ترامب قريباً من «العزل» أكثر من أي وقت مضى
كان يوم الثلاثاء 21 أغسطس 2018 يوماً رهيباً بالنسبة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب ويوماً أكثر فظاعة بالنسبة الولايات المتحدة الأميركية . بالنسبة إلى دونالد ترامب كان هذا اليوم نذير شؤم إذ أقحمه محاميه السابق مايكل كوهين في جريمة فيدرالية عند اعترافه أنَّه مذنب فيما يتعلق بانتهاك القوانين الخاصة بتمويل الحملات الانتخابية.
وحسب تقرير لمجلة “ذا ناشيونال إنتريست” الأمريكية، فإن مشكلة الرئيس الآن ليست أنَّه سيُوجه إليه اتهام في محكمة فيدرالية (لن يحدث ذلك، على الأقل طالما أنه يشغل البيت الأبيض) أو أنَّه سيُقاضى ويُعزل من منصبه من جانب الكونغرس. وهذا سيحدث بالتأكيد، لكن احتمالية إدانته من جانب مجلس الشيوخ ضئيلة.
ويوضح تقرير المجلة الأميركية أن المشكلة الكبرى تكمن في أنَّ رئيس الولايات المتحدة يقع الآن في مرمى اتهام قانوني سيوجهه له المستشار الخاص روبرت مولر وأنّ هذه الحقيقة ستقوّض وتضعف رئاسته، مما يجعله سيئ الحظ وغير فعَّال بشكل متزايد. وإذا كان لدى ترمب قبل يوم الثلاثاء أي احتمالات لتحقيق رئاسة ناجحة، فإنَّ هذه التوقعات انحدرت بشدة.
مشكلة الولايات المتحدة في غموض الوضع القانوني الجديد للرئيس
هذا الغموض له مصدران، أولهما زعم كوهين أنَّ ترمب أوعز إليه بدفع رشاوى إلى امرأتين قال إنهما كانتا ترتبطان بعلاقة مع ملياردير نيويورك، ترمب، في السنوات الماضية. باعترافه أنَّه مذنب بشأن دفع هذه الأموال، يقبل كوهين ادّعاء الحكومة بأنَّ هذه الأموال مثلت انتهاكات قانونية فيما يتعلق بتمويل الحملة الانتخابية، إذ تتجاوز بكثير الحدود القانونية الفيدرالية المفروضة على الإسهامات السياسية.
ومع ذلك، يجب على الحكومة إثبات أنَّ تلك الأموال دُفعت لتعزيز فرص ترمب الانتخابية، وهو أمرٌ ليس بالهيِّن لأنَّه يرتبط بإمكانية معرفة ما كان يدور في عقل ترمب عندما دفع تلك الأموال.
لنأخذ بعين الاعتبار نتيجة توجيه ممثلي الادّعاء الفيدراليين اتهامات مماثلة ضد المرشح الرئاسي الديمقراطي جون إدواردز عام 2011. كان الاتهام هو أنَّه سمح للمتبرعين السياسيين بدفع مخصَّصات مالية كبيرة تصل إلى مليون دولار لعشيقته لإسكاتها. زعمت الحكومة أنَّ الهدف النهائي من ذلك كان حماية بقاء إدواردز كمرشح رئاسي مؤهل لخوض الانتخابات عن طريق إخفاء علاقة خارج إطار الزواج. وبالتالي، كانت الهدايا عبارة عن مدفوعات عينية، مما يشكل انتهاكاً لقوانين الحملات الانتخابية.
برأت هيئة المحلفين في القضية إدواردز من واحدة من التهم الست المرفوعة ضده وعلَّقت الخمس قضايا الأخرى دون فصل. وأسقطت الحكومة قضيتها بعد ذلك بوقت قصير. وبدا للخبراء القانونيين أنَّ الحكومة فشلت في إثبات أن تلك المدفوعات كانت مرتبطة بالحملة الانتخابية، مقابل كونها بدافع الرغبة في حماية سمعته وزواجه، على سبيل المثال.
على الرغم من وجود اختلافات قد تكون مهمة بين القضيتين، تمثل نتائج قضية إدواردز خطوط تماس كبيرة إلى حد ما مع الجدل الدائر حول ترمب لأنَّه من الصعب دائماً إثبات الدافع، الذي يكمن في أعماق الشخص. ربما يكون هناك دليل قوي على ما كان يفكر ترامب فيه عندما فوَّض كوهين بدفع المبلغين (أو ما إذا كان قد فوَّضه فعلاً) ( 130ألف دولار و150 ألف دولار، على التوالي)، لكن بغياب ذلك، سيظل الغموض سيد الموقف.
