سفير إسرائيل الأسبق في جنوب إفريقيا: صفقة القرن نسخة من نظام الفصل العنصري
خطة السلام التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أو ما يُعرف بصفقة القرن ما هي إلا نسخة مشوهة من نظام الفصل العنصري الذي طبقته جنوب إفريقيا البيضاء بحق المواطنين السود ولم تعترف به سوى إسرائيل؛ وهذا ما “شهد شاهد من أهلها” به كما يقال، فما قصة ذلك النظام؟ وماذا كان مصيره؟
مجلة فورين بوليسي الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: “خطة ترامب المتعلقة بفلسطين أشبه ما تكون بنظام الفصل العنصري”، أعدَّه سفير إسرائيل الأسبق لدى جنوب أفريقيا، وألقى الضوء على خصائص ذلك النظام وآلياته ومصيره في النهاية.
كياناتٌ سمّوها الأوطان
في ذروة نظام الفصل العنصري (الأبارتهيد) في جنوب إفريقيا، خططت حكومة الأقلية البيضاء في البلاد لإنشاء 10 كيانات مما يسمى الأوطان -المعروفة أيضاً باسم البانتوستانات [أوطان ذات سيادة اسمية، أفرادها من السود بالأساس]- حيث يمكن أن يعيش السود في جنوب إفريقيا بعيداً عن المدن التي كانت يأمل نظام الفصل العنصري الحفاظ عليها بيضاء، وكان ذلك تتويجاً لما سماه النظام سياسة “التنمية المنفصلة”؛ في محاولة لصرف الأنظار عن الاضطهاد العنصري، من خلال ادعاء أن السود قد مُنحوا الاستقلال في دولٍ خاصة بهم، وأنهم ليسوا مواطنين من الدرجة الثانية بجنوب إفريقيا.
خلقت حكومة الفصل العنصري في النهاية أربعة بانتوستانات مستقلة ظاهرياً فقط (بوفاتاتسوانا، وفندا، وسيسكي، وترانسكي) إلى جانب ستة أقاليم أخرى يُفترض أنها تتمتع بالحكم الذاتي، ورفضت الحكومات الأجنبية في معظمها تلك الدول الدمى بالنظر إلى ما كانت عليه في الحقيقة، ومن ثم كانت جنوب إفريقيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي اعترفت رسمياً بالبانتوستانات، وكانت القرارات الرئيسة المتعلقة بشؤونهم تُتخذ حصرياً في بريتوريا.
لقد كرستُ عقوداً من عمري للعمل بالخدمة الخارجية لإسرائيل، تضمن ذلك العمل ضابطَ مكتب بجنوب إفريقيا في وزارة الخارجية الإسرائيلية خلال فترة الفصل العنصري، وسفيراً لإسرائيل لدى جنوب إفريقيا من 1992 إلى 1994، إبان فترة انتقال البلاد إلى الديمقراطية.
إسرائيل الدولة الوحيدة التي اعترفت بذلك النظام
ومع الأسف الشديد، عرفت خلال تلك السنوات أن أي دولة في العالم (باستثناء جنوب إفريقيا) لم تسهم في اقتصاد البانتوستانات كما فعلت إسرائيل، فقد بنى الإسرائيليون مصانع وأحياء ومستشفى وحتى ملعب كرة قدم ومزرعة تماسيح في هذه الدول الدمى في جنوب إفريقيا. حتى إن إسرائيل ذهبت إلى أبعد من ذلك بسماحها لأحد تلك الكيانات، بوفوتاتسوانا، بأن تكون لها بعثة دبلوماسية في تل أبيب، وأتاحت لزعيمها لوكاس مانغوب -المنبوذ في العالم بأَسره؛ لتصدُّره وإضفائه الشرعية على الفصل العنصري من خلال التعاون مع نظام جنوب إفريقيا- أن يكون ضيفاً متكرر الزيارة لإسرائيل.
عندما قاطع العالم بأَسره كيانات بانتوستان المزيفة، حشدت إسرائيل، بدافعٍ من الرغبة في التعاون الأمني ولكون جنوب إفريقيا سوقَ تصدير لصناعة الأسلحة الخاصة بها- لدعم نظام الفصل العنصري. وهكذا بدأ التعاون الأمني الإسرائيلي مع جنوب إفريقيا عام 1974، ولم ينتهِ إلا بانتخاب نيلسون مانديلا في عام 1994.
كانت العلاقة التي استمرت 20 عاماً، واسعة النطاق وشملت التطوير المشترك للأسلحة بين البلدين، والإمداد الإسرائيلي بالتدريب العسكري والأسلحة لجنوب إفريقيا. في الواقع، كانت جنوب إفريقيا في بعض الأحيان أكبر مشترٍ للأسلحة الإسرائيلية. وكان هذا التعاون مستمراً منذ ما يقرب من عقدين من الزمن حين أصبحت سفيراً، وكان من التعقيد لدرجة أنني وإن كنت السفير، لم أكن حريصاً على تتبُّع تفاصيله، التي نسقتها إلى حد كبيرٍ وزارة الدفاع، لا وزارة الخارجية. ومن خلال هذا التعاون، أصبحت إسرائيل أحد أقرب حلفاء جنوب إفريقيا إليها اقتصادياً وعسكرياً ودبلوماسياً، واستجابت لطلبها المساعدة فيما يتعلق بتطوير البانتوستانات.
في النهاية، بالطبع، سقطت البانتوستانات، ومعها نظام الفصل العنصري، ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى أنشطة المعارضة المنظمة دولياً لها وعدم الاعتراف بها، والتي شملت الضغط والمقاطعة، وذلك على الرغم من جماعات الأفريكان الداعية إلى تفوق العرق الأبيض والتي أخذت تدافع عن البانتوستانات حتى أيام التفرقة العنصرية.
