سقطت خلافة داعش.. ولكن أين البغدادي؟
فيما سقطت هذا الشهر آخر رقعةٍ من أراضي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سوريا في يد القوات المدعومة من قبل الأكراد، فرَّ آلاف الأشخاص، ومن بينهم مقاتلو داعش، من الأرض المحاصرة أو استسلموا للمنتصرين. ومع ذلك، عندما توقَّف سيل النازحين وقُضِي على «الخلافة»، ظلَّ لغزٌ معلَّقاً: أين «الخليفة»؟
يقول جيمس جيفري، مبعوث الولايات المتحدة الخاص للتحالف الدولي لمحاربة داعش، المراسلين الإثنين، 26 مارس: «لا نعلم مكانه». وعندما سُئِل إذا ما كان العثور عليه أولويةً بالنسبة لهم، أجاب جيفري قائلاً: «إنَّ العثور على القائد الأعلى لداعش وغيرها من الجماعات الإرهابية هو أمرٌ يتصدَّر الأولوية دائماً».
وعلى مدار أربعة أعوامٍ ونصف مضت منذ أن خرج أبو بكر البغدادي للأضواء في ظهورٍ إعلامي نادر في مدينة الموصل العراقية معلناً قيام الخلافة -وفيما حُدِّدَت في الجزء الأخير من تلك الفترة مكافأةٌ بمبلغ 25 مليون دولار لمَن يسلِّمه- استطاع حامل لقب زعيم داعش تفادي القبض عليه. أكثر من مرةٍ سرت إشاعاتٌ بأنَّه قد قُتِل أو أُعجِز، لترِد التقارير فيما بعد بأنَّه ما زال هارباً. وفي الصيف الفائت، ظهر تسجيلٌ لصوتٍ يعتقد الخبراء أنَّه صوته، يحث فيه أتباع داعش على شنِّ هجماتٍ مستقلة، ولم ترد عنه أخبارٌ للعلن بعدها مجدداً.
إذن هل القبض على البغدادي أمرٌ مهم؟
تقول مجلة “ذا أتلانتيك” الأمريكية، منذ عامين قال متحدثٌ باسم التحالف الدولي لمحاربة داعش بقيادة الولايات المتحدة إنَّ البغدادي قد كان «شخصيةً غير ذات أهميةٍ لوقتٍ طويل»، وفقاً لما أوردته وكالة أنباء أسوشيتيد برس. وهذا الأسبوع أرسل متحدثٌ باسم التحالف خطاباً إلكترونياً يقول فيه: «ما يُهم الإشارة له هنا هو أنَّ وجوده أو غيابه عن صفوف داعش لا يحمل أي تأثيرٍ على الوضع الراهن».
قضت الولايات المتحدة قرابة عشرة أعوام تطارد زعيم القاعدة أسامة بن لادن. قُتِل بن لادن أخيراً على يد فريقٌ من قوَّات البحرية الخاصة في ربيع عام 2011، وأعلنالرئيس باراك أوباما عندئذٍ أنَّ موته يوثِّق «أعظم إنجازٍ حتى اللحظة في تاريخ جهود أمتنا لهزيمة القاعدة». ومع ذلك، قال أوباما كذلك: «لا شكَّ أنَّ القاعدة سوف تستمر بمحاولة شنَّ الهجمات علينا». تعلَّم تلك التجربة أنَّ رحلة القبض على البغدادي قد تطول، وأنَّه في حد ذاته أمرٌ قد تنجو الجماعة من ضربته إن أصابت.
تاريخياً، ساعدت أربع عوامل رئيسية على تحديد ما إن كان القضاء على زعيم جماعة -المُشار إليه بفعل «قطع رأس» الجماعة- سوف ينجح في القضاء على الجماعة نفسها، وهذا ما تفسِّره أودري كورت كرونين، مؤلفة كتاب How Terrorism Ends أي «كيف ينتهي الإرهاب».
