نواصل نشر سيرة “سكينة جانسيز”: حياتي كلها صراع! (الحلقة الثانية)
فلترتعدْ عظامُ أبي، لأنه لم يتركني أدرس
كان أبي من متعلّمي القرية، إذ أنهى دراسته الابتدائية، التي صادَقَ خلالَها كلاً من “علي غولتكين” و”كمال بورقاي(١) ” و”حسين يلدرم”. ولطالما تكررَت هذه الأسماء، كلما استذكَرَ أبي سنوات دراسته. سيما “علي غولتكين” لأنه ابن قريته، ويشاطره نفس ظروف الحياة، ما كان مقرَّباً إليه أكثر. لَم تَعرف أمي القراءةَ والكتابة. لذا، لَم تَكُن تُخفي عتابَها على أبيها في كل فرصة، قائلةً بكل جوارحها: “فلترتعد عظامُ أبي، لأنه لم يتركني أدرس”.
إن أبي إنسانٌ هادئ ومُساير وحميم وغير متزمتٍ عموماً، في حين أن أمي عصبية ومشاكسةٌ وباردةُ المشاعر ومتزمتة إلى أبعد حد، وتتمتع بتسلطٍ نابعٍ من كونها ابنةَ عائلةٍ ميسورة. ينحدرُ أبي من الثقافة العَلَوية التي تُقَدِّر المرأة وتحترمها وتُوليها مكانة مرموقة. وباتحادِ التزامِه بهذه الثقافة مع تسلطِ أمي، باتت سيادتُها في المنزل والمحيط أمراً طبيعياً.
عادةً ما تُستَذكَر العوائلُ والأطفال والأملاك في المجتمع باسمِ الأب-الرجل. وقد بات هذا قانوناً طبيعياً يُسَلِّمُ به الجميع. إذ نادراً ما يمرّ ذِكرُ المرأة في هذه المواضيع. فالأشياء أو الأمور التي تركَت المرأةُ بصماتها عليها قليلة ومعدودة. لكن هكذا أمور تُذكَر عندنا مُرفَقةً باسمِ “زينب” و”إسماعيل” معاً. فعائلةُ أمي تُبرِزُ اسمَ “زينب” على الدوام، ما صارَ حالةً طبيعيةً مقبولةً وكأن الأمر يستوجب ذلك. كما كانت جدتي لأمي مسيطرةً ضمن العائلة والقبيلة على السواء. إلا إن حالةَ جدتي مختلفةٌ عن حالةِ أمي، لجهةِ أن الكدحَ المجبولَ بالقوة الذاتية كان بارزاً في نفوذها.
اسمُ جدتي لأمي هو “خديجة”. لكن الجميع كانوا ينادونها “أزي Ezê”. كانت فارعةَ القامة، ضخمة البدن، ناصعة البيضاء وذات عينَين زرقاوَين. في الحقيقة، قد أُجحفُ بحقّ اللون العسلي إنْ وصفتُ عينَيها بالزرقاوَين، والعكس صحيح. لنَقُل إن لون عينَيها الجميلتَين كان مزيجاً من اللونَين. كانت امرأةً حسناء تَرَكَ جمالُها وكدحُها ووسامتُها بصماتِه على علاقاتها الواسعة وحياتها الفسيحة. جميعُ أحفادها وأولادها وزوجات أولادها وأزواج بناتها وجيرانها وأعدائها، وجميع أهالي القرى القريبة والبعيدة، كانوا ينادونها “أزي”. كانت تفرضُ احترامَها على الغير بصورة طبيعية وتلقائية.
وقد زاد نفوذها وتقديرُها بعد وفاةِ جدي لأمي، لأنها تتحمل مسؤوليةَ العائلة الكبيرة والأقارب. فما مِن أحد يُزوّج ابنتَه أو يطلب فتاةً لابنه من دونها. وما من سوءِ فهمٍ أو خصومةٍ أو مشكلةٍ تُحَلُّ إلا بها. وكأنه ما من عملٍ يُطَبَّقُ إلا بعد استئذانها ونيل رضاها. كانت امرأة واسعة القلب والفؤاد، تقف بجانب كلّ المحتاجين للمساعدة دون تمييز أو استثناء، ملتزمةً في ذلك بالعدل والمساواة. كانت تتحاشى إغضابَ أحد أو إثارة استيائه. مع ذلك، كانت الغيرة والحسد موجودَين دوماً بطبيعة الحال. سيما أن بناتِها وأقاربها المقربين كانوا يضخّمون بعضَ التفاصيل، ويزعمون بناءً عليها أنها تميِّز بينهم، بل ويَعتقدون أنها لا تحبّهم كما تحب الآخرين. كانت هذه الغيرة أو الحسد تثيرُ استياء جدتي، لأنها حقاً لا تفضّل أحداً على أحد. بل تُراعي المتزوجين حديثاً والمتعرضين لهزيمةٍ أو إفلاسٍ ما أكثر من غيرهم، لحاجتِهم الماسّة إلى المساعدة.
ومتى وصلَت درجةُ الغيرة والحسد حداً لا يُطاق، كانت جدتي تتدخل في الأمر، حتى بعد مماتها. إذ جرَت العادةُ أنْ يُقْسِمُ أبناءُ ديرسم باسمِ “بابا دوزجون”. لكن اليمين الأعظم في عائلتنا كان: “أُقسِمُ بعِزّةِ جدي”. وكانت جدتي تُقسِم بهذا القسَم، لفَضّ أي خلافٍ أو التغلب على أي سوء تفاهم، فكان وقعُ كلامِها حينها حاسماً جازماً!
إنّ جدتي لأمي امرأة نافذة، وضليعة بكل المواضيع، وموهوبة. كانت تتجول بمفردها في الليل خاصة، لتتفقد الأوضاع. وعندما تقترب الذئاب أو الحيوانات الوحشية الأخرى من الحظائر، كانت جدتي تُخيفُها وتُبعدها بصوتها الجَهور. كانت تعلم حتماً إن كان هناك مريضٌ أو ثمة نزاع، فتتدخل في الأمر فوراً. كانت حساسيتها هذه تؤثر في الجميع، وتُزيد من احترامهم لها.
كان منزل جدتي عامراً دوماً بالشاي الطازج، الذي يغلي على النار داخل الإبريق الكبير. تقع قريتُنا بجوار الطريق مباشرةً، ما جعلَ المتوجهين إلى القرى الأخرى يمرون من قريتنا حتماً، ليَأخذَ المرهَقون منهم، أو الذين ما يزال طريقهم طويلاً، قسطاً من الراحة في قريتنا، وبالتحديد في منزل جدتي، ليُشبِعوا بطونَهم الجائعة ويَحتسوا الشاي الساخن. وبفضل ذلك، كانت لجدتي علاقاتُ صداقةٍ حميمة، وزادت معارفها وشهرتُها طردياً.
كانت خصائص جدتي تجذب انتباهي على الدوام، فأُعجَب بها وأتابع تصرفاتها. أكثر ما كنتُ أحبّه فيها هو استيقاظها فجراً، واستقبالُها الشمسَ واقفةً، تُديرُ إليها وجهَها لتبدأ بالدعاء، وتَختمَ دعاءَها بمسح وجهِها بكلتا يدَيها. كانت تستقبل طلوعَ القمرِ أيضاً بنفس الطقوس. بل كانت تباشر الدعاء في طلوعِهما وغروبهما، مع فارقٍ وحيد، وهو بروزُ مسحةٍ من الحزن عليها في كل غروب. أما دعاؤها وبكاؤها وعويلها وتضرُّعها أثناء كسوف الشمس وخسوف القمر، فكان يثير فيّ الرعشةَ من قمة رأسي وحتى أخمص قدمَي، بسببِ الحزن الذي تنشره في الأجواء. فالعتمة كانت تثير الخوف عموماً، وكأنه ثمة أشياء أو أموراً عقيمة أو أليمة أو ضوائق ستحصل. لذا، كانت أمي ترغب دوماً في زوال العتمة سريعاً، وتتخبط لأجل ذلك، فتباشرُ بعجنِ فطيرةِ الـ”نياز”(٢)، والتي هي كناية عن رقاق الخبزِ بالزبدة الطبيعية.
الخاصية الأخرى المميزة في جدتي، هي عدم إطفائها النارَ أبداً. إذ كانت تخبئ الجمر في الموقد منذ المساء، لتُشعلَ بها نار الحطبِ فجراً. فجَلبُ النارِ من منزلٍ آخر، أو إعطاؤها إلى منزلٍ آخر، يُعَدُّ أمراً مكروهاً. ومَن يطلب النار منها، كانت تغضب عليه، وتُنَبِّهُه بحِفظ الجمر من المساء. أجل، لقد كانت “أزي” تُحيي الثقافة الزرادشتية. فالحياةُ لدى “أزي” كانت كنايةً عن حفظِ جمرات النار، والتضرع إلى الشمس، والارتباط بالأرض.
تَعَلُّمُنا اللغةَ التركية بحدِّ ذاته كان عذاباً
عرفتُ جدتي لأبي قليلاً، وأتذكر القليل القليل عنها. لم تَكُن أمي تحبها كثيراً. لذا، نادراً ما كانت تمكث عندنا، وغالباً ما كانت تبقى عند أولادها الآخرين. آخِرُ مرةٍ رأيتُها فيها كانت في العام 1973، إذ كانت قد شاخَت كثيراً. لكنّ جسدَها كان ما يزال حيوياً، لولا وشايةَ تجاعيدِ وجهها ويديها بعمرِها، لتَرسمَ مساراتها البارزة على جلدها الناصع البياض. كانت نظيفة جداً، وتجلس على الشلتة (الوسادة) الرقيقة الخاصة بها، فتأخذها أينما ذهبت، ولا تُفارقها أبداً. فحتى عندما تجلس على الأريكة، كانت تضع شلتتها عليها، وتجمع تلافيف ثوبها، ثم تجلس.
تَوظَّفَ أبي بعد إنهاء خدمته العسكرية. إذ نجح في امتحانِ “مدرسة الفنون الجميلة”، ووُظِّفَ كاتبَ محضر فيها. كنتُ في تلك الفترة أتعلم للتو بعض المفردات باللغة التركية مثل “أمي” و”أبي”. أذكرُ أنني ركضتُ حينها إلى ساحة القرية، لأُكررَها على أسماعِ أقراني بصوتٍ عالٍ، وكأني أحاول إغاظتهم. كانت تلك الفترة، التي تعرَّفتُ فيها لأول مرةٍ على المفردات التركية، من أكثر فترات طفولتي التي ظلت منتعشةً في ذاكرتي. وبالطبع، لم يُرغِمني أحدٌ حينها على تعلُّمِها.
الولدُ البِكْرُ في عائلتنا كان ذكراً. وقد توفيَت أختي التي تتوسط بيني وبينه، وهي في شهرها السادس. وقد سبَقَني أخي الأكبر في الدراسة بطبيعة الحال. تعرفتُ لأول مرة على المدينة، عندما ذهبتُ للتسجيلِ في المدرسة الابتدائية. وقد أنهيتُ السنةَ الأولى من دراستي الابتدائيةِ بالذهاب يومياً من القرية إلى المدينة. كنتُ صيفاً أمرُّ بمروجِ “هارتشيك” ذهاباً وإياباً من وإلى المدرسة، كي أختصرَ الطريق. أما في عهدِ أبي، فلَم يَكُن الجسرُ المعلَّق قد بُنِيَ بَعدُ. لذا، كان عليه أن يَعبرَ النهر صيفاً شتاءً، للذهاب إلى المدرسة. فكانت ألبستُه البيضاء المصنوعةُ من القماش الأمريكي، تتَّسخُ ببقعِ الدم، عندما كان يحاول كسرَ الجليدِ أثناء عبوره النهر شتاءً. طالما قال أبي حين كان يروي لنا ذهابه إلى المدرسة: “كان الجليد يقطعُ أقدامَنا كما الزجاج”. لذا، وقياساً بأيامه هو، فنحن نُعَدُّ أوفر حظاً. هذا إن جازَ لنا أن نصفَ ذلك بالحظ طبعاً! فهل ذهابنا إلى مدرسةِ المحتلّين لأراضينا هو أكثر راحةً لنا، نحن أطفال المجتمعِ الذي لا يتعلم بلغته الأم، بل وتَعَرَّضَ للإبادةِ ولحظرِ لغته الأم؟ لقد سَهَّلوا علينا طريق الذهاب إلى المدرسة، لتسهيلِ عمليةِ صهرِنا فيها.
كانت الثلوج تتساقط بكثرة شتاءً، فنضطر للعبور من فوق الجسر. لَم أَنسَ قطّ عودتنا من المدرسة في ليالي الشتاء المثلجة. إذ كانوا يضعوننا -نحن الصغار- في المنتصف، وكان الأكبر سناً يصطفّون أمامنا وخلفنا، تجنّباً لضياعنا وسط الطريق أثناء تساقط الثلوج، وحفاظاً علينا من قطيعِ الذئابِ أو بناتِ آوى. لذا، كانت هناك مجموعةٌ طليعيةٌ تستكشف الطريق على الدوام، وتُخبِرنا بالخطرِ في حالِ وجوده. في مثل هذه الحالات، كانت مجموعةٌ من شبابِ القرية أيضاً تأتي نحونا. كنا نُصدِرُ أصواتاً تُخيف الذئاب وتُبعِدهم عنا، كأنْ نغني جماعياً مثلاً! ثم اكتشفتُ لاحقاً أنّ غناءنا ذاك كان بهدف إبعادِ الخوفِ من قلوبنا نحن، ولكي نحافظ على دفء أجسادنا، ونقلل من خطر التجمد.
كانت آلامُ أيدينا هي الأنكى، عندما كنا نحاولُ تجفيف أنفسنا وألبستنا حول المدفأة، بعد عودتنا من المدرسة. إذ كانت أيادينا تؤلمنا، لأننا نُقَرِّبها كثيراً من المدفأة. كان المُعَلّمون يُعلّموننا طُرُقَ التدفئة الطبيعية لأيادينا. فأصبحتُ أدفئ يديّ بوضعِهما تحت الإبط، أو بفَركِهما بعضهما ببعض أو بالشَّعر، أو كنتُ أدفئهما بأنفاسي. فكانت يداي تدفآن بنحوٍ أسرع وأقل إيلاماً.
كانت معلمتي في الصف الأول الابتدائي تركيةَ الأصل، شقراء، واسمُها “غونول”. وقد ظلت تُعلّمنا حتى الصف الثالث ابتدائي. كان تَعَلُّمُنا اللغةَ التركية عذاباً بحدّ ذاته. إذ لاقينا صعوبةً بالغة، على الرغم من رغبتنا في التعلم، ومن حفظنا السريع للمفردات الجديدة. كان معلِّمونا يُوصُوننا بالتحدث باللغة التركية خارج المدرسة أيضاً، قائلين: “ستُضرَبون في حال تحدثكم باللغة الكردية”. هذا الوعيد، بالإضافة إلى بعض زملائنا المُكَلَّفين بمتابعةِ تَعَلُّمِنا، كان يحثّنا على التعلم بمنوال أسرع.
نظراً لكون أبي موظفاً، فقد جعلَ ذلك شروطَ حياتنا مختلفةً -بطبيعة الحال- نوعاً ما. إذ كنا نشتري الخبزَ الأبيض، وننتعل حذاء الإسكاربين. وعندما كان زملائي يطلبون مني رغيفاً من الخبز الأبيض مقابل رغيفَين من خبز الشعير، كنتُ أخجل، فأعطيهم رغيفاً مقابل رغيفٍ واحد فقط، مؤكدةً لهم أنني أُفضِّل خبز الشعير أو الذرة. بل وكنتُ أحياناً أطلبُ منهم استبدال أرغفتنا، قبل أن يطلبوا هم. كما كنا في بعض الأحايين نضع خبز الصمّون الذي نشتريه من المدينة داخل خبز الصاج الذي لدينا، لنأكلهما معاً.
بعد ذلك انتقلنا إلى المدينة، فأصبحنا نقطنها شتاءً، ونعود إلى القرية صيفاً. هكذا بدأت حياتنا تتبدل. إذ توفّرَت الظروف لتَعَلُّم اللغة التركية بشكل أسرع. كان أولُ منزل لنا في المدينة مبنياً من الطين، وأرضيته فقط من الإسمنت، ويقع في حي “الجبل”. ولعلّ وجود الكهرباء أيضاً كان يميِّزُه عن منزلنا الذي في القرية.
ترجمة: بشرى علي
(١) كاتب وسياسي كردي شهير. تخرج من كلية الحقوق بجامعة أنقرة عام 1960، ثم انخرط في “حزب العمال التركي”. ثم أسس “الحزب الاشتراكي الكردستاني”.
(٢) كلمة “نياز” تعني: الرجاء، التضرع، الطلب، والأمل.