هشام غصيب : المفكر الاردني المهموم بالتقدم والديموقراطية والجدل العلمي في البلدان الشرقية
يعتبر هشام غصيب من المفكرين الشرقيين الذين احتفظوا بماركسيتهم الاصيلة ، بل يستعينون بمناهجها وتحليلاتها ، رغم الهزات التاريخية العنيفة التي عرفها الفكر الماركسي كونيا، بفعل تغيرات سياسية واقتصادية كبرى عرفها العالم ، احتفظ هشام غصيب برؤية ماركسية نقدية في تناوله لعدد كبير من القضايا الثقافية والسياسية والفكرية ، وساهم في احياء مفاهيم ماركسية في التداول المفاهيمي والسياسي في حقبة تاريخية اعتقد فيها “الجميع” بان الماركسية كنظرية وكطموح تكوين مجتمع بديل ، خال من الاستبداد والعسف والظلم ، مبني على العدل والتوزيع العادل للثروات ،انتهى كحلم جميل وباتت الليبرالية والعولمة المتوحشة عنوان الحقبة الجديدة ، واصبح الانسان الليبرالي هو الانسان الاخير كما بشر ذلك فرانسيس فوكوياما وصمويل هنتغتون في تصوريهما لمابعد انهيار المنظومة الاشتراكية. لكن حلم المبشرين الجدد بنهاية العالم وسيادة الليبرالية المتوحشة كقدر حتمي ، لحسن الحظ نقضه و نغصه مفكرون ماركسيون جدد من امثال هشام غصيب الذي قاده حلمه الجميل الى الاهتمام بقضية تطوير الوعي الجماهيري وتثوير الوعي العلمي لدى الطبقات الكادحة المتضررة من علاقات الانتاج القائمة .
تعرفت على بعض شذرات المفكر والفيلسوف والفيزيائي* هشام غصيب انطلاقا من كتابين وهما ضمن سلسلة كبيرة من الكتب العلمية والفلسفية التي انتجها واثرى بها المكتبة العربية ، الكتاب الاول الذي اطلعت عليه هو ، هل هناك عقل عربي ؟ قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري ، والثاني جدل الوعي العلمي : اشكالات الانتاج الاجتماعي للمعرفة . ففي الكتاب المخصص لنقد مشروع محمد عابد الجابري، استثمر الدكتور هشام غصيب العدة المنهجية والابستيمولوجية المعرفية البنيوية الماركسية في نقد منهجيات واستنتاجات محمد عابد الجابري ، وبروح علمية يطبعها تواضع العلماء يعترف الدكتور هشام غصيب بالقوة التحليلية والجدالية للراحل الدكتور عابد الجابري ، لم يمنعه تواضعه واعترافه باسهام الجابري في تفكيك اشكاليات التراث الاسلامي ، في انتقاد اطروحاته وتفكيكها وتبيان مثاليتها وتهافت بعض المناهج التحليلية المتبعة من طرفه .يقول الدكتور هشام غصيب في نقده للجابري ما يلي : “ان الجابري يبدي من البراعة في فن الجدال ومن الاصالة في ابتكار المفهومات واستعمالها في دراسة تراثنا ما يجعل من الصعب حقا على القارئ مقاومة اغراء الوقوع تحت تأثيره وسحره .فهو يلهب الوجدان والخيال بسحر فكره بما يدفع القارئ الى تبني لغته وادوات نقده من دون ادراك حقيقي لجوهر هذه اللغة وتلك الادوات. ومن ذلك تنبع اهميته وخطورته في آن….فهو ابرع المفكرين المثاليين في الوطن العربي اليوم واكثرهم خطورة ايضا لقدرته على النفاذ الى عقل القارئ وايقاعه بين شباكه السحرية المثالية ، مهما كان هذا القارئ محصنا بالفكر العلمي المادي.”1.
سأحاول باختصار مخل وغير تام تبيان بعض اوجه التناقض الفكري والنظري الموجود بين الجابري وهشام غصيب ، في ثلاث نقاط :
1- تظاهر الجابري بالمادية على مستوى الاسئلة والتساؤلات والمعضلات والالتزام بالمثالية على مستوى الاجابات والحلول -2- وقد بين الدكتور غصيب ذلك بجلاء في هذه الفقرة الهامة التي تؤكد اصرار الجابري على أن بالامكان خلق مشروع نهضوي بعقل ناهض ، بدون مراعاة البنيات الاجتماعية الطبقية الحاملة للمشروع النهضوي ، اي ان الجابري حسب غصيب يسقط في نوع من الهيغلية وفصل تعسفي بين الفكرة وحاملها الاجتماعي الضروري لها ، ووصف اسئلته بانها تحمل نوع من الذنب الايديولوجي الذي لا يغتفر ، لنرى ماذا يقول غصيب :” فالنهضة ، في نظر من طرح السؤال المذنب ، ليست مسألة مادية اجتماعية معقدة تنطوي على تناحرات حادة بين طبقات وفئات تسخر لتحقيق اغراضها كل ما في حوزتها من اسلحة وادوات (اقتصادية وسياسية وعسكرية وثقافية ومعرفية واجتماعية عامة). انها ليست حضارة جديدة تبزغ شمسها على انقاض حضارة قديمة تحتضر.وهي ليست مسألة نضالية تقودها حركة تحرر تاريخي ، وانما هي مسألة فكرية في جوهرها : نهضة تبنى بعقل…كأن عملية النقد العقلي مشروع فكري محض يتم بمعزل عن المجتمع ونزاعاته المريرة.” -3–
2- عرقية الجابري :يتهم المفكر غصيب الجابري بانه يمارس تمييزا عرقيا ، حيث ان الجابري يقيم تفاضلا لا تاريخي ولا علمي بين عقول مناطق جغرافية واثنية على حساب مناطق جغرافية اخرى فيفضل العقل اليوناني الاوروبي على حساب العقول الهندية والصينية مثلا في تقسيم يذكرنا ببعض تصنيفات بعض المستشرقين( برنارد لويس مثلا) الذين ادعوا افضلية بيولوجية وعقلية للجنس الابيض على حساب الاجناس الاخرى ، يقول الدكتور هشام غصيب في هذه النقطة ما يلي :هكذا بهذه السهولة والرعونة الفكرية ، يعزز الجابري تحيزا عرقيا اوروبي المنبع والجذور ، طالما جلدنا به الغربيون .اذ ان الغربيين لا يفتأون يروجون الفكرة العرقية بأنهم هم وحدهم القادرون على الابداع النظري .اما الشعوب الاخرى فهم اما نقلة (العرب) واما مقلدون (اليابانيون) .بل ان هذا الادعاء ورد جليا صريحا في كتاب هتلر “كفاحي” .”-4–
3- انتقائية الجابري وتغطيته الادعاء الايديولوجي بمبرر ابستيمولوجي : يقول هشام غصيب توضيحا لهذه النقطة: ” فالجابري يحاول ان يوهم نفسه وقراءه انه مدرك تمام الادراك للاساس المادي الاجتماعي للفكر ، لكنه معني بالتحليل الابستيمولوجي ، ومن ثم فهو ليس ملزما بالتطرق الى هذا الاساس الذي ينتمي الى حقول معرفية اخرى ، وكأن التحليل الايبستيمولوجي فعل روحي مستقل عن حركة المجتمع والتاريخ ، وكأن الفكر جزيرة معزولة تؤثر عليها المؤثرات المادية الاجتماعية من الخارج فقط .وهو تبرير ينطوي على تصور خاطئ للعلاقة بين القاعدة المادية الاجتماعية وبين الفكر .-5- . الفرق المنهجي بين المفكرين عابد الجابري وهشام غصيب هو اساسا ان هذا الاخير استعان بالمنهج الديالكتيكي في تحليل العلاقة بين الفكر والواقع على شاكلة ووفق طريقة مهدي عامل في التحليل وانتقاد المساهمات الفكرية للباحثين والمفكرين الذين اشتغلوا بالفكر التنظيري( يمكن هناك الاستشهاد بكتاب مهدي عامل ازمة البرجوازيات العربية ام ازمة الحضارة العربية ؟) ، فيما حاول الجابري التخلص من اسار التحليل المادي الجدلي والانفتاح على بعض الاجتهادات الفكرية والنظرية الاوروبية وخاصة منهجية ميشيل فوكو وجاك دريدا ، التي اعتبرت من طرف الماركسيين الجدد مثالية جديدة لكن باسئلة مادية موضوعية.
لننتقل بعجالة كبيرة الى الكتاب الثاني للمفكر هشام غصيب ، جدل الوعي العلمي : اشكالات الانتاج الاجتماعي للمعرفة ، حيث يبسط المفكر فكره بوضوح شديد حريص على منهجية علمية رصينة، مهووس بفكرة التقدم الحضاري وتجاوز التخلف ، فالكتاب خريطة طريق من اجل الخروج من شرنقة التخلف والتبعية للغرب في جميع مستواياتها ، الكتاب يحمل التزاما واضحا نحو تطوير الوعي الجماهيري ليقوم بادواره التنويرية المصيرية لتحقيق الثورة الاجتماعية والثقافية والفكرية التي من شان تحقيقها ان تجعلنا نحيا حياة كريمة في ظل انظمة اقتصادية وسياسية عادلة ومستنيرة. المفكر هشام غصيب استعان بعدة منهجية واليات مفاهيمية جديدة مثل مفهوم الاستغراب وقل للدقة مهمة الاستغراب كآلية نظرية وعملية للحاق الحضاري بالغرب عبر استكناه واستنطاق تراثه وفكره ومحاولة الاستفادة من خبراته وتجاربه وعلومه بدون السقوط في شركه واستيلابه ، يقول المفكر هشام غصيب في تقديمه لمفهوم الاستغراب** :فالاستغراب هو سبيلنا لامتلاك الادوات المعرفية والنقدية اللازمة لتحرير نظرتنا الى الامور من اسار التحيز الغربي ، ومن ثم للانفتاح على ماضينا وعلى الحضارات العالمية المتنوعة وفهمها وتفهمها …. والشرط الاساسي للتحرر من هذه الهيمنة هو معرفة الخصم معرفة دقيقة على جميع الصعد.ولكن بالنظر الى رقي الخصم وارتقائه وتقدمه ، فليس في مقدورنا معرفته او فهمه الا بمعاناة تراثه الحديث وباستعمال ادوات معرفية ونقدية مستمدة من ذاته.”-6- ترى ماذا يقترح علينا هشام غصيب كخارطة طريق للتقدم والازدهار الحضاري ؟ يقول هشام جوابا على هذا السؤال :” لم نعان نهضة ثقافية على غرار النهضة الاوروبية ولم نعان ثورة علمية ولا ثورة فلسفية ولا اصلاحا دينيا جماهيريا ولا ثورة زراعية ولا ثورة صناعية ولا ثورات اجتماعية سياسية في اتجاه بناء الدولة الحديثة.وعليه ، فان هذه المهمات (الثورات) مازالت تنتظر من يحققها من قوى اجتماعية صاعدة..” -7–
المفكر الماركسي هشام غصيب في سبيل بحثه عن اسباب تخلفنا ومسؤولية الاخر اي المستعمر الاوروبي والغربي عموما في ادامته ، يتهم بشكل واضح وجلي الاستعمار الامبريالي في عرقلة جهود شعوبنا من اجل بناء مقومات الدولة الحديثة ، عبر تشجيع بل وخلق تنظيمات وتعبيرات ماضوية تيسر للاستعمار فرص البقاء ناهبا لاوطاننا ، متواطئا من اجل استدامة تبعيتنا له كما يحمل المسؤولية كذلك للحملات الاستشراقية التي مهدت لاحتلال اوطاننا وتزوير تاريخنا وتشويه صورنا امام العالم ، يقول توضيحا لهذه الفكرة الهامة :” فكوننا الطرف المسحوق في شبكة الهيمنة التي تسود جزءا كبيرا من عالم اليوم يفرض علينا ان نتخطى ذاتنا الى رحاب حضارة الطرف المهيمن ، وان ندك قلاع هيمنته باستعمال الاسلحة التي صنعها هو عينه وأخضعنا بها ، وفي مقدمتها الفكر العلمي.