الاستشراق الإيطالي.. تأثيره الخيالي على ملامح اللوحة التشكيلية ورؤى التواصل مع الشرق بصريا
“الشرق المتخيل” هو الصورة التي يتعمد الغرب رسمها منذ الرحلات الأولى التي نقلته إليهم مشاهد متصوّرة وحكايات روّجت للأساطير والخيالات والأحلام والدهشة والإثارات التي استفزت الكتّاب والرسامين لمحاولة تجسيدها حرفا وشكلا والتوغل أكثر في تفسيرها من خلال المشاهد البصرية.
وقد تفاقم الاهتمام بالشرق بالتوجه لتعليم اللغة العربية والترجمة التي نقلت الكتب الشهيرة من قصص وأشعار أهمها “ألف ليلة وليلة”، ولم يكتف الرسامون بسماع القصص المرويّة عن الرحالة والكتب المترجمة بل خاضوا مغامرة التوجه للشرق بحثا عن سبل الجمال وانتعاشات الخيال الفاتن لشرق شهرزاد فتهافتوا من أوروبا وأمريكا وبالخصوص من إيطاليا.
إذ أن لايطاليا ارتباطا جغرافيا وتاريخيا وثيقا بالشرق يعود لقرون غابرة وهذه الروابط أسست لغاياتها الاستعمارية التي انطلقت برؤى الثقافة والتثاقف.
فقد اهتمت إيطاليا بالدراسات الإسلامية منذ سنة 1224 والعلوم العربية فقد كان “جيراردو كريمونا” أول إيطالي تعلم اللغة العربية حيث اهتم بالفلسفة وبالخصوص الفلسفة الرُشدية، لتكون إيطاليا أسبق الأمم الغربية التي اهتمت بالشرق في مختلف الأنشطة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية فقد طبع القرآن الكريم في إيطاليا لأول مرة سنة 1518.
أنطونيو سيمونيتي
ولا يمكن الفصل بين تأثر إيطاليا بالشرق وما كُتب ونُشر من إبداعات أدبية وملاحم شعرية فمن يطلع على “الكوميديا الإلهية ” “لدانتي” يدرك تماما مدى التوافق والتأثر بين ما قدّمه وبين ما رُوي من أدب عربي مأثور نذكر قصة المعراج و”رسالة الغفران” للمعري والفتوحات المكية لمحي الدين بن عربي فما كُتب من مقاطع وأناشيد وترتيب مُسجى للقوافي وجمع السرد والحبكة مع الشعر كان متأثرا بالموشحات والزجل.
وفي القرن التاسع عشر ظهر المستشرق الإيطالي المتشبع باللغة والآداب والعلوم العربية “ميكيل أماري” الذي ساهم في ترجمة “نزهة المشتاق” للإدريسي وقدم مساهمات علمية وأدبية كبرى في إيطاليا عَرّفت بالثقافة والحضارة والعقيدة الدينية في الشرق العربي الإسلامي.
إن ما ميز أيضا الاستشراق الإيطالي عن غيره هو توافد تيار المستشرقات رسامات وكاتبات وباحثات كانت لهن اهتمامات بالدراسات الشرقية الاجتماعية من بينهن “لورا فيشيا فاغليري” التي اهتمت بالثقافة الإسلامية والعقيدة الدينية وألفتها في مواضيع مختلفة عن التاريخ والحضارة حملت عنوان “الدفاع عن الإسلام”. .
ما قدمه المستشرقون الإيطاليون أثر على مستشرقي أوروبا فقد تمكنوا من لفت النظر والانتباه إلى المخزون الثقافي الفكري والعلمي والفلسفي للشرق والتنوع البشري والتمازج العقائدي.
وقد تميزت الحركة الاستشراقية الإيطالية أيضا بالرسم والفنون التي طبعت اللوحة الفنية الإيطالية بخصوصيات جديدة وملامح ذات تنوع حمل الانطباعات والذكريات والاستكشافات والابتكارات التي روّضت الخيال.
فقد تنقل الرسامون الايطاليون بين مدن المغرب العربي ومنطقة الشام ومصر حاملين ألوانهم وريشاتهم وخيالهم المترف بشغف البحث عن صور ومشاهد طبيعية ومعمارية مختلفة فقد كانت تحمل ميلهم لتوثيق كل شيء غرائبي وعجيب من وجهة نظرهم من التصورات التي حملت الطبيعة المتنوعة سهول وصحراء وجبال والانسان الشرقي بملامحه وملبسه وعاداته كما وصفته الكتب المترجمة والقصص المحكية.
