الاختفاء الغامض لموسي الصدر يزعج ليبيا من جديد
أُحرق العلم الليبي. لم يحدث ذلك في أي من المدن الليبية، بل في بيروت. ولم يكن إسقاط النظام الليبي الهدف المعني، بل إسقاط أكثر من عصفور بحجر رماه رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، قبل أن يتلقفه مناصروه ويخرجوا بالمئات في شوارع العاصمة، حيث انتزعوا أعلاما ليبية مرفوعة في حرم منطقة انعقاد القمة القمة العربية التنموية الاقتصادية ببيروت.
السبب المعلن كان اعتراض بري، الذي يتزعم حركة أمل، على مشاركة وفد ليبي في القمة، بعد أن استحضر ملف اختفاء الإمام موسى الصدر في ليبيا قبل نحو 4 عقود في عهد العقيد معمر القذافي، رغم أنه يعلم أن النظام الليبي المعني بقضية الصدر سقط على أيدي معارضين منذ سنوات.
لكنه استحضر هذا الملف إبان انعقاد القمة التنموية العربية في بيروت، رافضا تمثيل ليبيا وإن كان اشترط سابقا حضورا رمزيا تقتضيه دعوة يحملها أحد سفراء لبنان وليس الوزراء المكلفين تسليم الدعوات إلى الدول العربية، حسبما أكدت اللجنة الإعلامية المنظمة لفعاليات القمة، وهذا من شأنه أن يخفض مستوى تمثيل ليبيا تلقائيا، في تدبير يضاف إلى توصية بري جهاز الأمن العام اللبناني رفض منح تأشيرات دخول للوفد الليبي ورجال أعماله.
مقاطعة ليبية واستنكار عربي
الأحداث الطارئة في بيروت، استدعت موقفا من ليبيا برفضها المشاركة في فعاليات القمة، واستنكارا عربيا عبر عنه الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط، الذي أعرب عن انزعاجه الشديد من واقعة حرق العلم الليبي في بيروت، في حين رأى دبلوماسي سابق “أن الأمر معيب. فلبنان مجرد مضيف لاجتماع عربي، ويوجب العرف الديبلوماسي استقبال جميع الأعضاء”.
“المتاجرة” بالصدر
“استحضار هذه القضية يعد متاجرة بشخصية الصدر وما يمثله في الوجدان الشيعي”، حسب الوزير السابق محمد عبد الحميد بيضون، الذي أوضح أن بري يحاول توظيف قضية الصدر “بشكل رخيص سعيا لاسترضاء الرئيس السوري بشار الأسد، خشية أن يؤدي انزعاج الأخير منه على خلفية مواقفه من الأحداث في سوريا إلى انتزاع موقعه كرئيس للبرلمان”.
لا يخفي بري خصومته مع الرئيس اللبناني ميشال عون وفريقه السياسي، ولا يترك مناسبة دون أن يحولها إلى مبارزة سياسية، لكن محصلة المبارزة الأخيرة أتت بتعادل للطرفين، فالقمة قائمة، بغياب ليبيا.
في قراءة سريعة لمواقف بري، يبدو واضحا سعيه لتطيير القمة ومنع العهد من تسجيلها نقطة في لائحة إنجازاته الخجولة، رغم مرور 3 أعوام على انطلاقة العهد.
بداية، حاول إجبار عون دعوة سوريا إلى القمة خارج الإجماع العربي فلم يفلح، فدعا إلى تأجيلها طالما أن “لا حكومة أصيلة في لبنان”، ولم يوفق في مسعاه مجددا، فاستخدم الورقة “المقدسة” مجددا.
استحضر قضية الصدر ولوح بالشارع لمنع تمثيل ليبيا. فكان له ما أراد بعدما هددت، تحركات شارعه والرد الليبي عليها، العلاقات بين البلدين.
لم تغب قضية اختفاء الصدر واثنين من رفاقه في ليبيا عن خطابات بري، لا سيما تلك التي يسعى من خلالها إلى شد عصب شارعه، بل لم تحضر قضية غيرها في أدبياته والمسؤولين في حركته السياسية “أمل”.
فبعد أن كانت الحركة التي أطلقها الصدر في سبعينيات القرن الماضي تحت اسم أفواج المقاومة اللبنانية لمواجهة إسرائيل، تعد الحاضنة لشريحة كبيرة من الطائفة الشيعية، تضاءل نفوذها أمام صعود ميليشيات حزب الله المرتبطة بالنظام الإيراني.
وبات طموح الحركة لا يتجاوز الأزقة المحلية التي تنحصر بالفوز بمناصب رسمية تبدأ برئاسة البرلمان الذي يتربع عليه بري منذ قرابة 3 عقود، ولا تنتهي عند تعيينات وتوظيفات في المراكز العامة والوظائف الرسمية.
وبات حزب الله يمسك، بقوة السلاح، البلاد، وفي إمساكه هذا يضعف دور بري الذي يرى المراقبون أنه يبحث عن شرعية تعيد له دورا في سيبة الحكم الممسوكة حاليا من الترويكا المستجدة (الثلاثي)، ميشال عون (مسيحي)، وسعد الحريري (سني)، وحزب الله (شيعي).
وتستند نظرية حاجة بري إلى شرعية في المشهد الحالي، إلى الاستشهاد بحضور ليبي للقمة العربية التي انعقدت في بيروت عام 2002، فلم يعترض بري حينها وإن كانت موافقته على مضض، فهي تعود لكون الوفد دخل الأراضي اللبنانية من البوابة السورية، هكذرا اعتاد المسؤولون الليبيون الوصول إلى بيروت برا عبر دمشق.