لهذا السبب ، يلجأ الطرف المهيمن الى اعاقة هذه العملية بصرف نظرنا بعيدا عن جوهره وادوات منعته بدفعه اما باتجاه الماضي ، وذلك بتعزيز الفئات المحافظة في مجتمعنا ، وإما في اتجاه الصورة الايديولوجية الوهمية بصدد ذاته….ولهذا يلجأ الطرف الغربي المهيمن الى تيسير السبل امام عملية اعادة انتاج البنى الاجتماعية وانماط الانتاج القديمة في مجتمعنا.فهو يسعى الى اعاقة عملية التحديث الشامل ….فالوظيفة الاساسية للاستشراق هي التزوير التاريخي ، وخلق صورة ملتوية مشوهة للشرق تنسجم ونية الغرب في استعباد الشرق واستغلاله ونهبه ، وذلك من اجل تسخيرها في قهر الشرقي وتحطيم انسانيته وتحويله من ثم الى ظل ، مجرد ظل للصورة المشوهة.” -8– .
المفكر هشام غصيب طاقة فكرية وفلسفية ابداعية هائلة سخر كل امكاناته من اجل رفع الوعي الجماهيري بمتطلبات المرحلة الدقيقة المتميزة التي تعيشها شعوبنا ، لذلك نراه مدافع شرس عن التزام المثقفين والمفكرين بقضايا شعوبهم ، فهو ضد نظرية الفن من اجل الفن او الادب من اجل التذوق والجمال فقط ، بل هو مهووس الى حد كبير بقضايا الديموقراطية والتقدم لذلك نراه يعيب على بعض المثقفين والمفكرين نخبويتهم وتعاليهم على الفئات الكادحة وهمومها ، يرى الدكتور هشام ان فرصتنا للحاق الحضاري بالآخر المتطور ممكن ومنظور ولكن لابد ان نقتفي اثره ومناهجه بدون الذوبان فيه اي لابد من القيام بمهمات ثورية كبيرة تبدأ من الاصلاح ديني والقضاء على ما يسميه المفكر باللاعقل المقدس وثورة ثقافية وصناعية ممهده للثورة الاجتماعية السياسية الشاملة ، في ترابط جدلي بين الفكر والواقع ، اي ان ايجاد الحامل الاجتماعي للثورة الاجتماعية والسياسية ضروري للقيام بالمهمات الديموقراطية والثورية على صعيدي النظرية والممارسة..
المراجع :
- *هشام غصيب حصل على درجة الدكتوراة في الفيزياء النظرية من جامعة ليـــــدز ( بريطانيا) عام 1976.
1-هشام غصيب : هل هناك عقل عربي ؟ قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري ، دار التنويرالعلمي للنشر والتوزيع طبعة اولى ص 12
2- هشام غصيب : هل هناك عقل عربي ؟ قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري ، دار التنويرالعلمي للنشر والتوزيع طبعة اولى ص 15
4- هشام غصيب : هل هناك عقل عربي ؟ قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري ، دار التنويرالعلمي للنشر والتوزيع طبعة اولى ص21
5- هشام غصيب : هل هناك عقل عربي ؟ قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري ، دار التنويرالعلمي للنشر والتوزيع طبعة اولى ص48
** مفهوم الاستغراب استعمله كذلك المفكر المصري الكبير حسن حنفي وعنون به مشروعه الفكري مقدمة في علم الاستغراب ، لكن الاسبقية الاستعمالاتية للمفهوم هي للمفكر الاردني هشام غصيب.
6-هشام غصيب : جدل الوعي العلمي ، الطبعة الاولى 1992 ص 80-81
7- هشام غصيب : جدل الوعي العلمي ، الطبعة الاولى 1992 ص 94
8- هشام غصيب : جدل الوعي العلمي ، الطبعة الاولى 1992 ص 101