سياسات بوريس جونسون قد تؤدي إلى اختفاء المملكة المتحدة من الوجود كدولة موحدة
يقدم بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا الجديد، نفسه كنموذج للبريطاني المخلص الذي يحب بلده بشدة، ولكن سياسات جونسون قد تؤدي إلى اختفاء المملكة المتحدة من الوجود كدولة موحدة.
رسالة جونسون للناخبين أنه يحب الاتحاد الجامع بين الدول الأربع المؤلِّفة للمملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية، ولكن سياساته بشأن ضرورة إتمام الانفصال عن الاتحاد الاوروبي بأي ثمن قد تؤدي إلى تفكك بريطانيا العظمى، حسبما ورد في تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
والاسم الرسمي للمملكة المتحدة هي المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية، وهي تتكون من أربعة بلدان هي: إنجلترا واسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية، يوجد لدى كل منها حكومات خاصة بها باستثناء إنجلترا (حكومتها هي حكومة المملكة المتحدة) مع صلاحيات متباينة.
ماذا حدث له عندما زار أقاليم المملكة؟
من سوء حظ جونسون، ليس هذا الحب بينه وأقاليم المملكة المتحدة متبادلاً على الدوام.
ففي أثناء زياراته إلى الدول الأربع الأسبوع الماضي، واجه جونسون عدداً من المتظاهرين المستائين من شعار «لنفعلها أو لنَمُت» الذي رفعه في التعامل مع بريكست.
ولم يخفِ جونسون التزامه بمغادرة الاتحاد الأوروبي يوم 31 أكتوبر المقبل. وقال بوضوحٍ تامٍّ إنه سيفعل ذلك من دون اتفاق.
في إسكتلندا، صدرت ضده صيحات استهجانٍ من مناصري الاتحاد الأوروبي ومناصري الاستقلال الإسكتلندي.
وقد صرحت نيكولا ستيرجن -رئيسة وزراء إسكتلندا وزعيمة الحزب القومي الإسكتلندي المناصر للاستقلال- لوسائل الإعلام المحلية بأن جونسون لم يملك «الجرأة» على مواجهة الشعب الإسكتلندي في أثناء زيارته.
وفي ويلز، انتُقد جونسون لعدم امتلاكه خطةً للحيلولة دون وقوع أسوأ توابع «بريكست بلا اتفاق»، لا سيما التوابع التي ستُلحق بالفلاحين الويلزيين. ومن جانبه قال مارك دريكفيلد، رئيس وزراء ويلز، إن جونسون أبدى «جهلاً بالتفاصيل يثير القلق بشدة».
وفي أيرلندا الشمالية، التي تواجه أخطر عواقب الخروج من الاتحاد الأوروبي بلا اتفاق -بسبب إقامة حدودٍ فعليةٍ مع جمهورية أيرلندا والواقع المرعب لعودة أيام العنف الطائفي السوداء- رحَّب المتظاهرون بجونسون رافعين لافتاتٍ تقول إن «بريكست تعني حدوداً».
إلى جانب ذلك، فهو لا يتمتع بحب الجماهير في مستعمرة أيرلندا الشمالية بعد مقارنته عبور الحدود بالتنقُّل بين أقسام لندن، في تجاهلٍ تامٍّ للصراع الممتدِّ منذ عقودٍ الذي أسفر عن موت 3,000 شخص.
وكان جونسون قد اقترح وهو وزير خارجية قائلاً: إن المملكة المتحدة يمكن أن تحرص على تطبيق نظام غير مرئي في نقاط التفتيش عبر الحدود بين أيرلندا الشمالية (التابعة للمملكة المتحدة) وبين أيرلندا الجنوبية التي تعد جزءاً من الاتحاد الأوروبي.
وقال إن السفر عبر الحدود الأيرلندية الشمالية، يمكن أن يكون بسهولة السفر بين أحياء العاصمة البريطانية لندن، مقارناً نظام مراقبة الحدود في المستقبل بقضية فرض دفع رسوم على الازدحام الذي قدمه عمدة لندن.
وقد استمر سلوكه غير المبالي نحو عملية السلام مع أيرلندا الشمالية في أثناء حملته الانتخابية حين بدا على جهلٍ بالتفاصيل المتشابكة لإعادة إحياء الترتيبات المعطلة لتشارك القوى السياسية الأيرلندية.
ويمثِّل هذا مشكلةً لرئيس وزراءٍ يراهن بمنصبه على شيئين: تحقيق بريكست مهما حدث يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول، وتوحيد بلاده.
