فن النحت ورؤى ما بعد الحداثة.. مفاهيم التعبير عن الواقع علامات الإندماج مع جمالياتها
إن الطاقة التعبيرية في فن النحت المعاصر تتجاوز اللحظة المثبتة وترتقي بجوانبها الجمالية نحو الخيال والأفق الأكمل في الصورة المقصودة من التعامل مع الخامات إلى درجة التماهي الداخلي مع عمقها والتوجيه الجمالي لتفاصيلها.
وبالتالي التحول بالموضوع والصياغة والتشكيل إلى مفاهيمة دلالاتها متفرعة أكثر ومتشعبة نحو التوسيع الأفقي في التعبير الماورائي وهو ما يمكن أن يُخضع فكرة النحت المعاصر إلى تكوينات حسية وذهنية أكثر فهما لطبيعة الفكرة ذاتها في النحت والتحول بها من أساليب بُنيت على خلود الذاكرة الانسانية والحضارة إلى فن بصري له مواقفه من قضاياه وواقعه.
فالفن المعاصر اندمج مع النحت واستطاع خلق قيمه ومبادئه الفنية التي انطبقت بصريا وطبُّقت عليه مفاهيميا ومن خلال التجريب والتجديد للتجارب المتعددة بدا النحت أكثر قربا وتعبيرا حتى أن حركته لم تستثن منه جماليات الغموض التي عوّدت المتلقي على التساؤلات الحسية والتواصل العقلاني مع المنجز.
وهو ما أثرى الحركة ككل عربيا وعالميا وبالتالي أصبح الجدل قائما على التفسير البصري لمفاهيم النحت المعاصر كل وفق جغرافيا الحضور التي يعبّر عن درجاتها المتحوّلة وانفعالاتها الحسية مع كل الأفكار والقضايا الإنسانية المطروحة.
فمن أنموذج تجارب اللبناني بسام كرلس والفلسطينية ميرفت عيسى والأمريكي مارك سيجن تتراءى التجاذبات الحسية متنوعة التعبير والانتماء والانفعالية السردية بصريا من حيث الفكرة ومداها الفهمي ومن حيث الأسلوب وانعتاقه التعبيري ومن حيث الواقعية المفرطة انسجم كل فنان مع ذاته في النحت والخامة والعناصر، فكل يستقرأ من أفكاره وعواطفه فنياته ويبتكر من انفعاله واندماجه وانسجامه رؤاه التعبيرية من المادة المشكّلة وتسخيرها مع طبيعة النحت وأساليبه.
يتعامل اللبناني بسام كرلس مع النحت كتماه وجودي يعبّر من خلاله عن الواقع وطبيعة الأمكنة بلا تصعيد عاطفي وبلا انزلاق نحو المبالغة الحسية.
فهو يسرد بصرية مواقفه ويتجرد من المباشرة التي تعيد الأحداث وتفاعلاتها كتذكّر لأنه من الواقع يسلهم المفاهيم ومن ذاكرة الحرب وفكرة الدمار يعيد ترميم الفوضى، وبالتالي يبتكر جمالياته ببذخ الفكرة المعتقة فلسفيا من المجاز الماورائي الذي يبتدع من الدهشة صدمة مصورة، فينحت العمارات ويستدرجها نحو الدمار ويعتّم منافذها ويحوّل ملامحها لتبدو كئيبة اسمنتية كما الصور المترسبة من الشاشات الهاربة من ذاكرة الحرب ومن العبور من الهدوء النسبي إلى صخب الفوضى فهو يركز على إعادة الإعمار فكريا قبل أن يتحوّل إلى البناء ويتجرد من التذكر المدمر ليعمّر الذاكرة، في رؤيته البنيوية والتركيبية للبنايات التي ينحت أبعادها الثلاثية.
أما عن نحت التماثيل فهو يحترف من خلالها نسج الأسطورة وتجاذبات الطبيعة فمن “الفينيق” يشكل انبثاق “الصليب” محاورا الأرض والسماء في تراتيل صوفية المناجاة وكأنه يجذب الصورة من عتاقة ماضيها نحو ابتكار أساسياتها، أما حفر الأقنعة فهو يتفاعل معها مستوحيا الحالة والاستنتاج وبالتالي يتحول مع مزاجها في كل مرة يشكل خاماته من الحجر البرونز والحديد والكتل الاسمنتية ليحاور عناصره بحواسه التي يستنطقها ويتعمق فيها مع مفاهيمه.
إن كرلس يتبنى الفكرة ويتجنب التقليد فهو معاصر في نحت جمالياته وأفكاره بعمق ما يعايشه، ومن الطبيعة التي تثيره ليستحدث التطبيق والتجريب والخوض بفلسفة جريئة التكوين لها من الحواس ما يحاور التناقض من الإعمار إلى التدمير ومن الهدوء إلى الفوضى ومن تأمل الواقع إلى الفلسفة.
وفي تجربة ميرفت عيسى فالمضاهر المستوحاة من عمق الصور تحتل عواطف التشكيل النحتي إذ تبالغ في حواسها الذهنية التي تحاور عناصرها وتماثلاتها وقوالبها المتناغمة في جدلياتها الفكرية لتسرد القصص من عمق الأرض والتاريخ تروّض الخامة لتتقمّص الدور مع منحوتاتها حتى تشبه بملامحها وطنها في تجاذبات الحق والسلب التناقض بين الوجود والعدم الواقع والخيال وتداعياته المتصادمة التي تشبه الأرض في تقنياتها النحتية تتحدى قساوة الخامة بأنوثتها التي تعمّق من التفاعل الحسي والذهني، فالحجارة وكما تعبر ميرفت لا يمكن لها إلا أن تكون طيّعة للمفاهيم التي تعاند جمودها الأخرس حتى تواجه عنف الواقع برقة التفاعل واندفاع الحواس وصخب الاستنطاق والمواجهة والمحاورات العنيدة خاصة وأنها تعتبر النحت على الصخر تحدّ بالغ للمشاهد المعتمة والحدود الضيقة التي تفجّرها وتهبها طاقة الفرح، لأن كل ما تفعله يحرّك المنحوتة ليستوعب الفكرة منها لتجتاح الخامة الصلبة في توظيفها الرقيق المندمج مع مشاعر الحنين والتذكر ومزاج البحث إنها لا تكتف بالنحت ولا تقلّد أحدا بل تألّف محاوراتها الذاتية وهي تمارس الحياة بكل تفاصيلها التي تستحقها وتتجاوب معها حتى يكتمل انتماؤها لذاتها لأرضها ولفنها.
تجربة الفنان الأمريكي مارك سيجان تختلف من حيث التفاصيل التعبيرية في انفتاحها على الذاتية الفردانية بأسلوب الواقعية المفرطة من حيث التماثل التعبيري فهو يبالغ في التجسيد النحتي معتمدا على أساسيات النحت الإغريقي التي كانت تبالغ في نحت الأجساد العارية والمثالية وتركز على جماليات قوالبها لتخليد صورها المتخيلة والأسطورية فهو يتجرد من تلك الفلسفة البنيوية في النحت ليحفظ فقط الأسلوب التعبيري للجسد بكل تفاصيله بدقته وبعيوبه فهو يخضع الجسد لسلطة المرايا الحقيقية وهو الأسلوب المتوافق مع مرحلة ما بعد الحداثة، فمفاهيمه مطلقة بتطرفها الحسي وبرغباته المشحونة مع الوجودي بقوالب الحياة والجسد والتعايش بين الأجساد.
فأعماله تلفت النظر والجدل لصور ينحتها ويستنطقها طبيعيا بتداخلات حسية تكاد تندمج مع الحقيقة، إذ يستفز النحت عنده التابوهات التي يثيرها الجسد ويستوعبها المتلقي فهو يتعامل مع الجسد المنحوت إيروتيكيا وحسيا وتفعيليا بثيمات الجسد وحركاته الأنثى وخصوبة الجسد الحب وحركاته التي تمنح الحياة من خلال أسلوب اندماجي ترميزي يتداخل مع حسية الأجساد بكل تفاصيلها العارية والمجسدة في الولادة والحياة في الحب والعناق في الأنوثة والطفولة يسرد مسارات الحياة بحب مندفع الحساسيات والرغبات بإفراط محكم التنسيق لا يتعارض مع كينونة الحياة وتوافقات الوجود بالخامات البرونزية التي تتشابه مع الانسان طبيعيا يستنطق الحياة والوجوه في لغة الأجساد.
إن النحت بتعدد أساليبه المعاصرة لغة فنية تعبيرية، اندمج مع تفاصيل الفكرة وخاماتها فنقل الحواس المتقلّبة بمزاجية الواقع نحو القوالب الجامدة وتمكّن من أن يحرّكها عاطفيا ويتحوّل بها نحو أفق معاصر مألوف الرؤى والتساؤلات والحيرة.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections