خاص|| النضالُ الأيديولوجيّ اشترطَ العنفَ الثوري.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة ٢٧)
مرّت الحياة حتى ذاك اليوم مليئةً بالصراعات والنقاشات، مع استمرار الروابط العائلية. لكنّ الصراع الأساسي سيبدأ حديثاً. إذ ما عاد ممكناً ممارسة النشاط الثوري باستحصال الإذن أو بالرجاء، أو بتلقّي الشتائم أو الضرب. فعليك استئذان العائلة، ووضع قواعد المدرسة في الحسبان، وعدم غض الطرف عن تقاليد المحيط وعاداته. بمعنى آخر، فكل الجوانب كانت تُقيّدك، وتَحدُّ من حِراكك، وتُعرقِلُك. لكنّ الممارسة الثورية تعني تهيئة ظروف الحياة كاملةً. ومن أكثر الحقائق الشفافة التي تعلّمناها هي: نكران الذات، واستخدام القوة العقلية والمهارة حتى أقصاها، وتسخيرها في خدمة الثورة!
كانت المدرسة تُعَدّ وسيلة للعمل بكل معنى الكلمة. والرغبة القديمة في الدراسة، وتَصوُّر الذهاب إلى الجامعة بعد الدراسة الثانوية، كل تلك الأحلام كانت تتبدد وتتلاشى. وفي هذا الشأن، لم يَفرض الرفاق علينا أي شيء من قبيل: “اتركوا المدرسة، ولا تحبّوها!”. بل على العكس، كانوا يرون في المدارس أرضيةً مناسِبة للغاية. ولم نَخُض أي نقاش في هذا المضمار إطلاقاً. بل إن الواقع بحَدّ ذاته يُعلّمنا، والحياة تُرغِمنا على ذلك. لذا، فما من مشكلة تُذكَر على هذا الصعيد.
ثمة التزام بالمدرسة لأنها أفضل مكان لخوض النقاشات. علاوةً على أن شريحة الشباب الأكثر دينامية في المجتمعِ تتواجد في المدارس. وعليه، فإن هذه الطاقة الكامنة هي من أكثر أرضيات الصراع تأججاً. كان الرفاق يحذّروننا بين الحين والآخر: “لا تنجرّوا وراء الاستفزازات في النقاش. تَرَفّعوا عن الشتم أو الضرب أو ما شابه. فهدف هؤلاء هو خلق أجواء سلبية كهذه في النقاشات، لتحريفها عن مضمونها، وللحدّ من تأثيراتها. ناقِشوا بنضوج أكبر، واعتمِدوا الآفاقَ العلمية أساساً”. كنا نستفيد أيضاً من: القضية الوطنية، ومشكلة المستعمَرات، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، والمبادئ اللينينية، وغيرها من الآداب الكلاسيكية. كان هؤلاء يخلطون في نقاشاتهم بين القضية الوطنية والديماغوجية، ويطرحون تقييماتهم وفق ذلك لتحريف المسار. إذ يسردون كلّ ما من شأنه أن يدحض الواقع الكردستاني ويفنّد جوهر الاشتراكية. كانوا يقلبون كل ذلك رأساً على عقب، بعد تكييفه مع بعض الأقنعة النظرية والتوصيفات الملفّقة، للإبقاء على هذيانهم هذا حديثَ الساعة لأطولِ مدةٍ ممكنة.
أما ظواهرُ البحث والتدقيق وبلوغ الوعي التاريخي والانفتاح على التغير، فكانت من أكثر الحقائق التي تَبتعد عنها تلك المجموعات، بل وتناهضها. لهذا السبب، كانت التحريفات الأيديولوجية تتضمن على الدوام ظاهرة عدم الثبات. فبسبب انعدام التحليلات النظرية والأيديولوجية السديدة، فإن الشكل الثوري العام في الأفراد كان يتحول مع الزمن إلى هالة هلامية، فتظهر بذلك نماذج اصطناعية غريبة تلجأ إلى سلوكيات عجيبة.