دمشق التي كان قد زارها القذافي نفسه بعد أسابيع من اختفاء الصدر على أراضي دولته عام 1978 مشاركا في فعاليات اجتماع جبهة الصمود والتصدي، ولم يسأل حينها عن هذه القضية، بل يقول بيضون “إن الرئيس السوري، آنذاك حافظ الأسد أبلغ الجانب اللبناني أن الصدر توفي. لكن بري مصر على المتاجرة بهذه القضية”.
هنيبعل.. احتجاز في لبنان ولجوء في سوريا
المتاجرة تنسحب على كل ما يمت الى القضية بصلة، وصولا الى استمرار احتجاز نجل القذافي هنيبعل في سجن داخل لبنان، بعدما استدرجه نجل مرافق الصدر النائب السابق حسين يعقوب من سوريا واختطفه، قبل أن يسلمه الى الأجهزة الأمنية ويوقفه القضاء اللبناني بتهمة “إخفاء معلومات” في قضية اختطاف الصدر.
يثير مللف هنيبعل استياء ليبيا رغم مطالبة السلطات تسليمها إياه، وبحسب مصدر ليبي فإن هنيبعل كان يبلغ من العمر سنتين عندما اختفى الصدر، فكيف له أن يحاكم بهذه القضية.
وفيما تتحرك الوساطات لتحرير هنيبعل تتسرب معلومات تفيد بمطالبة النظام السوري بإعادة نجل القذافي، وهو الحاصل على لجوء سياسي على أراضيها.
تلتبس العلاقات هنا، فكيف لبري “الحاقد” على القذافي وعائلته أن يبقي على ود مع دمشق وهي التي احتضنت أفراد عائلة الزعيم الليبي وحمتهم؟
وقائع تعيد الى أذهان المراقبين أحداث ما قبل اختفاء الصدر، فالإمام الشيعي الذي آمن بالصيغة اللبنانية ونهائية الكيان بعروبته كان يسعى إلى وقف الاقتتال الداخلي في لبنان خلال الحرب الأهلية.
ويقول الصحفي حسن فحص، إن “الصدر زار طرابلس الغرب بناء على مشورة من الرئيس الجزائري آنذاك هواري بو مدين والرئيس السوري حافظ الأسد، للبحث في وقف التمويل الليبي للقوى المتقاتلة، اللبنانية والفلسطينية”.
تتقاطع المعطيات مع تأكيد بيضون أن الصدر الذي تأثر بالخسائر التي منيت بها قرى الجنوب اللبناني إثر الهجوم الإسرائيلي، طلب من الأسد الأب المساعدة على نزع السلاح الفسلطيني من جنوب لبنان.
لم يبد المضيف أي رفض، بل سأله مضيفه بالبحث عن حل لقضيته في دار القذافي، فـ”السلاح الفلسطيني عام 78 كان حاجة للقوات السورية في لبنان، بعدما كان نزعه سببا لدخول هذا القوات عام 76″، حسب بيضون.
لن يشكل السؤال عن الدور السوري في قضية الصدر مفاجأة، وهو المتورط في عمليات اغتيال عدة، لكن فحص يرى نقاطا وأسبابا مشتركة ترتبط بين قضية اغتيال الزعيم الدرزي كمال جنبلاط واختفاء الصدر، لما لهذين الرجلين من توجهات تعيق طموحات الأسد، أبرزها رفض الاقتتال اللبناني الفلسطيني.
صمت سوري إيراني
القضية المتفاعلة منذ 4 عقود تثير الكثير من الأسئلة حتى اللحظة، حيث يشير المحلل السياسي لقمان سليم إلى وجود “أجوبة باتت شبه مؤكدة لما آل إليه مصير الصدر ورفيقيه. فهناك روايات تقول إنهم قتلوا بعد أيام من وصولهم إلى ليبيا، لكن في المقابل هناك تعنت من الطرف اللبناني على إبقاء قضية الصدر كمسمار جحا يمكن التوسل به عندما تدعو الحاجة”.
وإذ يرى سليم أن تحميل الحكومة الليبية الحالية مسؤولية ما ارتكبه القذافي أمر غير منطقي، يدعو مصدر ليبي إلى البحث عن أسباب الصمت السوري الإيراني في هذه القضية، خصوصا أن أي مساءلة للقذافي لم تحصل من قبل الحليفين السابق ذكرهما.
الصدر، المولود في قم الإيرانية عام 1928، ارتبط بعلاقات وثيقة مع قيادات الثورة الإيرانية آنذاك، واحتضنهم في منزله بصور، جنوبي لبنان، كذلك تربطه علاقة نسبية مع أحمد الخميني، نجل مؤسس النظام الإيراني.
ويرى مصدر ليبي أن بري لو أراد فعلاً إنهاء هذا الملف، لما انتظر تعاون الحكومة الليبية، بل لذهب إلى طهران ودمشق وسألهما عن معلوماتهما، أو دورهما في هذه القضية.
وفي مقابل الدور السوري سجل صمت إيراني منذ لحظة الاختطاف، كوفئت عليه طهران بتأييد القذافي لمعسكرها في الحرب الإيرانية العراقية، عام 1980.
يشير بيضون الى أن “الصدر سجل دورا فاعلا في الثورة الإيرانية، لكن قائدها الخميني عمل على تصفية جميع الناشطين فيها بعد نجاحها”.