وما تميز به الرسامون الايطاليون كان التركيز على الطبيعة والعمران والعوالم المغلقة بتفاصيلها وملامحها والخصوصيات الدينية باعتماد الألوان المائية والزيتية بأسلوب رومنسي تعبيري فبرزت أسماء عدة أمثال “ألبرتو باسيني”، “نيكولو فوتشيلا”،”روزاتسي” “أنطونيو سيمونيتي”.
ومن أشهر الرسامين نذكر “فابيو فاببي” (1861-1946) الذي درس الرسم والنحت في إيطاليا وفرنسا وتنقل لتنويع تجربته إلى الشرق حيث تملكته الدهشة بالمغرب العربي من تونس إلى المغرب الأقصى ومصر وبلاد الشام، فحفزت مواضيع لوحاته الاستشراقية التي لامست الخيال بإثارة جمالية دقيقة لم تترك أثرا في خصوصيات الشرق بعمق أدبه وقصصه وحكاياته وواقعه إلا وحمّلته الخيال وحلّقت به بعيدا إلى عوالم ألف ليلة وليلة.
فابيو فاببي
فقد جسدت لوحاته المرح والزهو والحياة والحريم بألوان وتفاصيل ببذخ وترف ورقص وموسيقى تكاد تصدح ألوانها بموشحاتها وإيقاعاتها وأهازيجها دون إغفال الجانب الدقيق في لمس تفاصيل المكان بزخرف ولون وضوء بسقف ودور وفضاءات عكست جمال المرأة ورشاقتها جسدها وإثارتها وشفافيتها المشبعة بالرغبة والشهوة والعوالم الإيروتيكية بجماليات تستميل حواس المتلقي وتتوغل به إلى عمق الخيال المبالغ بين التاريخ والواقع بين الحلم المشتهى في فضاءاته الغريبة بجمالياتها وتلك خصوصية فابيو التي فجرت برومنسية طاغية تقنية الرسم لديه وحرفية المشاهد بين الملامح والطبيعة بتوافق الألوان الزيتية والمائية والضوء الذي تدرج وتفاعل ليقترب أكثر من الاثارة والخيال والدقة.
أما أعمال الفنان “أميديو سيمونيتتي” (1874-1922) فلم تحد عن تلك الخصوصية التي جعلته يتوغل بألوانه في الخيال الغارق في تفاصيل الحياة الشرقية الخاصة ذات الملامح المترفة والمغلفة بالحرير بالألوان بالتفاعل المتوغل في تفاصيل الغرف وملامح الشرق في تنوعه البشري المجسد في شخوص ألف ليلة وليلة بكل ما حمله وصفها وسردها.
فبتقنيات رسمه المميزة وظّف تلك الصور المحكية بألوانه المائية وحمّلها طبيعة الشرق وتفاعل الضوء المتدفق ألوانا فكانت أعماله تتشابه وتتماهى مع تلك القصص.
لم يهدأ عن التجريب وتكثيف المشاهد بتفاصيلها الغارقة في العمق النفسي الذاتي المنعكس على شخوصه اهتم بالمرأة والعلاقات الاجتماعية بالحياة والتنوع داخل الأمكنة.
أميديو سيمونيتي
كما نجد أيضا تجربة “جون ادموند كاليفانو” (1862-1946) وهو تلميذ “موريلي” تأثر برسم المشاهد الطبيعية والبيئة والمحيط الشرقي الصحراء وعالم الحريم وصوره وشهوته الطافحة بالأحاسيس وبالأنوثة والإغراء بكل تفاصيل الغموض والاثارة فتنقل من تصوير الحفلات إلى سوق النخاسة وعالم القصور، فقد تلمس الدقة ليصل بألوانه المائية إلى وسم اللوحات بتفرد ميزه تقنيا وخيال بالغ في التصورات.
جون إدموند كاليفانو
لم يحد المستشرقون منذ ظهور التيار عن المبالغة في سرد حكاياتهم عن الشرق وفي تدقيق التفاصيل التي ميزته طبيعة ومجتمعا وتاريخا وحضارة فبين الأخذ بالتوثيق والمبالغة في إحكام السيطرة تتفاقم الجدلية التي تميز الاستشراق كفكرة بحث ودراسة متعددة الجوانب.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections