رِقَّة الذبح..محمد صالح البحر
م
كثيرا ما أزعج الطفل الصغير ذلك الإتهام ــ المفرط في خشونته ــ بالرقة، والمصاحب لحركة يده السريعة وهي تترك مكانها الآمن إلي جوار فخذيه، لتغطي عينيه وتملأهما بالسواد، فتمنع عنهما رؤية السكين المسنونة لدرجة التوهج، وهي تتحرك ببطء وثقة في يد الجزار، حتى تقف علي رقبة الخروف، معلنة بدء عملية الذبح.
كان يزداد ألما مع انفجار النقطة الأولى للدم، وتناثرها في الفضاء الممتد أمامه علي بُعد متر أو مترين، ألم المعرفة الذي يخبره أن كل ما سبق لحظة وقوف السكين لم يكن سوي مقدمات بسيطة، أو طقوس لينة وخادعة، تؤهلهم جميعا للولوج إلي جلال عملية الذبح، حتى إذا ما ارتكنت السكين علي عنق الذبيح، انتفتْ الطقوس، وتبدلتْ المشاعر المتوحدة، ورمتهم عملية الذبح إلي شتات يتناسب تماما وعلاقة كل منهم بالخروف الذبيح.
الطقوس التي تبدأ عقب عودتهم من صلاة العيد، وانتهاء بتبادل التهاني والدعوات المتسامحة، الممتلئة بالأمنيات والخير، والخارجة من وجوه تسكن الطيبة ملامحها باطمئنان بالغ ــ تنتقل سريعا إلي رحلة البحث عن جزار ماهر، أما إذا ما كان قد تم الاتفاق مع أحدهم مسبقا، فإنها تنتقل إلي رحلة البحث عن مكان وجوده الحالي، والوقوف علي أم رأسه بإلحاح شديد، مخافة أن تشغله الاتفاقات الأخرى مع أناس آخرين، فيتركهم فريسة للإنتظار المملل القاسي، هناك حيث آخر الصف، وحيث تكون الظهيرة قد فرشت ظلالها علي البلدة، وأفرغتها من فرحة العيد.
عادة ما يكون الطفل الصغير هو المسؤول عن هذه الخطوة، فالإعلان عن قدوم الجزار علي عتبة البيت بدا دوما وكأنه إعلان عن قرار هام، يشبه تماما إعلان الحرب، ويكتسب فيه المعلن ذات الأهمية التي تلحق بالمتحدث الرسمي، وإعلانه الذي سيخلد من بعد كذكرى موازية للحدث، ودليل دامغ علي وجوده المؤكد في كتاب التاريخ.
ثلاثة وجوه باسمة كانت تصاحب الخطوة الأولى للجزار داخل البيت، أولها وجهه الممتلئ بكبرياء لا قبل لأهل البيت برده أو مواجهته، وكأنما يتفضل عليهم بالمجيء، وثانيها وجه الفرحة الذي يعتلي وجوه أطفال البيت جميعا، متجسدا في صيحات التهليل وتقافز الأجساد وطيران الأيدي والأرجل في الفضاء، وثالثها الوجه المنتصر لكبار البيت، أصحاب الفدية، دليلا علي فوزهم الساحق علي كثير من الناس أصحاب الاتفاقات الأخرى مع الجزار، وبهجةً بتقديره لهم، وإثارهم عليهم، ثلاثة وجوه سرعان ما كانت تتواري بسمتهم خلف الوجوم المترقب الذي يعتلي وجوه الجميع مع دخول الجزار في عملية الذبح، غير أن حركة يديّ الطفل المباغتة بلا إرادة، كثيرا كانت تُسقطه علي الأرض بذات السرعة، كأنما لتعيده سيرته الأولى، مفتتا إلي ضحكات صاخبة، وسخرية لا قِبل له بها، وإتهام مباشر وقوي وممتلئ بالغضب له، بالرقة وعدم القدرة علي تحمل منظر الدم، وبما لا يجب أن يكون عليه تكوينه الصعيدي، ولسنوات طويلة، أعقبت طفولته تلك، حاول جاهدا أن ينفي عن نفسه ذلك الإتهام، فلم يكن أمامه من سبيل غير ذلك، وبعد الجري من مكان الذبح لمرات عديدة، نجح في التحكم في حركة يديه، ثم تغلب علي جفنيه فلم يعودا ينغلقان في مواجهة انفجار النقطة الأولى للدم، حتى ثبت وامتلك القدرة الكاملة علي حضور عملية الذبح من أولها إلي آخرها.
ومع الوقت رسم علي وجهه فرحة تشبه فرحتهم بتناثر الدم في الفضاء، لكنه لم يسامح نفسه أبدا كونه هو من يأتي بالجزار إلي البيت، ويقدم له الذبيح طواعية، بعد أن يخدعه بتقديم آخر ورقة برسيم، أو آخر حفنة حبوب، بقيت من طعامه.
الآن كلما هل العيد مقتربا يشعر ــ الطفل الذي كان ــ بذلك الوخز داخله، شعور مبهم بالذنب يعجز عن تفسيره، ويملأ داخله بما يشبه الخوف أو الغضب أو الضيق أو العصبية التي لا يعرف مصدرها أو سببها، ويتجلى علي هيئة وخز مؤلم لكائن خفي ينمو في الداخل، حتى إذا عاد من الصلاة وانتهي ترصده له، يكون الكائن قد اكتمل وتضخم وملأ داخله كله بالخوف والرِّقة، ومع تناثر الدماء في الشوارع، وعلي عتبات البيوت، يكون قد أعلن عن نفسه بوضوح مكتمل، يتلبسه مثل جِنّي مجرم، فيجلس برهبة عظيمة منتظرا الخطوة الأولى لدخول الجزار إلي ساحة بيتهم، ورغم أنه لا يزال يُفلح في استعارة فرحتهم، إلا أنه يظل يرصد الوجوه التي تحيط به بحذر، وهو يترقب سخريتهم وغضبهم وتهمتهم الجاهزة له بالرقة، بوجل شديد.