش المسلمين الشامي من ناحية الشمال، وقد تم الاستيلاء على الكثير من سفنهم من قبل المسلمين.
وهنا انقلبت المعادلة، وأصبح الصليبيون هم الحلقة الأضعف، وأرسل بلاجيوس إلى المسلمين طلبه الصلح والهدنة مقابل أن يخرج جيشه من دمياط بغير تعويض، وقد اختلف قادة معسكر المسلمين حول طلب الهدنة؛ ففي حين رأى إخوة الكامل انتهاز الفرصة والقضاء على الصليبيين، وافق الكامل على الهدنة.
وبهذا الشكل، فشلت وانتهت الحملة الصليبية الخامسة، ومنيت بخسارةٍ ضخمة، على الرغم من غياب الحكمة والقوة لدى قيادة الكامل الأيوبي، وترتب عليها أنها كانت آخر حملة صليبية ينفرد البابا بقيادتها وتحديد أهدافها.