إسرائيل تكشف وثائق خاصة بجاسوسها التاريخي في دمشق إيلي كوهن
يواصل الموساد الكشف عن تفاصيل إضافية خاصة بملف “المحارب 88” المتعلق بجاسوسها في سوريا في ستينيات القرن الماضي إيلي كوهن، الذي ضبط وتم إعدامه في ساحة المرجة وسط دمشق، بعدما نجح بنسج علاقات وثيقة مع قيادات سياسية وعسكرية.
ونشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” حلقة جديدة حول هذا الملف، وفيها كشفت عن صور نادرة وتقارير للموساد عن كوهن الذي تعتبره أوساط في إسرائيل أخطر جاسوس لها.
كوهن الذي انتحل شخصية تاجر سوري مغترب في أمريكا الجنوبية يدعى كامل أمين ثابت سبق أن قام بالتدرب على التجسس في البلاد بعد 12 عاما من النكبة وقيام إسرائيل في 1948، منتحلا شخصية سائح يهودي يدعى “مناشيه” في القدس وحيفا، وأنيطت به مهمة الحصول على معلومات وتفاصيل عن الهجرات اليهودية من الوكالة اليهودية والقيام باتصالات مع جهات حكومية إسرائيلية.
وقبيل تجنيده كتب المسؤولون من داخل الموساد أنه مبادر وله قدرات على الفهم والتفكير وذاكرة جيدة جدا. وكانت عمليات التجسس في القدس وحيفا جزءا من تدريبات مرهقة لإعداده جاسوسا إسرائيليا في دمشق. كوهن الذي تعتبره أوساط في إسرائيل أخطر جواسيسها وشكل مصدرا لعدة كتب ولمسلسل تلفزيوني يبث في هذه الأيام لم تكشف كل تفاصيل قضيته بعد وفق “يديعوت أحرونوت”، التي تنشر بعضها استنادا لتقريرين أعدهما الموساد عن فعالياته بموجب آلاف الوثائق الأرشيفية.
ولماذا الآن وبعد 54 عاما من إلقاء القبض على كوهن وإعدامه؟ يتساءل معد التقرير الصحافي، الباحث في الشؤون الاستخباراتية، رونين بيرغمان، ويقول إن زوجة كوهن، ناديا كوهن، شقيقة الأديب اليهودي من أصل عراقي سامي ميخائيل، قد اتهمت الموساد طيلة سنوات بسقوطه.
شكوى ناديا كوهن
وكشفت الصحيفة أن ناديا كوهن شكت لرئيس الموساد السابق، تمير فاردو، بأن الموظف المسؤول عن التوثيق والأرشيف في الموساد قد قال عن زوجها إنه لم يقدم خدمات كبيرة لأمن إسرائيل، بل حمله مسؤولية انكشاف أمره بسبب إفراطه في إرسال تقارير استخباراتية من دمشق، منوهة أن إسرائيل تواصل السعي للعثور على جثمان كوهن بعدما تمكنت من استعادة ساعة يد خاصة به.
ويوضح تقرير الموساد عن كوهن حيوية المعلومات التي وفرها من سوريا التي شهدت وقتها عدم استقرار في ظل انقلابات كثيرة وكان كوهن يضع يده على النبض فيها. وحسب تقرير الموساد قدم كوهن معلومات هامة ودقيقة ساعدت في فهم الحالة السائدة في سوريا في فترة كانت عملية جمع المعلومات الاستخباراتية مهمة صعبة.
ولد كوهن في الإسكندرية عام 1924 لوالدين أصلهما من حلب، واعتقل في مصر على خلفية نشاطاته الصهيونية ومنع من مغادرتها، ولذا هاجرت عائلته، وبقي هناك سبع سنوات. وفي 1951 التقى رجل استخبارات إسرائيليا وصل مصر لتجنيد عملاء ومقاتلين للقيام بأعمال إرهابية تزعزع حالة الاستقرار في مصر تحت حكم الملك فاروق، وبعد التعرف عليه لم يتم تجنيده لكونه شخصية محبة لقضاء ساعات من الترفيه في المطاعم والمقاهي ويتمتع بروح نكتة وشخصية كريزماتية من الصعب أن ينساه كل من يلتقيه.
وبعد سنوات قليلة ضُبط عملاء إسرائيليون بعد عمليات إرهابية في مصر، لكن كوهن نجا من الإعدام الذي ناله أفراد الخلية الإسرائيلية. وحسب تقرير الموساد فإن المخابرات المصرية اعتقلته وقتها بعدما اكتشفت علاقة له مع أحد أفراد الخلية، لكنها لم تنجح بالربط بينه وبين العمليات الإرهابية رغم أنه قدم مساعدات لها رغم القرار بعدم تجنيده. وحسب تقرير الموساد ذهب كوهن لسيناء وحاز على أسلحة لأفراد الخلية الإسرائيلية التي استخدمت شقته أيضا في الإسكندرية، وبعد حرب السويس طردته مصر مع عدد من اليهود، وفعلا وصل البلاد في فبراير 1957.
تاجر سوري
وفي البلاد تم تجنيد كوهن للاستخبارات العسكرية كمترجم، وما لبث أن طلب تشغيله في مهمة تجسس، ورفض طلبه خوفا من كشف أمره بعد اعتقاله في مصر سابقا، وعندئذ تزوج في 1959، وبعد عام تم تجنيده، وشرع الموساد بإعداده داخل شقة في تل أبيب كـ”تاجر سوري مقيم في الأرجنتين” قبيل إرساله لدمشق. وخلال تأهيله تم تثقيفه بمواد حول الإسلام والتاريخ العربي، علاوة على تعلم إرسال تقارير سرية بالشيفرا وتعلم التصوير وإخفاء الأجهزة واستخدام متفجرات، وحاز كوهن على علامات عالية لدى مدربيه والأخصائيين النفسيين الذين رافقوه مع تسجيل بعض التنبيهات.
وتنقل “يديعوت أحرونوت” عن موطي كفير أحد مدربيه قوله إنه حذره من البروز الزائد في الحفلات واللقاءات، لكنه فعل العكس، وهذا شق الطريق لانكشاف أمره. وتقول إن وداعه لزوجته وطفلته صوفي قبيل سفره للأرجنتين من أجل التدرب على انتحال شخصية كامل أمين ثابت كان صعبا، خاصة أنها لم تعرف إلى أين ذهب، وتم تعيين ضابط مسؤول عن المراسلات بين الزوجين كي تبقى مهمة كوهن طي الكتمان. وحسب التقرير تم إعداد رسائل مسبقا ووقعت بتواريخ مختلفة قبل سفره لبوينيس آيريس.
في الأرجنتين
وفي الأرجنتين تداخل مع مهاجرين سوريين بعدما تعرف على البلاد بواسطة أحد مشغليه من الموساد هناك، وشرع في تعلم الإسبانية، وفي أبريل/نيسان 1961 حاز كوهن على جواز سفر أرجنتيني وشهادة بإنهاء الخدمة العسكرية في جيشها. في رسالة له للموساد في تل أبيب قال كوهن إنه مرتاح ونجح بـ”تغيير جلده، وتحول لكامل أمين ثابت: مسلم من مواليد بيروت انتقل طفلا في الثالثة من عمره مع أسرته للإسكندرية، وفي 1947 انتقلت عائلته من مصر لإيطاليا، وفي العام التالي هاجر للأرجنتين حيث بقي هناك، فيما عاد والده وأمه لبيروت وماتا فيها تاركين ورثة له في لبنان يستعد للحصول عليها قريبا”.
بعد ذلك بدأ “أمين كامل ثابت” يذهب لمطعم “المصري” في بوينس آيريس مكان لقاء المغتربين من سوريا، وبالتدريج بدأ ينسج شبكة علاقات معهم، ومنهم شاعر لبناني يدعى يوسف يونان، وما لبث أن تعرف على كل رواد المطعم، وبات ضيفا بارزا جدا هناك، ويعدون له أفضل مائدة طعام وكأنه صديق قديم للجميع كما يستدل من رسالة أخرى له من هناك للموساد. وتابع: “أشعر وكأنني في سينما، ويوما عن يوم أتعلم أمورا جديدة”.
وفي تل أبيب كان الموساد يعد له آليات التجسس في دمشق مع سجل مهمات، منها متابعة معسكر القيادة العامة للجيش السوري في دمشق ومعسكرات أخرى في محيطها، وجمع مؤشرات على استعدادات لحرب كتحركات لوجستية وتجنيد مراكب وشاحنات وإخلاء مستشفيات مدنية ووقف إجازات داخل الجيش وإلغاء مساقات تعليمية وتجنيد للاحتياط وتحركات للجيش.. إلخ.
من جنوا إلى بيروت
بالتزامن كان كوهن يواصل مساعيه لإتقان انتحال الشخصية المزورة، وقال في رسالة أخرى إنه يتعرف على سوريين كثر ويقضي معهم أوقاتا ويدأب على مطالعة الكتب في الليالي ويحسن لغته العربية وفتح حسابا في البنك السوري- اللبناني وأخذ يشيع أنه يستعد للسفر لسوريا ولبنان لدوافع وطنية. بعد ذلك وصل كوهن للبلاد ومكث هنا خمسة شهور، قبل أن يطير لألمانيا لاستكمال إجراءات بناء شركة تجارية للاستيراد والتصدير والاستعداد للقيام بدور “رجل الأعمال الراغب بفحص إمكانيات الاستثمار في سوريا بالوكالة عن رجال أعمال أوروبيين”.
من ألمانيا انتقل لزيوريخ حيث التقى مع قادة من الموساد وتلقى منهم تقنيات تجسس وجهازي إرسال، وفي يناير 1962 سافر على متن سفينة من مدينة جنوا إلى بيروت، وفي الطريق توقف في الإسكندرية مسقط رأسه، وهناك وبخلاف تعليمات الموساد نزل منها وتجول في المدينة لعدة ساعات بعدما سلم ضابطا مصريا جوازه الأرجنتيني. وفي الطريق من الإسكندرية لبيروت واصل كوهن التعرف على شخصيات سورية نخبوية منها ماجد شيخ الأرض، وهو موظف في منظمة اليونسكو يملك مزرعة قريبة من دمشق، وسرعان ما تصادقا، وفي بيروت ركب كوهن بسيارة شيخ الأرض إلى دمشق، وقبيل وصولهما للحدود هاتف الأخير صديقه في المخابرات السورية طالبا منه الحضور كي يجتاز الحدود دون تفتيش. وتتابع “يديعوت أحرونوت” بالقول: “شاء القدر أن يدخل كوهن دمشق بمساعدة المخابرات السورية”.
في دمشق
وفي دمشق استقر كوهن في غرفة داخل فندق “أمبسادور” ثلاثة أسابيع حتى نجح بالعثور على شقة قريبة من معسكر القيادة العامة للجيش، مما أتاح له تشغيل جهاز إرسال لا سلكي. وبنهاية المطاف وجد شقة مفروشة في الطابق الرابع داخل عمارة في حي “أبو رمانة” الدمشقي، وفي فبراير/شباط أرسل أولى إرسالياته المشفرة.