هل تخسر إيران كل شيء بإصرارها على فرض نفوذها رغم أنف الشعوب الثائرة؟
ترى إيران أن الاحتجاجات في لبنان والعراق ليست إلا مؤامرة تستهدف نفوذ طهران في المنطقة، وعلى هذا الأساس تتصرف، لكن تنامي الغضب الشعبي في البلدين ينذر بعواقب وخيمة للنظام الإيراني، فما القصة؟
موقع ستراتفور الأمريكي أعدَّ تحليلاً حول القصة بعنوان: «إيران والمغالاة في التطلعات الإمبريالية»، ألقى فيه الضوء على كيفية التعامل الإيراني مع ما يجري على الأرض في كل من لبنان والعراق، من خلال نظرية المؤامرة التي تستهدفها.
كيف اشتعلت النيران في الإمبراطورية؟
تشتعل النيران في الإمبراطورية التي شيَّدتها إيران بشق الأنفس، من العراق إلى لبنان، مع انتشار الاحتجاجات المناهضة للحكومة كالنيران في الهشيم، مُهدِّدة حلفاء الجمهورية الإسلامية ووكلاءها. وفي ضوء هذا، يواجه المرشد الأعلى لإيران آية الله علي خامنئي معضلة تتمثل في: هل تستخدم طهران، التي تخضع لعقوبات اقتصادية أمريكية قاسية مواردها المحدودة للحفاظ على استقرار حلفائها ووكلائها في المنطقة، ومن ثم تجازف بتفاقم الأوضاع والاضطرابات الاجتماعية سوءاً داخل إيران، أو هل تدع حلفاءها يواجهون مشاكلهم بأنفسهم، وتخاطر بالدخول في صراع مع الحرس الثوري الإيراني الذي يعتمد عليه استمرار خامنئي في سلطته؟
تعكس تصريحات قادة الحرس الثوري الإيراني تفضيلهم خيار دعم حلفائهم ووكلائهم، وتشير تعليقات خامنئي الأولى على المسألة إلى أنه يميل للانحياز لجانب الحرس الثوري الإيراني. ويبدو كذلك أنه يعيد تعريف دور الجيش النظامي للدولة، ليتكيف مع بيئة التهديدات المتغيرة، وربما يهدف من ذلك أيضاً لتقليل اعتماد نظامه على الحرس الثوري الإيراني. وبغضّ النظر عن جهود خامنئي، فقد يكون ما تمر به إيران الآن هو ذروة المغالاة في تطلعاتها الإمبريالية التي ستدفعها نحو الانهيار الاقتصادي.
ما أسباب الاحتجاجات في العراق ولبنان؟
وفي العراق، بدأت المظاهرات في الأول من أكتوبر/تشرين الأول؛ احتجاجاً على الفساد المستشري وارتفاع معدلات البطالة، لكن لم يمضِ وقت طويل حتى تصاعدت إلى مطالبات بإطاحة الحكومة ووقف التدخل الإيراني في الشأن الداخلي للعراق. ولم تُفلح تعهدات الحكومة بتعيين مزيد من الموظفين في الجهاز الإداري للدولة، ولا محاولات قمع الاحتجاجات، ولا ارتفاع الخسائر في الأرواح في إقناع المتظاهرين بإخلاء الشوارع. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت استقالة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي التي أعلن استعداده تقديمها ستساعد على تهدئة الوضع أم لا.
أما المظاهرات في لبنان فاندلعت في 17 أكتوبر، عقب عدة أشهر من الاستياء العام من السياسات التقشفية التي تبنَّاها رئيس الوزراء سعد الحريري، وكانت الشرارة التي أشعلتها هي مقترح الحكومة بفرض ضريبة على تطبيق الخدمة الصوتية والرسائل «WhatsApp». وخلافاً لرغبة ميليشيا حزب الله اللبنانية، أعلن الحريري استقالته، في خطاب مُتلفز، في 29 أكتوبر/تشرين الأول. ومع ذلك، تستمر الاحتجاجات في لبنان، مع تردد تقارير عن وقوع اشتباكات بين المحتجين وأنصار حزب الله.