يُعدُّ الحفاظ على اتحاد المملكة من الأهداف الأساسية للحزب الذي يقوده الآن جونسون، الذي يُسمَّى رسمياً بحزب المحافظين والاتحاديِّين. إلا أن الاتِّحادية ليس مذهباً جذاباً كما كان في الماضي بين جموع الناخبين البريطانيين، وقد ثبت هذا بالأخصِّ بعد استفتاء بريكست.
سياسات جونسون قد تؤدي إلى اختفاء المملكة المتحدة.. الإنجليز هم السبب
يقول روب فورد، أستاذ علم السياسة بجامعة مانشستر: «لن أتفاجأ إطلاقاً إذا اعتبر المؤرِّخون مستقبلاً عملية (بريكست) بلا اتفاقٍ هي الحدث الذي مزَّق المملكة المتحدة».
وفسَّر فورد ذلك بأن أقوى دعمٍ لبريكست ينبُع من الناخبين الإنجليز القوميِّين، الذين لا يحبون الاتحاد كثيراً (الاتحاد بين أعضاء المملكة المتحدة).
وأضاف: «لا يعتبرون الاتحاد مثيراً لاهتمامهم. وحين يرونه عقبةً أمام تطبيق اتفاق الانفصال عن أوروبا (بريكست)، ليس عندهم مشكلة في هذه الحالة في اعتبار الاتحاد بين أجزاء المملكة شيئاً يجب التخلص منه».
لذلك، في إنجلترا أعلى دول المملكة المتحدة كثافةً سكانيةً وأشدها قوةً- يقترن اسم بريكست بقضية «إنجلترا أولاً» أو «بريطانيا أولاً». وهنا مربط الفرس.
في إيرلندا الوضع مختلف الاتحاديون مؤيدون للبريكست
فما وراء البحر الأيرلندي، يبدو الوضع مختلفاً للغاية. إذ إن أعلى الأصوات الداعمة لبريكست في أيرلندا الشمالية تأتي من الاتحاديِّين، الذين يرفضون تماماً التفكير في أي نوعٍ من الانفصال عن برِّ المملكة المتحدة الرئيسي.
وإذا كان الاختيار بين إقامة حدودٍ بين جمهورية أيرلندا أو حدودٍ بحريةٍ مع بريطانيا، فسيختارون الأولى دوماً.
وعلى الجانب الآخر نجد أنصار الجمهورياتية الأيرلندية، الذين يفضِّلون عدم وجود أية حدودٍ بين نصفَي أيرلندا مهما كان الثمن. ويودُّ أكثر الجمهوريين الأيرلنديين تشدداً في النهاية أن تعود أيرلندا الشمالية إلى أحضان سائر أيرلندا.
وقد أكَّد استقصاءٌ صدر حديثاً من Northern Ireland Life and Times أنه في سياق بريكست، ما زال من يعتبرون أنفسهم أيرلنديين يؤيِّدون توحيد أيرلندا، بينما أولئك الذين يشعرون بانتماءٍ أكبر إلى بريطانيا قد عزَّزوا معارضتهم لتوحيد شطري الجزيرة.
المحايدون يتعرضون للاستفزاز
ولكن أوضح الاستقصاء أيضاً أن الأعوام العشرين الماضية شهدت زيادةً غير مسبوقةٍ في أعداد المواطنين الأيرلنديين الذين لا يعتبرون أنفسهم اتحاديين ولا جمهوريين.
ومع أن هذه الطائفة ليسوا أنصاراً نشطين لتوحيد أيرلندا، فقد بدؤوا يرونه نتيجةً حتميةً لبريكست بلا اتفاق.
ببساطةٍ، «من يتعاطفون بالفعل مع وحدة أيرلندا يقولون إن الانفصال عن الاتحاد الأوروبي يشعرهم بالإقبال علي الوحدة الإيرلندية أكثر، بينما من يعارضون بالفعل وحدة أيرلندا يقولون إن بريكست تزيدهم اعتراضاً»، على حد قول كاتي هايورد، الزميلة الباحثة بفريق UK in a Changin Europe البحثي.
وفي إسكتلندا الوضع أخطر.. أنصار الاتحاد الأوروبي هم الانفصاليون
على الجانب الآخر، يقول روب فورد إن في إسكتلندا «تتماشى معارضة الاستقلال الآن مع دعم بريكست».
