فورين أفيرز: العراق على أبواب حرب جديدة وهذه ملامحها
قال الكاتب رانج علاء الدين، المتخصص في الشؤون العراقية وزميل زائر بمركز بروكنجز الدوحة، أنه بعدما حرَّر العراق والمجتمع الدولي مدينة الموصل أعلنت الحكومة النصر على تنظيم داعش وقالت، انتهى الصراع الذي استمر 3 سنوات ضد الجهاديين الإرهابيين الذين استولوا على معظم الجزء الشمالي من البلاد.
الكاتب الأمريكي قال في مقالته التي نشرتها مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية إن هذا الإعلان كان سابقاً لأوانه. إذ يبقى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تهديداً كبيراً، ليس فقط لفطنته كحركة تمرُّد، لكن أيضاً لأنَّ النخب العراقية الحاكمة أخفقت في معالجة الظروف التي مكَّنت داعش من الانتشار في المقام الأول.
ففشل هذه النخب في تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان الفقراء الذين أنهكتهم الصراعات، ومعالجة الانقسامات السياسية والاجتماعية، وتشكيل إطار عمل وطني مشترك يُوحِّد البلاد، قد يُمهِّد الطريق قريباً لحربٍ أهلية مدمرة أخرى في ظل تباري المجموعات المتنافسة من أجل السيطرة على الدولة العراقية.
الحرب المقبلة في العراق ستكون داخلية بسبب الفساد المستشري وفشل الحكومة في حل الأزمات الاقتصادية
كان من المفترض بعد الانتخابات البرلمانية التي جرت في مايو/أيار الماضي أن يفتح العراق صفحة فصلٍ جديد لمرحلة ما بعد داعش، بل وحتى ما بعد الطائفية، يعالج فيها الساسة حالة الاستقطاب، والفساد المستشري، والاضطرابات الحادة في البلاد.
لكنَّ الأمور في العراق تتحول إلى الأسوأ وليس الأفضل. إذ طرح حيدر العبادي، رئيس الوزراء العراقي الضعيف الذي حلَّ ثالثاً في الانتخابات، سلسلة من المبادرات الصورية لمحاربة الفساد، أخفقت كلها في إقناع العراقيين الذين نفد صبرهم بالإصلاحات الرمزية التدريجية.
ويوضح الساسة العراقيون أنَّ معالجة الفساد قد تستغرق سنوات، مستهترين بشعبٍ صَبَرَ بالفعل أكثر من 15 عاماً من أجل الإصلاح.
وأعقبت الانتخابات تظاهراتٌ حاشدة في معظم جنوب العراق، بما في ذلك البصرة، حيث أحرق المحتجون مبنيي مجلس المحافظة والقنصلية الإيرانية، واقتحموا مكاتب الأحزاب السياسية. وردَّت قوات الأمن العراقية والميليشيات الشيعية التي تحظى بقبول الحكومة بقوة مميتة وانتهاكاتٍ لحقوق الإنسان.
تضم البصرة أكبر احتياطيات نفطية في العراق، وهي مسؤولة عن 80% من صادرات البلاد النفطية، وتوفر أكثر من 7 مليارات دولار شهرياً لخزائن الحكومة. وفقاً لذلك كان ينبغي أن تصبح أغنى محافظات العراق، لكنَّها من بين أفقرها. وكما هو حال معظم العراق، تفتقر المدينة إلى الماء النظيف والكهرباء وفرص العمل.
هذا المزيج من السكان المُحبَطين والحكومة التي تفتقر إلى المصداقية والقدرة على تهدئة الأمور يجعل الوضع محفوفاً بالمخاطر.
ولدى العراق كل المقومات التي تجعله بلداً مُعرَّضاً للانحدار إلى الصراع مجدداً، وبدلاً من فتح فصلٍ جديد، قد يجد نفسه في حربٍ أهلية جديدة.