تقول أودري: «إنها جماعةٌ مُهَيكَلة بصورةٍ هرمية. وتميِّزها شخصيةٌ واضحة. ويكون أفرادها في المتوسط أصغر سناً في الجماعات الأخرى. وكذلك لا يوجد بين صفوفها أي خليفٍ مناسب لقائدهم». لاقى «قطع الرأس» نجاحاً في حالاتٍ عديدة، مثلما حدث على سبيل المثال في حالة «حزب الدرب المضيء» في بيرو، وجماعة «أوم شنريكيو» في اليابان، ومنظمة «الألوية الحمراء» في إيطاليا. وقالت أودري معلِّقة: «هناك كثيرٌ من الحالات انتهت فيها الجماعات الإرهابية بقطع رأسها، لكن في المشهد التاريخي الأعم على أقل تقدير، فإنَّ إنهاء الجماعة الإرهابية يحدث أكثر عندما تتمكَّن من أسر الزعيم ذلك وتقويض شرعيته القيادية، وهو في حد ذاته أمرٌ شديد الصعوبة في حالة الجماعات الإسلامية، لأنَّ السؤال المطروح تباعاً عندئذ عن المكان الذي يُسجَن فيه القائد الأسير هوَ سؤالٌ محير للغاية».
ومن هنا، كان السيناريو في حالة القاعدة، وداعش، والجماعات المنتسبة لهما، أكثر تعقيداً من الأمثلة المذكورة.
آخر مَن لا يزال حيّاً بين قياديي داعش
وفي حالة بن لادن، تقول نادا باكوس، وهي محلَّلة سابقة لدى وكالة الاستخبارات المركزية CIA كانت جزءاً من عملية تعقُّب ومراقبة تنظيم القاعدة: «كان دائماً تحت أعيننا، وكان القبض عليه دوماً جزءاً من جهودنا ضدَّ القاعدة». بيَّنت مستنداتٌ وُجِدَت بعد مقتله في المجمَّع الذي سكنه أنَّه، حتى وهو هارب، استمر بإعطاء النُصح والتوجيه للجماعة. ومع ذلك، بحلول وقت موت بن لادن، كانت الجماعة قد تطوَّرت وانتشرت إلى عدة دول، وأبدت صموداً بعد الضربة الرمزية المتمثلة في مقتل زعيمها.
والحقيقة أنَّ الجماعة تعافت من الضربة لدرجة أنَّ قيادتها في العراق -التي كانت قدأعلنت ولاءها لبن لادن في عام 2004 وإن كانت رسمت لنفسها طريقاً مستقلاً عنه إلى حدٍ ما- أرست عندئذٍ قواعد الجماعة التي ستُعرَف فيما بعد باسم داعش. خرج تنظيم القاعدة في العراق حياً من محنة قتل قائده أبو مصعب الزرقاوي، في عام 2006، إذ تحوَّل وأعاد هيكلة نفسه بعد أعوامٍ ليخرج إلى العالم بصفته تنظيم داعش، تحت قيادة البغدادي.
اتَّبعت الولايات المتحدة، تحت إدارة أوباما، استراتيجية اقتضت باستهداف قيادات داعش من ذوي الرُتَب المقترنة بالعمليات العسكرية، فيما طاردت البغدادي نفسه هوَ الآخر. وفي يناير/كانون الثاني عام 2018، أخبر هشام الهاشمي محلِّل مكافحة الإرهاب العراقي صحيفة “الجارديان” البريطانية أنَّ البغدادي هو آخر مَن لا يزال حيّاً بين قياديي داعش وعددهم 43 شخصاً، وأنَّ القادة متوسِّطي الرُتبة اضطروا لتغيير مناصبهم باستمرار لأنَّ أقرانهم كانوا يقتلون واحداً وراء الآخر.
الأرجح أنَّ هذه الجهود في حد ذاتها جعلت فعالية البغدادي كزعيمٍ محدودة. إذ أنَّ الاختباء تحت الأرض، والتنقُّل بين مخبئٍ وآخر، وتجنُّب استخدام أي معداتٍ للاتصال يجعل أمر تنظيم وإلهام الجماعة صعباً. وفي جماعةٍ تشتهر بسمعةٍ سيئة كونها تستغل وسائل المواصلات الحديثة، تفيد التقارير بأنَّ حرية استخدامه لها محدودة، خشية أن يكشف ذلك عن موقعه، كذلك وردت تقاريرٌ بأنَّ ذلك كاد أن يكشف مكانه عدة مراتٍ بالفعل.
ومع ذلك فإنَّ إحدى السمات المميزة لداعش قد كان التزامها بمفهوم «القتال بلا قائد»، وهو في جوهره تكنيكٌ يسمح للأتباع المتصلين بعضهم بالبعض بروابط واهنة بشنِّ هجماتٍ مستقلة عن أحدهم الآخر. يمكن إذن، وقد حدث بالفعل، أن يشنَّ أتباع التنظيم هجماتٍ باسم البغدادي دون أن يكونوا بالكاد سمعوا أياً من توجيهاته.
هل تهتم أمريكا لأمر البغدادي كما كانت تهتم لابن لادن؟
لم تنجح داعش قط في تنفيذ هجومٍ إرهابي يقترب من حجم ودمار هجمات 11 سبتمبر، التي كان بن لادن العقل المدبر وراءها، على الأراضي الأمريكية. غيَّرت تِلك الصدمة تصرُّفات أمريكا في العالم كلياً. وبرغم نشوب أحداث عنفٍ خطيرة في الولايات المتحدة وخاصةً في أوروبا، إمَّا بإيحاءٍ أو إرشادٍ من داعش، فإنَّ الجماعة قد أوقعت أغلب الرعب والمذابح على سكَّان العراق وسوريا. وعليه فإنَّ العقلية المدفوعة بالانتقام وتحقيق العدالة تجاه العثور على البغدادي شخصياً ومعقابته ليست قوية في حالته مثلما كانت تجاه بن لادن.
تضيف المجلة الأمريكية، لا يعني هذا أنَّ العثور على البغدادي هو مهمةٌ لا داعي لها، بل أنَّه لا يجب بالضرورة أن يكون على رأس أولويات «الكفاح» الذي سيأتي تباعاً بعد سقوط الخلافة. وبالفعل، أشار مسؤولون أمريكيون أنَّ العثور على البغدادي هو واحدٌ بين أولوياتٍ عدة. وكما أوضحت باكوس، فإنَّ العامة لا دراية لهم بالدور الذي يلعبه البغدادي. وتباعاً، فإنَّ العامة كذلك لا تدرك ما قد يحدث لداعش بعد موته. لكن تحذِّر باكوس: «تتعلَّم هذه المنظمات كيف تدبِّر أمورها، ولا يحدث هذا دوماً أمام أعين العامة.. ما زال لدى البغدادي رؤية واستراتيجية، وهو يدفع بهذه الاستراتيجية بشكلٍ خفي. وهذا أمرٌ جلل».
قد يؤتي أسر البغدادي أو قتله لنتائج عكسية على المدى الطويل. على سبيل المثال، هذا إذا ما قُتِل البغدادي بشكلٍ انتقامي يبدو غير شرعي بالنسبة لعددٍ كبير من أتباعه، أو إذا ما عظَّم موته في حد ذاته من صورته منصِّباً إياه شهيداً. قد يُثير القتل الانتقامي ردَّ فعلٍ ساعٍ للانتقام هوَ الآخر لدى الطرف المقابل. وقالت أوردي: «لا أقصد بهذا أنَّ مجرد أسر زعيم التنظيم هو الحل. بل العمل هنا هو القبض على زعيم التنظيم وضمان سيادة القانون ومؤسسات الحُكم في هذه الحالة».
وبرغم ذلك، تقول باكوس: «يجب ألا تركِّز فقط على شخصٍ واحد مشهور، وهو الرأس الرمزي (لجماعة إرهابية). وفيما يخصُّ البغدادي الآن، السؤال الأكبر هوَ الآتي: مَن صاحب القرار في العمليات التي يقوم بها التنظيم. إذا كان هوَ ذاك الرجل، فإنَّ القبض عليه أمرٌ يستحق العناء وتخصيص الموارد. وإذا لم يكن، إذن يجب أن تحوِّل اهتمامك لما يستحق»، بحسب تعبيرها. هذا أمرٌ يقرُّه المسؤولون الأمريكيون، رغم إعلانهم نهاية خلافة داعش، وإقرار سياسة سحب معظم القوات الأمريكية من سوريا. قال جيمس راولينسون، وهوَ متحدثٌ باسم التحالف الأمريكي، في رسالةٍ إلكترونية إنَّ «داعش تنتقل الآن على نحوٍ نشط عائدين مجدداً إلى شبكةٍ من الخلايا النائمة تستمرُّ في الطموح لإقامة الخلافة مجدداً وتهديد المدنيين في المنطقة وفي العالم أجمع».