ويوضِّح أن الحزب القومي الإسكتلندي حين وافق على تنظيم استفتاءٍ ثانٍ للاستقلال لأجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، كان لسان حال الشكوكيين الأوروبيين (أي رافضي الأوروبانية) الإسكتلنديين يقول: «لم عسانا نستبدل حُكماً من بروكسل بالحُكم من لندن؟»
وقد فتح ذلك الباب على مصراعيه لكي تصبح نيكولا ستيرجن -رئيسة وزراء إسكتلندا وزعيمة الحزب القومي الإسكتلندي المناصر للاستقلال هم حزب البقاء في إسكتلندا.
يُذكر أن إسكتلندا قد عقدت استفتاء استقلالٍ في 2014. وكانت نتيجته التصويت على البقاء ضمن المملكة المتحدة بفارق 55% إلى 45%. وآنذاك وُصف بأنه استفتاءٌ «لا يُعقد إلا مرةً كل جيل». ثم جاءت بريكست.
حين تضع في الاعتبار أن 62% من الإسكتلنديين قد صوَّتوا على البقاء في الاتحاد الأوروبي وأن حزب المحافظين الذي يتزعَّمه جونسون مهووسٌ الآن بأصعب أشكال بريكست، يتضح لك لما يشعر القوميون الإسكتلنديون بالتفاؤل حيال عقد استفتاء استقلالٍ ثانٍ.
إذ يفترض أن البريكست سيعزز النزعة الانفصالية الإستكتلندية عن بريطانيا.
إذاً، في أيرلندا الشمالية وإسكتلندا، قد تنفر أغلبيَّتا تأييد البقاء (56% و62% على التوالي) من نزعة جونسون الاتحادية. ولكن الصورة مختلفةٌ قليلاً في ويلز، التي صوَّتت على الخروج من الاتحاد الأوروبي ولا تملك حركةً قويةً تنادي بالاستقلال.
ويلز تريد البقاء ضمن بريطانيا، ولكنها تكره بوريس وحزبه
كن ما تملكه ويلز هي حركةٌ قوميةٌ قويةٌ تستنكر طوال تاريخها حزب المحافظين وتبغض خطاب جونسون عن الخروج بلا اتفاق.
فأكبر مشاكل جونسون هنا هي إقصاء هؤلاء الناخبين ومن ثمَّ سيؤدي ذلك إلى منح مزيدٍ من مقاعد البرلمان الويلزي لأحزاب المعارضة.
من الأمثلة على هذا الانتخابات التكميلية المعقودة يوم الثلاثاء 30 يوليو/تموز الماضي في دائرة بريكون ورادنورشير الويلزية، حين سُحب مقعدٌ برلمانيٌّ من أحد مشرِّعي جونسون.
ورغم ارتفاع أرقام حزب المحافظين في استطلاعات الرأي، يبدو أن التقارير المبهورة عن «قفزة بوريس» كانت سابقةً لأوانها.
إذاً في نهاية المطاف، يمكننا اختزال رئاسة وزراء بوريس جونسون في صراعٍ بين الحركات القومية داخل الدول المشكلة للمملكة المتحدة.
وإذا استشهدنا بأيامه الأولى في منصبه، فمعنى ذلك مضاعفة التركيز على الأصوات الإنجليزية.
وكما يوضح روب فورد، «بالنسبة إلى أي جماعةٍ قوميةٍ أخرى، فإن القوميين الإنجليز لهم نصيب الأسد في الصراع بين جميع قوميِّي المملكة المتحدة. ويمكنهم إطاحة أي أحدٍ آخر من الحلبة».
لا يبدو من المرجَّح أن تنجح سياسة «لنفعلها أو لنمت» التي يتبنَّاها جونسون بشأن التعامل مع بريكست في تخفيف التوترات في أركان المملكة المتحدة الأربعة، على الأقل قبل تنفيذ بريكست. وإذا نودِي فجأةً بتنظيم انتخاباتٍ -وهو شيءٌ يتوقعه معظم الراصدين في المملكة المتحدة- فربما لا تكون استمالة الاتحاد بأكمله استراتيجيةً انتخابيةً حكيمة.
وإذا أطاح الأسد الإنجليزي بسائر المملكة المتحدة بالفعل من الحلبة، فربما يقرِّر إخوته الأصغر عدم الرجوع إليه. وهناك احتمالٌ قويٌّ جداً لئلا يكترث الناخبون الإنجليز بالمخاطر التي تهدد وحدة المملكة المتحدة.
فالأهم لدى قطاع منهم الانفصال عن الاتحاد الأوروبي حتى لو على حساب وحدة بلادهم.