وتثير هذه التطورات قلقاً شديداً في الجمهورية الإسلامية، التي لا تخشى فحسب من النَكّبة التي ستحل على حلفائها ووكلائها في العراق ولبنان، بل أيضاً من زحف الاحتجاجات إلى داخل إيران نفسها، التي عمَّت أنحاءها احتجاجات حاشدة في شهري ديسمبر/كانون الأول 2017، ويناير/كانون الثاني 2018.
هل هي مؤامرة أمريكية-إسرائيلية-سعودية فعلاً؟
يتهم قادة الحرس الثوري الإيراني القوى الأجنبية لكونها الدوافع الرئيسية وراء الاحتجاجات. في 27 أكتوبر/تشرين الأول، أعلن الجنرال إسماعيل كوساري، نائب قائد قوات الحرس الثوري الإيراني، المكلفة بحماية الأمن الداخلي الإيراني، أن «للناس مطالب مشروعة في لبنان والعراق، ولكن السعودية والولايات المتحدة الأمريكية والنظام الصهيوني لديهم أناسهم من بين المتظاهرين، الذين يحرصون على أن ينحرفوا عن مطالب المتظاهرين».
وعلى نفس المنوال، شبَّه حسين أمير عبداللهيان، مساعد الشؤون الدولية للمتحدث البرلماني علي لاريجاني، في 29 أكتوبر، المستجدات، بمقدمة الحرب الأهلية في اليمن، واتهم الولايات المتحدة والسعودية بالانخراط في «الإرهاب السياسي». على جانب آخر، حذَّرَ حسن هاني زادة، المحلل السياسي الذي نقلت عنه وكالة فارس الإخبارية، والتي هي نفسها تعتبر لسان حال ناطقاً باسم الحرس الثوري الإيراني، في 30 أكتوبر، من «التآمر ضد «محور المقاومة» في إشارة إلى حلفاء الجمهورية الإسلامية في لبنان والعراق وسوريا. وزعم زادة أيضاً أن «أيدي عناصر نظام البعث والحركات الشيعية التي تعتمد على السفارة الأمريكية (في بغداد) ظاهرة تماماً في الاحتجاجات والتجمعات الأخيرة في العراق».
لا تختلف تصريحات خامنئي الأولى بشأن هذا الموضوع اختلافاً كبيراً عن تصريحات قادة الحرس الثوري الإيراني والمتحدثين باسمه. ففي كلمته أمام أكاديمية ضباط الدفاع الجوي في 30 أكتوبر/تشرين الأول، حثَّ خامنئي «أولئك الذين يهتمون بالعراق ولبنان» على «علاج انعدام الأمن» مضيفاً: «يجب أن يعلم سكان هذين البلدين أن العدو يحاول خلق فراغ عن طريق تعطيل الهياكل القانونية، والطريق الوحيد أمام الناس لتحقيق مطالبهم المشروعة هو من خلال السعي وراءها في نطاق الهياكل القانونية».
وعلَّق خامنئي أيضاً على خبرات إيران مع الاحتجاجات السياسية قائلاً: «كان لدى الأعداء مخططات مماثلة تجاه إيران الغالية، لكن لحسن الحظ دخلت الأمة اليقِظة الساحة في الوقت المناسب. وكانت القوات المسلحة هي الأخرى مستعدة، ونزعت فتيل المؤامرة». وأخيراً، تحدَّث خامنئي عن «المهمة الخاصة للقوات المسلحة»، مؤكداً على «وجوب اتخاذها الحذرَ من الفتنة، وضرورة أن يكون لديها الموقف والتأهب اللازمان للتصدي لها، لأن الفتنة أسوأ من الذبح والقتل».
كيف تستعد إيران للمواجهة؟
من غير الواضح ما إذا كان كبار المسؤولين هؤلاء يصدقون نظريات المؤامرة الخاصة بهم بشأن القوى الأجنبية التي تحرِّض على الاضطرابات في الشرق الأوسط، أم أن نظريات المؤامرة تلك تخدم فقط أغراض الدعاية. لكن بصفة خاصة، فإن تنويه خامنئي إلى استعداد «القوات المسلحة» في المعركة ضد «الفتنة»، يشير إلى وجود دور جديد للجيش الإيراني النظامي في الداخل والخارج.