كم تزداد الروح الثورية بشاعةً عندما لا تتشكل على واقعها الذاتي الحقيقي. فللاغترابِ السابق منطقُه إلى حد ما. ذلك أن الاستعمار التركي وطابعه “الكماليّ الأتاتوركيّ” قضى على الخصال الإنسانية والروح الكردية. لكنّ محاولات الخروج من ذلك، والطموح العازم في خرق القوالب المتراكمة عليها، كان يُزيدنا كرامةً وإباءً وجمالية. أما إصرار البعض على الدفاع عن تلك القوالب، وإضفاء الشكل اليساري الثوري عليها، فهو أمر فظيع. لذا، كان هؤلاء يستنفدون كل احتمالات التحول والتغيير وجميع فرصِ كسب الجديد. إذ ليس بيَدِهم حيلة سوى عرقلة النهوض القومي وما ينمّ عنه من وحدةٍ واتّحاد، وذلك باسم الثورة والثورية. إن نزعة الإنكار تلك تؤثر سلباً في تحديد مصير اليسار التركي.
أما منفّذو المجازر في الدولة التركية، فعبَّروا عن عدم ثقتهم أو اعترافهم بالمتلطخين بأبشع أشكال الخيانة والتواطؤ، بقولهم: “مَن لا خير منه في مِلّته وأقاربه، فلا خير لي منه أبداً”. ليت اليساريون أيضاً تأثَّروا بهذه المقاربة، وليتهم قالوا: “لن تَكونوا صادقين بحالتكم العبودية هذه في إنقاذ الشعبَين والدفاع عن أُخُوَّتهما. عليكم أولاً بلعنةِ عبوديتكم، كي تكونوا جديرين بشرفِ إنقاذهما. فبهذه الخطوة تتحقق الأخوّة”. فلو أنهم فعلوا ذلك، لتَطوَّرت الممارسة الثورية في تركيا بثبات أكبر. لكنّ اليسار التركي اختار عبوديتَه وكلَّ مَن يقدّس استعبادَه صديقاً له. فأطلقَ صفة الأممية والأخوّة على نزعة الإنكار، وعَدَّ الشوفينية الاجتماعيةَ أعلى درجات الاشتراكية والديمقراطية. مع العلم أن نتائج كل ذلك سيئة للغاية ومدمرة للغاية.
لقد اشتَرَطَ النضالُ الأيديولوجي والسياسي ممارسةَ العنف الثوري. فأي تحرك بسيط وأي عمل عادي كان يعني مواجهة عدد لانهائي من المصاعب، ويتطلب التضحية والتحلي بالصبر وبذل الجهود الحثيثة. لم يُكتَسَب أي شيء بسهولة. فالمسار القائم لم يَنحصر في النقاشات الأيديولوجية المحضة، ولا في مستوى محدود من النضال السياسي. بل له جانب من العنف الثوري منذ البداية. فجميع الظواهر المستحدَثة والتحليلات المُصاغة تحتوي على هذا الجانب. ونخصّ بالذكر أن تركيز النضال الأيديولوجي وخطو الخطوات السديدة والسليمة لإرساء دعائم تنظيمٍ وطيد في ديرسم تحديداً، كان يُحَتِّمُ النضال والصراع من جوانب متعددة كأمر لا مفر منه. وبخصائصها هذه أضحت مجموعتنا هدفاً لشتى المجموعات الأخرى من جهة، وصارت مخاطباً ينبغي وضعه في الحسبان من جهة أخرى. لقد باتت قوة صاعدة تمثل كل جديد. هكذا كانت مكانتُها الموضوعية، شاء الآخرون أم أبَوا.
إلا إن الأرضية الأيديولوجية والسياسية لتلك المجموعات، واستمرار وجودها اعتماداً على “النزعة الكمالية”، قد أفضى إلى دخولها مبكراً جداً في اشتباكات مضادةٍ لم تُجْدِ نفعاً بالأغلب، ما أدى إلى لجوئنا رغماً عنا إلى ممارسة العنف الثوري ضدها في أوساط لم نحبّذها قط. فقد كانت تلك المجموعاتُ تستفزّنا بشكل فظيع، وتُضيّق الخناق علينا، وتزداد استعاراً على الضد منا، لا لشيءٍ سوى لأنها أدركَت أن أسباب وجودها تتلاشى بسرعة، وأن البساط ينسحب من تحت أقدامها، وأن حقيقتها تنكشف مع مرور كل يوم. لذا، فإنها جعلَت من حركتنا هدفاً لقاعدتها الجماهيرية، ووضعَت الدعاية المضادة تجاه مجموعتنا في مركز أجنداتها.
