«البريكست»… بوادر لتفكك دول الإتحاد الأوروبي
الكاتب التونسي/ فؤاد الصباغ
يشهد الإتحاد الأوروبي مؤخرا العديد من المتغيرات الجوهرية في سياساته الاقتصادية الداخلية. و لعل أبرز حدث عرفه هذا الفضاء الأوروبي الموحد خلال أواخر سنة 2018 و بداية سنة 2019 هو خروج بريطانيا من تكتله الإقليمي الأوروبي. كذلك بروز بما يسمى الحركات الاحتجاجية الشعبية لأصحاب السترات الصفراء في كل من فرنسا و هولندا وبلجيكا. ففي هذا الإطار تتضح الرؤية السيئة المستقبلية و الاستشرافية للسياسات الاقتصادية الأوروبية منها المالية و النقدية المندمجة في فضاء عملة اليورو الموحدة. كما تعد حاليا السياسة النقدية لهذا الإتحاد التي تدار من البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت في مأزق نظرا لرهانها على إستقرار الأسعار و نسبة تضخم لا تتعدى حدود 2% مع إستقرار نسبة الفائدة بـ 4.25%.
إن هذا التكتل الأوروبي الذي تأسس في أواخر التسعينيات ليشمل اليوم معظم دول القارة الأوروبية العجوز أصبح يعاني الأمرين من تذمر وسخط شعبيين نظرا لتدهور الظروف المعيشية لأغلبية المواطنين و أيضا لتراكم المديونية و ضعف المردودية التصديرية أو الاستهلاكية نتيجة لتضاعف الأزمات المالية داخل الإتحاد الأوروبي الموحد.
أما سياسيا فكانت تأثيرات الحروب في منطقة الشرق الأوسط خاصة في سوريا و اليمن أو أيضا شمال إفريقيا خاصة ليبيا مع تزايد موجات الهجرة غير الشرعية من الضفتين في مجملها سلبية على الأوضاع الاقتصادية الأوروبية الداخلية.
بريطانيا تغادر
مما لا شك فيه أن قرار خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي الذي إتخذته أصبح مؤكدا و لا رجوع فيه و هو الآن في صدد دخوله حيز التنفيذ بعد الضغوطات التي وجهتها للبرلمان البريطاني من أجل التسريع للتصويت على إتفاق هذا الخروج.
إن هذا القرار المتخذ من جانب واحد يعزز نظرية الهشاشة الداخلية التي تعاني منها كل الدول الأعضاء في هذا الإتحاد الذي أصبح متصدعا و غير قادر علي مواجهة الأزمات السياسية أو الاقتصادية. فبريطانيا إتخذت قرارها للخروج من هذا الفضاء الأوروبي الموحد على الرغم من عديد الامتيازات التجارية التي تندرج ضمن الإتحاد الجمركي و الفضاء التجاري الحر و السوق الأوروبية المشتركة و ذلك لعدة أسباب و لعل أبرزها و أهمها هو بروز ظاهرة الإرهاب في أوروبا و تزايد عدد اللاجئين و الأزمات المالية المتراكمة التي تعاني منها الكتلة الأوروبية الشرقية. بالإضافة إلى ذلك تندرج مغادرة بريطانيا للإتحاد الأوروبي ضمن السياسة الحمائية الاقتصادية خاصة منها فرض الولايات المتحدة الأمريكية ضرائب جمركية إضافية جديدة علي واردات الإتحاد من مواد الصلب كالفولاذ و الألومنيوم وسلع استهلاكية أخري بنسبة تتراوح بين 10% إلي 20%. بالنتيجة هذه الاضطرابات التجارية العالمية مع تزايد عدم الاستقرار داخل الأسواق المالية البريطانية و ضعف الجنيه الإسترليني مقابل سلة العملات الأخرى سرعت من قرار بريطانيا بإعتماد ورقة البريكسيت و ذلك من أجل إنقاذ اقتصادها الوطني.