فبعيداً عن الاستقطاب السياسي والاجتماعي، يعاني العراق من التكديس المستمر للأسلحة والمنظمات العسكرية رغم كل محاولات منع ذلك، وأيضاً يعاني غياب المؤسسات القادرة على النجاح، ووجود الكثير من السلطات البديلة التي تحل محل الدولة العراقية.
وتقع كثيرٌ من المناطق خارج نطاق نفوذ وسيطرة الحكومة، بما في ذلك الجنوب ذو الأغلبية الشيعية، حيث تتوزَّع السلطة بصورة متفرقة بين الأحزاب والميليشيات والقبائل ورجال الدين.
منذ عام 2003، كان الصراع واسع النطاق في العراق يجري بين طائفتي العرب السُنَّة والشيعة. لكن على الأرجح سيكون الصراع في المرحلة المقبلة بين الفصائل الشيعية المتنافسة، تلك الفصائل القوية المخضرمة الغنية بالموارد التي تهيمن على الحكومة العراقية.
فضلاً عن التنافسات الشيعية الشيعية
حين برز داعش في 2014، ملأ فراغاً سياسياً وأيديولوجياً لا يزال قائماً حتى اليوم. إذ استغل الشعور بالتهميش بين العراقيين السُنَّة، إلى جانب السخط من الفساد والعطب الذي يصيب حكومة بغداد.
ولا تزال مشاعر الاستياء العميقة هذه حاضرةً، لكن من المستبعد أن يتحرَّك العرب السُنَّة في المستقبل المنظور. إذ تعرَّضوا لجرحٍ بالغ ونزفوا كثيراً وباتوا مُرهَقين نتيجة الحروب التي لا تُحصى ضد الأعداء من داخل طائفتهم (داعش، والقاعدة، والاقتتال القبلي) وخارجها (الولايات المتحدة، والقوات المسلحة العراقية التي يهيمن عليها الشيعة، والميليشيات الشيعية الطائفية).
لكن بدلاً من ذلك، ستكون حرب العراق المقبلة على الأرجح حرباً أهلية بين المتنافسين الإسلاميين الشيعة. تسيطر هذه المجموعات على أقوى المناصب في الحكومة والمؤسسات الأمنية العراقية منذ 2003.
وقد نشرت أو ضمَّت مجموعات ميليشياوية لتأمين الحصول على جزءٍ كبير من موارد الدولة. وهذه الميليشيات الشيعية معاً أقوى من القوات المسلحة العراقية، التي انهارت في وجه هجوم داعش عام 2014.
ولا تخضع الميليشيات الشيعية لسيطرة الحكومة، لكنَّها مترسخة داخل مؤسسات الدولة وتستغل مواردها. فمنظمة بدر، أقوى وأقدم الميليشيات العراقية (التي تشكَّلت في الثمانينيات في إيران)، تقود الشرطة الاتحادية ووزارة الداخلية منذ 2003. وخاضت بدر بعد سقوط الديكتاتور السابق صدام حسين معارك دموية مع رجل الدين المناهض للغرب مقتدى الصدر وميليشيا جيش المهدي التابعة له.
ولا يمتلك حزب الدعوة الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء العبادي ميليشيا خاصة به، لكنَّه أساء استغلال سيطرته على القوات المسلحة لإخضاع منافسيه. إلى جانب أنَّه حشد وسلَّح فصائل قبلية.
خاصة أن الشيعة لهم تاريخ كبير في الخلاف الداخلي في العراق
تعود التنافسات بين الفصائل الشيعية إلى ما قبل الغزو الأميركي للعراق في 2003. ومنذ 2003، احتاجت الصراعات الدموية بين شيعة العراق وساطاتٍ مكثفة من القادة السياسيين والدينيين، بما في ذلك القادة السياسيون والدينيون من بعض القوى الخارجية مثل إيران في بعض الحالات.
