الشاعرة منال الصناديقي تكتب: خطوة على طريق الإنسانية
هل فقدنا إنسانيتنا حتى مع أنفسنا ؟!
سؤال ألح علىَّ بشدة عقب حادثتي انتحار سمعت عنهما إحداهما لشاب ألقى بنفسه من برج القاهرة، والثانية لشاب انتحر تحت عجلات المترو…!!
الحادثتان كانتا مريعتين وخاصة مع تداول رواد الفيس بوك مقطع الفيديو الخاص بالمنتحر الأول بشكل مكثف، وحين شاهدته وساد الحزن قلبي تساءلت ما الذي يدفع إنساناً في كلية الهندسة لفقد إنسانيته مع نفسه وقتلها…!!
عندئذ تأملت الماضي البعيد؛ وكيف كانت علاقاتنا الإنسانية في أوج درجات زهوتها ورقيها.
كان صغيرنا يوقر كبيرنا، والكبير يرحم الصغير، والجار يعلم حق جاره ويحافظ على حرمته ومشاعره؛ والأسرة تجتمع دوماً على المحبة وخاصة في الأعياد والمناسبات، عشنا في وقت ما حياة حقيقية بدفء مشاعرها وعمق علاقاتها.
ولا أدري لما عُدتُ بذاكرتي إلى أبعد من ذلك بكثير.. وتذكرت كيف عاتب الله عز وجل رسوله الكريم (نبي الإنسانية) في كفيف حين ذهب إليه قائلاً: أرشدني؛ وكان عند رسول الله عظماء المشركين فأعرض عنه، وعبس في وجهه، وتولى، وأقبل على الآخرين يرشدهم ليؤمنوا؛ فأنزل الله عز وجل من فوق سبع سموات (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى)؛ عندئذ أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلَّمه، وقال له:” ما حاجَتُك، هَلْ تُرِيدُ مِنْ شَيءٍ؟”.. وكأن الله عز وجل أراد أن يُكِرمَ عبده الصالح الكفيف بحسن سعيه والمشقة التي صاحبت حالته الصحية للتعلم من نبينا الكريم، ويرحم رسول الله من هؤلاء القوم الذين لا يحرك الكلام فيهم ساكناً ليقبلوا على الإيمان.
بل أن سيدنا يوسف عليه السلام عفا عن إخوته بالرغم من كل ما فعلوه به من تدبير لقتله وإلقاءه في الجب والإفتراء عليه بأنه سارق وإبعاده عن أبيه – قرة عينه – في مثال حي لتحمل إبتلاءات الحياة التي قد لا يقدر عليها أحد، والعفو الإنساني عن من كانوا سبباً في ذلك حين نقدر عليهم لوصل الأرحام والحفاظ عليها وعلى أرواحنا مهما آذتنا الحياة ومن فيها.
لا أنكر أن لكل زمان جبابرته، ولكن حين تسبق الرحمة والإنسانية العدل، وحين يصاحبهما الصبر على الفتن والابتلاءات فهذا هو الرقي بعينه.
أعلم أن هناك حالات لا يمكن أن تُترَك بلا عقاب.. لأن مجابهة المجرمين وغير الأسوياء عين الإنسانية، وهذا يجعلني أحاول أن أفهم معكم من خلال هذا المقال ماذا حدث في مجتمعنا من تغيرات أدت إلى أن يقتل الإنسان نفسه أو غيره.
إن وسائل التواصل الإجتماعي ساهمت في جعلنا كقرية صغيرة كل من فيها يعرف ما فيها؛ وهذا مَكّن البعض من الترويج لنفسه بشكل خاطئ لحصد الكثير من الأموال عازفاً على جدار النفس البشرية التي تميل إلى مشاهدة كل ما هو غريب، فوجدنا من يرصد الحوادث ويبثها مباشرة دون محاولة للتدخل لإنقاذ من يتعرض لمكروه؛ كذلك الدراما التي روجت في كثير منها إلى العنف وقانون الغاب والإحباط بل والانتحار أحياناً إذا ما ضاقت الدنيا وعميت الروح عن حلول بديلة.
وفي رأيي أن العين حين تعتاد مشاهدة كل ما هو مثير ودموي يصبح الأمر عادياً فتفقد النفس إنسانيتها بالتدريج؛ ويرى البعض نتيجة لذلك أن هؤلاء الذين مازالوا يحتفظوا بإنسانيتهم هم الغرباء في هذا العالم؛ ولكني أختلف معهم قليلاً.. نعم هم غرباء ولكنهم عصب التوازن في عالمنا فلولا وجودهم لأصبحنا نعيش في غابة ستنهى الإنسانية حتماً قريباً، فكلما توحش العالم اقتربت النهاية…
ولذلك أعتبر أن محاولات البعض للترويج لمن يقومون بفعل إنساني يتصف بالرقي والشهامة، وتطبيق روح القانون مع من يستحق، وكذلك من يقدمون نماذجاً تحدت الصِعاب وكل العَقبات ونجحت لتكون قدوة ومثالاً للفخر لكل الأجيال هو رحمة بثت في نفوس هؤلاء البشر لتعيد كفة ميزان الحياة إلى وضعه الصائب، ولكنا مازلنا نحتاج إلى مزيد ومزيد من هذا الفعل لتحقيق توازن إنساني حقيقي هذه الأيام ليصنع لدى نفوسنا أملاً في غَد يستحق أن نعيشه ولا نفرط في أرواحنا بسهولة.
*شاعرة مصرية