تتألَّف القوات المسلحة لجمهورية إيران الإسلامية من الجيش والحرس الثوري الإيراني وقوة إنفاذ القانون (الشرطة). في تاريخها البالغ 40 عاماً، لم تستخدم الجمهورية الإسلامية الجيش لقمع المعارضين السياسيين في الداخل قط، كما لعب الجيش دوراً صغيراً في التدخل العسكري الإيراني في الحرب في سوريا. واضطلعت الشرطة أيضاً، على الأقل حتى ديسمبر 2017، بدورٍ محدود للغاية في قمع المعارضة الداخلية. إذ أمَّن الحرس الثوري الإيراني، بدلاً من الجيش أو الشرطة، بقاء النظام في مواجهة المعارضة الداخلية، وكان بمثابة الذراع القوية للنظام في العمليات العسكرية في الخارج.
هل ينضم الجيش للحرس الثوري؟
من الجلي أن الأوقات العصيبة تتطلَّب اتخاذ تدابير عصيبة، إذ ربما تعكس تصريحات خامنئي استعداده لكسر احتكار الحرس الثوري الإيراني لقمع المعارضة في الداخل، وربما حتى كسر احتكار الحرس الثوري الإيراني للعمل خارج حدود إيران.
ربما لا يحب الحرس الثوري الإيراني خرق احتكاراته، لكن تحت وجود ضغوط محلية ودولية متزايدة، ربما يستفيد من القوة البشرية المضافة التي يوفرها الجيش.
ولا ينبغي أن نغفل أن هناك أيضاً واقعاً اقتصادياً وراء الأمر. ووفقاً لتقديراتٍ إسرائيلية، فإن تورط الجمهورية الإسلامية لمدة 7 سنوات في الحرب في سوريا كلَّف إيران 16 مليار دولار. ومع الأخذ في الاعتبار الظروف الاقتصادية المتدهورة في إيران في أعقاب «حملة الضغط القصوى» للولايات المتحدة، هل يمكن للجمهورية الإسلامية تحمّل نفقات الدخول في صراعات جديدة في العراق أو لبنان؟ بعد كل شيء، فإن كل دولار تنفقه الجمهورية الإسلامية على إخماد تأجُج الاحتجاجات في العراق ولبنان، يُقتطع من الموارد النادرة اللازمة لإدارة إيران.
هل تتكرر تجربة الاتحاد السوفيتي؟
مع ذلك، ربما تقوم الجمهورية الإسلامية بما يلي بالضبط: استخدام الموارد الشحيحة خارج البلاد والمخاطرة بعدم الاستقرار في الداخل. يُذكَر أن اللواء قاسم سليماني، قائد الحرس الثوري الإيراني ورئيس عمليات فيلق القدس التي تتجاوز الحدود الإقليمية، يقوم بجهد نشط لمنع الإطاحة برئيس الوزراء العراقي، ومما لا شك فيه أنه مستعد أيضاً لإقراض الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله.
في كتابه عن انهيار الاتحاد السوفيتي، يناقش إيجور جايدار، وهو خبير اقتصادي روسي، كيف تبنت القيادة السوفيتية بصورة فعالة سياسة إغفال مشكلة انهيار أسعار النفط الخام في الثمانينيات بدلاً من معالجتها من خلال حل إمبراطورية أوروبا الشرقية، أو تنفيذ نظام تخفيضات جذرية في المجمع الصناعي العسكري، الأمر الذي تسبب في الكثير من المتاعب للعلاقات بين الحزب الشيوعي والجيش. يبدو أن خامنئي، حاله حال القيادة السوفيتية الاستعمارية السابقة، اختار بشكل فعال إغفال المشاكل الاقتصادية لإيران، ويخاطر نظامه بنفس مصير الاتحاد السوفيتي.