وعلى الرغم من عدم وجود أي خلاف نظري أو أيديولوجي محوريّ بين تلك المجموعات، إلا إنها كانت على صراع وتجاذب دائمَين. في الحقيقة، كان “اليسار” منذ بداياته يفرض اللاتنظيم. فالتنظيم عموماً يعني تأسيس الاتحادات الوطيدة ولعب دور التوحيد. لكنهم لم يُشكّلوا هكذا اتحادات، أكان ضمن الشعب أم بين صفوف الشبيبة. وعلى النقيض، فإن الجانب المشترك لكل تلك المجموعات قد تجسّد في: تجذير الخلافات، وتشتيت قوى الشعب، وإضفاء الضبابية على الأهداف المشتركة، ورفض استخدام فرص وأدوات النضال المشترك ولو بالحدود الدنيا.
بالإمكان القول أن هذا فقط هو الجانب المشترك الذي اتّحدوا عليه. لذا، كان بمقدورهم، وبكل سهولة، تشكيل جبهة مضادة إزاء أي حراك بسيط، وتجاه أي جهد ثوري صغير. بل وكان هؤلاء وشرطة الدولة يهاجموننا في نفس اليوم ونفس اللحظة ومن نفس الجبهة أحياناً. فذات مساء، وبينما كان عناصر الشرطة يطاردون الرفاق داخل الحي (كان الرفاق مسلّحين)، قامت عوائل أعضاء “حزب التحرير الشعبي” بإغلاق أبوابها أمام الرفاق من جهة، وأَخبَرَت عناصر الشرطة عن وجهةِ الرفاق من جهة أخرى. لقد عبَّرَت عوائلنا عن ذهولها من ذلك بقولها: “لا يمكن للثوري أن يُخبِر عن ثوري”. إنها قاعدة أساسية وأخلاق فاضلة مصيرية. لذا، راح الشعب يشكّكون بثورية هؤلاء، كلما رأوا منهم هذه اللاأخلاقيات.
كانت الحياة وشروط وأدوات النضال لدينا واضحة، بينما تتّجلى البطولة والثورية “في الميدان”. فالبطولة البارزة في الميدان، تلقى التقدير والاحترام. وفيما خلا المتحجّرين وذوي النوايا الضامرة وأصحاب المواقف المناهضة قصداً، فإن “الوطنيين” لقَوا احترام الشعب عموماً والشبيبة خصوصاً، حتى وإن كانوا في جبهة مختلفة. وقد تأتّى هذا الاحترام من العزم والإرادة والتحلي بالقوة والاتسام بالأخلاق النبيلة. لذا، كَنَّت بعضُ العوائل المتأثرة بهم كلَّ الاحترام لهم، حتى عندما كانت تُبدي ردود أفعالها تجاههم. وهذا دليل مستوى النضوج الذي خلقَته المجموعة بين الشعب.
لقد وفّرَت خصائصُ هذه الانطلاقة الثورية أرضيتها المناسبة. وبهذا النحو أثبتَت جدارتها ومدى قوتها البديلة تجاه كل البنى الموجودة. إنها لم تَخُض صراعات كبرى، ولم تُقدّم وعوداً مفرطة، ولم تغدق أحداً بقيم مادية مختلفة. بل شقّت طريقها في الحياة ببضعةِ كلمات مميزة، وبعِدّة تشخيصات سديدة، وببعض الأشخاص الفقراء. لقد أذهلَت هذه الحقيقةُ الجميع. فكلّ الذين سخروا منها، أو استهزأوا بها، أو استماتوا على الصراع اللامحدود معها، بدأوا تدريجياً يَحسبون الحساب، ويفكّرون مليّاً قبل مقاربتهم منها.
ترجمة: بشرى علي