ففي 2005، اضطر آية الله العظمى علي السيستاني، رجل الدين الشيعي البارز، للتوسُّط بين مجموعاتٍ شيعية متنافسة في خضم تمرّدٍ سُنّيّ مميت.
واستطاع العراق حتى الآن تجنُّب نشوب صراعٍ شيعي داخلي شامل لأنَّه كان مشغولاً بالتمرُّد السُنّيّ، وتنظيم القاعدة في العراق، ثُمَّ بداعش. ولا تزال هذه التهديدات كامنةً في الخلفية، لكنَّها لم تعد تمثل التهديدات الوشيكة الوجودية التي كانت عليها من قبل بالنسبة للطائفة الشيعية الحاكمة.
والتنافس على موارد الدولة، بما في ذلك عملية تشكيل الحكومة (التي تحدد نصيب الطبقة الحاكمة من الدولة العراقية ومواردها) المحفوفة بالكثير من المخاطر ويعصف بها الصراع، تتحول سريعاً الآن إلى لعبة صفرية.
وبعكس الماضي، لا يمكن للفصائل الشيعية العراقية الاستمرار في الإفلات بتقاسمها للدولة في ما بينها في حين تُقدِّم وعوداً فارغةً للشعب الساخط. فالمطلب الشعبي بالإصلاح أصبح مُلِحّاً جداً وكبيراً جداً لدرجة أنَّه حتى المؤسسة الدينية الشيعية تدخَّلت لتُصِرّ على معالجة الحكومة له.
لكنَّ الخطر الحقيقي الكامن في أن يُحوِّل فصيلٌ واحد خزائن الدولة إلى سلاح ويستغل عملية الإصلاح في السنوات المقبلة ربما يجعل هذه الصراعات السياسية صراعاتٍ وجودية بالنسبة للمجموعات المعنية.
تغيَّر المشهد السياسي والأمني العراقي بصورةٍ كبيرة منذ 2003. فعلى الورق، تُعَد هيئة الحشد الشعبي مؤسسةً تابعة للدولة وتخضع لسيطرة الحكومة.
هذه الهيئة هي المظلة الجامعة للميليشيات التي تشكَّلت بعد انهيار الجيش العراقي عقب سيطرة داعش على الموصل، وتتألف من 100 ألف فرد. لكنَّها في الواقع تخضع لقيادة وهيمنة مجموعة كبيرة من الميليشيات المستقلة المتحالفة مع إيران الخارجة عن سيطرة الحكومة، ولديها تاريخ من المواجهات العنيفة مع الجيش العراقي. ويصعد الحشد الشعبي بسرعةٍ شديدة لدرجة أنَّه قريباً قد يستوعب القوات المسلحة النظامية العراقية.
اشتدت التوترات بين العبادي (القائد العام للقوات المسلحة) وقيادة الحشد الشعبي المدعوم من إيران. ويُزعَم أنَّ هادي العامري، قائد منظمة بدر والقائد الفعلي لقوات الحشد الشعبي، حذَّر المبعوث الأميركي الخاص بريت ماكغورك من أنَّه سيطيح أي حكومة تتشكَّل نتيجة تدخُّلٍ أميركي. ووسط التهديدات المستمرة ضد الولايات المتحدة من جانب الميليشيات المتحالفة مع إيران، أفادت تقارير باستهداف السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء المُحصَّنة في بغداد بعدة قذائف هاون الخميس الماضي 13 سبتمبر/أيلول. وفي البصرة، أطلق وكلاء إيران صواريخ على القنصلية الأميركية الموجودة في مطار المدينة.
وبالفعل، حذَّر الحشد الشعبي الجيش العراقي من التدخُّل في الوضع السياسي الخلافي الذي يعصف بالبلاد. ومن شبه المؤكد أنَّ الجيش سيخسر أي معركة مع الحشد الشعبي وميليشياته الشيعية، المندمجة الآن تحت رايةٍ واحدة، ولم تعد تلك المجموعات المتباينة الضعيفة التي كانت عليها قبل عشر سنوات.
إذ قامت هذه المجموعات بتحولٍ جذري لتصبح حركاتٍ اجتماعية-سياسية مخضرمة قادرة على النجاح وتحظى بالثقة. ورشَّح الحشد الشعبي لأول مرة مرشحين في الانتخابات وحلَّ ثانياً، مُتغلِّباً على منافسين أصحاب خبرات وباع طويل يصل إلى عقودٍ في الحشد السياسي.
ولا يُعَد الحشد الشعبي أفضل تدريباً وانضباطاً من الجيش وحسب، بل، وهو الأهم، يتمتع كذلك بدرجةٍ أكبر بكثير من الشرعية والدعم من جانب الشعب بسبب النجاحات التي حقَّقها في ساحات القتال وجذوره الشعبية. وفي المقابل، للجيش العراقي إرثٌ تاريخي مُلطَّخ ويُنظَر إليه على نطاقٍ واسع باعتباره فاسداً وعاجزاً.
لكن مازالت هناك فرصة إن استغلها العراقيون، ستنجو بلادهم من حرب أهلية مقبلة
تُوفِّر الظروف البنيوية في العراق كل الفرص لتصاعد التنافسات السياسية والمظالم القائمة منذ أمدٍ طويل إلى حربٍ أهلية. وقد تشعل الاضطرابات الاجتماعية مثل الاحتجاجات التي تشهدها البصرة حرباً أخرى بين الفصائل المتناحرة التي تنافست معاً واستغلت ثروات وغنائم البلاد منذ 2003.
لكن ربما لا يزال للعراق خيارٌ واحد أخير للسلام، يتمثَّل في دورٍ أكثر نشاطاً وتدخلاً من آية الله السيستاني. إذ ساعدت فتاوى السيستاني وإعلاناته منذ 2003 في احتواء الصراع الطائفي. وفي 2014، حين سيطر داعش على الموصل، أجبر السيستاني رئيس الوزراء نوري المالكي على ترك منصبه، الأمر الذي مهَّد الطريق أمام تولي العبادي المنصب، وحَشد المتطوعين لإيقاف توسع داعش.
وقد تدخَّل بالفعل في الصراع الأخير من خلال إعرابه عملياً عن وجوب تنحّي العبادي. واتساقاً مع قرونٍ طويلة من التقاليد والممارسات الدينية الشيعية، لا يتدخَّل المرجع الديني إلا على مضض، وحين يتدخَّل، يعكس ذلك عِظم الأزمة.
ومن شأن تجاهل السيستاني أو الوقوف في وجهه أن يُبعِد مزيداً من الدعم الشعبي عن العبادي، ويُحفِّز ويُوحِّد خصومه. وفي تاريخ العراق، قليلون هم القادة الذين اختاروا خوض معركة مع رجال الدين في النجف ونجحوا بالخروج منها سالمين.
وقد يكون رجل الدين والمؤسسة الدينية التي يترأسها في موضعٍ فريد يسمح بفرض التغييرات والإصلاحات التي يحتاجها العراق على نحوٍ مقبول. فتأثير السيستاني الذي لا نظير له، والدعم الذي يحظى به، وشبكاته الاجتماعية والدينية الواسعة، كل هذا يمكن تسخيره لإقامة منطقة آمنة تحمي وتُمكِّن ساسة العراق الأكثر اعتدالاً وقادة المجتمع المدني، أولئك السياسيين والقادة الذين أُسكِتوا بفعل البنادق والأموال.
وستتطلَّب الإصلاحات والمصالحة وحل النزاعات العالقة جهداً متواصلاً وقوياً من جانب المؤسسة الدينية، وهو جهدٌ لا يخلو من المخاطرات. لكن إن أراد العراق تجنُّب حربٍ أهلية أخرى، فإنَّه لا يملك مُتَّسعاً من الخيارات.