فرنسا تستعد
تجتاح فرنسا خلال هذه الأيام موجات من الحركات الشعبية تحت قيادة ما يعرف بأصحاب السترات الصفراء و ذلك تذمرا و سخطا على أوضاعهم المعيشية التي أصبحت تتجه من السيئ إلى الأسوأ. فأصبح كل يوم سبت من الأسبوع يوم عصيان مدني و تمرد شعبي على السياسات الاقتصادية للحكومة الفرنسية.
إن هذه التحركات الشعبية تعد في مجملها نذير خطر على تواجد فرنسا ضمن الفضاء الأوروبي المشترك و التي تنتهج السياسة الرأسمالية في إدارة شؤونها الاقتصادية. كذلك أصبحت السياسة النقدية الموحدة و إعتماد اليورو كعملة فرنسية أوروبية في إحتضار خاصة و أن زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان تدعو المتظاهرين بالصمود و إتباع شعاراتها التي تطالب بالاستقلالية عن الإتحاد الأوروبي و الخروج من عملة اليورو التي أفقرت البلاد و أضرت بالعباد. إن مطالب المحتجين الفرنسيين تحولت من مطالب إجتماعية إلي مطالب سياسية بحيث كانت في بداية السبت الأول و الثاني تطالب بإلغاء الضرائب على الوقود و تحسين المقدرة الشرائية و الزيادة في الأجور لتتحول بعد ذلك خلال السبت الثامن و التاسع إلى إحتجاجات سياسية و ذلك برفع شعارات تطالب بإستقالة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون و الخروج من فضاء الإتحاد الأوروبي.
ألمانيا تنتظر
ألمانيا هي أيضا لم تكن بعيدة عن الأحداث التي يشهدها الإتحاد الأوروبي مؤخرا بحيث برزت حركات احتجاجية داخل المطارات الألمانية مطالبة بتسوية وضعية العمال في المطارات و خاصة منها رفع الحد الأدنى من الأجور المحدد بمبلغ 17 يورو إلى 20 يورو في الساعة. كما أن هذه التحركات لها البصمات الفرنسية نفسها مثل إرتداء السترات الصفراء و المطالبة بالتغيير الجذري للسياسات الاقتصادية الألمانية المندمجة داخل الفضاء الأوروبي.
بالإضافة إلى ذلك تكثيف حزب المعارضة «البديل لألمانيا» نشاطاته السياسية تحت جبهة تطالب بالانسحاب من الإتحاد الأوروبي علي غرار السيناريو البريطاني.
إن المواقف السياسية التي راهن عليها هذا الحزب خلال الانتخابات الأوروبية سنة 2017 حققت له فوزا باهرا وذلك بـ 94 مقعدا داخل البرلمان الأوروبي خاصة منها المراهنة على ورقة الهجرة و اللاجئين وإستقطاب العنصريين وإعتماد السياسة الاقتصادية الحمائية. فبوادر التصدع الداخلي الألماني بدأت تبرز خاصة مع تباطؤ النمو الاقتصادي و فقدان المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل شعبيتها.
إذن دقت ساعة الزحف الجماهيري داخل الإتحاد الأوروبي و بدأت الملايين تطالب بالعدالة الاجتماعية و تغيير الأنظمة الاقتصادية الأوروبية بشكل شامل و كامل. فقد مثل يوم السبت المنعرج الرئيسي للأحداث عبر «العصيان المدني و التمرد الشعبي» على السياسات الاقتصادية الأوروبية المجحفة التي لم تراع الظروف المعيشية للطبقات العمالية الكادحة و الفقيرة المهمشة. بالتالي تمثل تلك الحركات الاحتجاجية لأصحاب السترات الصفراء المتتالية أسبوعيا في كل من فرنسا و بريطانيا و ألمانيا بداية النهاية للفضاء الأوروبي الحر و عملة اليورو الموحدة و الاتجاه نحو تفكك جميع دول الإتحاد الأوروبي.