لماذا لن تنجح صفقة القرن العنصرية؟
لقد بات من الواضح الآن بالطبع أن محاولات تبييض سمعة نظام تمييزي قمعي عن طريق إنشاء دول ذات حكم ذاتي وهمي يسكنها أشخاص لا يتمتعون بأي حقوق سياسية حقيقية، لم تنجح في جنوب إفريقيا ولن تنجح بأي مكان آخر.
هذا الدرس، ومع كل ما مضى، يُعاد اختباره مرة أخرى الآن. إذ تسعى إسرائيل بدعمٍ فعال من الولايات المتحدة وعلى هيئة ما يسمى “صفقة القرن” التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى تقديم وتطوير نسخة الألفية الجديدة من سياسة جنوب إفريقيا القديمة التي لا تستحق سوى الذكر بالإدانة.
ومؤخراً في البيت الأبيض، منح ترامب هديةً أخرى لصديقه المقرب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قبل الانتخابات التي تجري بإسرائيل في 2 مارس/آذار، معلناً خطةً وضعها صهره ومبعوثوه دون أي حضور فلسطيني.
وتُبيّن تفاصيل الخطة المقترحة والخطاب الذي استخدمه كل من ترامب ونتنياهو، أنها لم تكن صفقة وإنما تطبيق لخطة نتنياهو طويلة الأمد المتعلقة بترسيخ سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية عن طريق إعطاء سكانها جيوباً منفصلة من الأراضي من دون ضمانات لحرية حقيقية أو الحد الأدنى من الحقوق السياسية. وقد كان هذا بالتحديد الهدف ذاته عندما استخدمت لأجله حكومة جنوب إفريقيا سياسة البانتوستانات قديماً.
ولم يكتفِ ترامب بمحاولة تسليم صديقه قرابة ثلث الضفة الغربية؛ بل حاول أيضاً، وربما أساساً، منحَ نتنياهو طريقاً نحو قبول دولي بالخطة. وعلى غرار اعتراف الولايات المتحدة بسيادة إسرائيلية على هضبة الجولان، ونقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس، يواصل ترامب بسياساته الإشارة إلى أنه يستطيع إلغاء -وأنه سيلغي- السياسات التي لطالما احترمها المجتمع الدولي، ليقرَّ مكانها سياساته الخاصة.
هذه أخبار سيئة لملايين الفلسطينيين، لكنها ليست كذلك لهم وحدهم، فقد أقرت الأمم المتحدة، وعلى امتداد سنوات طوال، أن تقسيم الأرض بين نهر الأردن والبحر المتوسط إلى دولتين مستقلتين هو الحل الوحيد العادل والمستدام.
لا حل سوى إنهاء الاحتلال
ويستند هذا الحل إلى اعتقاد أن جميع الأفراد الذين يبلغ عددهم 14 مليوناً ويعيشون حالياً على تلك الأرض، لهم الحق في الاستقلال والمساواة والكرامة، وأن الطريقة الأفضل لتحقيق هذه النتيجة هي إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، القائم الآن لأكثر من نصف قرن، والعودة إلى تقسيم الأرض على أساس ما قبل عام 1967.
وقد أعربت مؤسسات بارزة، مثل الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية مراراً وتكراراً، عن دعمها لهذه الخطة والتزامهم إياها، وكذلك فعلت الإدارات الأمريكية السابقة، سواء أكانوا جمهوريين أم ديمقراطيين. ومن المؤسف أن التزام المجتمع الدولي المعلن حل الدولتين لم يظهر حتى الآن بأي شكل؛ وهو الأمر الذي ربما دفع نتنياهو وترامب إلى استنتاج أن الأوضاع مهيَّأة ولا شيء يحول دون تنفيذ خطتهما.
الخريطة المرفقة بخطة ترامب هي محاكاة لنموذج بانتوستان، حيث الأراضي الفلسطينية المشتتة محاطة بمناطق تخضع بالكامل للسيطرة الإسرائيلية، وهو ما يقر الهيمنة الدائمة لجماعة عرقية أو دينية على الأخرى. ومن ثم ينتهك المبادئ التي تستند إليها قواعد النظام الدولي القائم، وهو ما يشير إلى أن ترامب يعتقد أن بإمكانه تجاهل القانون الدولي وإضفاء الشرعية على نموذج جديد لدولة الفصل العنصري في القرن الحادي والعشرين. ومن ثم فإن هذا العرض المتغطرس يجب أن يقابله ردٌّ صريح وواضح.
منذ ثلاث سنوات فقط، تبنى مجلس الأمن الدولي القرار 2334، مؤكداً فيه أن المستوطنات القائمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قانونية، وأنه لن يكون هناك اعتراف بأي تغييرات من جانب واحد على حدود ما قبل عام 1967. للرد على ترامب ونتنياهو، وبالنظر إلى إعلان الأخير عن خطط لضم أراضٍ أخرى في غضون بضعة أشهر، يجب على القادة الإقليميين والغربيين والمؤسسات الدولية الكبرى أن يرفضوا ذلك بوضوح وبصوت عالٍ.
لا ينبغي لأحد أن يعطي، ولو موافقة ضمنية، على هذا النموذج الجديد من الفصل العنصري والأيديولوجية التي يقوم عليها. إذ إن أي إقرار لذلك لن يخون فقط إرث وفاعلية المقاومة الدولية لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وإنما يخون أيضاً مصير ملايين من الأشخاص الذين يعيشون بإسرائيل وفي الأراضي التي ينبغي أن تكون دولة فلسطينية مستقلة حقاً.