وأيضاً في طبيعة التحقيق الذي يجريه المدعي الخاص
يرتبط مصدر الغموض الآخر بطبيعة التحقيق الذي يجريه المدعي الأميركي الخاص المكلف بالتحقيق في مزاعم التدخل الروسي في انتخابات الولايات المتحدة الأميركية روبرت مولر. في التحقيقات العادية، يرى مسؤولو إنفاذ القانون دليلاً على ارتكاب جريمة ثم يسعون لتحديد الجاني. لكن في تحقيق مولر، يبدأ المحققون مع تحديد المشتبه به (في هذه الحالة، ترمب) ثم يبحثون في كل الاتجاهات سعياً لإثبات أنَّه ارتكب جريمة. بالنسبة للعديد من هذه التحقيقات، لا يوجد حد زمني أو موارد يمكن تكريسها للقضية ويكون نطاق التحقيق ضيقاً للغاية.
وتعرض القضية الحالية التي تنطوي على ترمب مثالاً صارخاً على هذا الشكل من التحقيقات. بدأ التحقيق بتلميحات واقتراحات بأنَّ روسيا حاولت إفساد الانتخابات الرئاسية عام 2016 وأنَّ حملة دونالد ترمب الانتخابية ربما تكون قد شاركت «بالتواطؤ» في ذلك. هذا أمر خطير للغاية ويستحق تحقيقاً قوياً. لكن تحقيق مولر قد انحرف عن مساره هنا وهناك، ملاحقاً مساعدي دونالد ترمب بشأن مسائل غير ذات صلة على الإطلاق، على أمل احتمالية أن يورّط هؤلاء الأشخاص الرئيس في ارتكاب مخالفات وجرائم في مسائل بعيدة كل البعد عما يسمى بالتواطؤ. والآن يسعى التحقيق على الاستقواء بكوهين – وهو رجل ذو نزاهة وأمانة مشكوك فيهما بشكل واضح – لسحب ترمب إلى أدغال قانونية فشلت بشكل مدهش عندما اُستخدمت لتوريط وإدانة جون إدواردز.
وهو ما يثير قلق الأميركيين، فهم لا يرغبون في الإطاحة برؤسائهم!
يثير هذا النهج التحقيقي قلق العديد من الأميركيين لأنَّه يثير تساؤلات حول ما إذا كانت هناك نية مُبيَّتة لاتهام الأشخاص المستهدفين ببساطة إلى أن يظهر شيء ما في نهاية المطاف – مهما كان هذا الشيء قسرياً أو واهياً. لا يرغب الأميركيون في الإطاحة برؤسائهم من مناصبهم لأسباب لا ترتقي في فظاعتها إلى مستوى فظاعة العمل المتهمين به. كما أنَّ عزل رئيس الولايات المتحدة -والإطاحة بنتائج الانتخابات– مسألة خطيرة للغاية وينبغي على المسؤولين في واشنطن التعامل معها بما يتناسب مع حجمها.
تعلَّم الجمهوريون هذا الدرس بقسوة عندما سعوا لعزل بيل كلينتون من رئاسة الولايات المتحدة الأميركية في عامي 1998 و1999 بناءً على اتهامات بحنث اليمين وعرقلة العدالة. نعم، لقد كذب الرئيس بوضوح وهو تحت القسم الدستوري وفعل ذلك للتستر على سلوك جنسي في الجناح الغربي بالبيت الأبيض، الأمر الذي أفزع معظم الأميركيين. لكن حالة الهياج العارمة للحزب الجمهوري ضد كلينتون أثَّرت على جمهور الناخبين بشكل لا يتناسب مع الجرائم المزعومة. وامتنع مجلس الشيوخ عن إدانة الرئيس وحصل الديمقراطيون على عدد أكبر قليلاً من المقاعد في مجلسي النواب والشيوخ في الانتخابات التالية حتى عندما تولى الجمهوري جورج دبليو بوش رئاسة البيت الأبيض.
إلا أن ذلك لن يمنع من الدفع في اتجاه «العزل»
في الدراما الدائرة في الوقت الحاليّ فيما يتعلق بالتحقيقات حول ترمب، سنجد عناصر الغموض المتشابكة تخدم على نحو مماثل في إفساد العلاقات داخل المنظومة السياسية الأميركية. لنفترض أنَّ تلك الحقائق التي كُشفت مؤخراً يمكن أن تمحو الغموض وتقود البلاد نحو شعور قوي بأنَّ ترمب يجب أن يرحل. لكن حتى الآن لم يحدث ذلك والبلد الذي يبدو أنَّه يُفكّك لحامات تماسك طبقاته بشكل يائس من المرجح أن يشهد مزيداً من ذلك التفكك.
ومهما بدت هشاشة ادعاء كوهين من الناحية القانونية، فمن المؤكد أنَّه سيكون بمثابة القوة الدافعة وراء إجراءات العزل في اللجنة القضائية في الكونغرس إذا حصل الديمقراطيون على الأغلبية في انتخابات الكونغرس المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، ومن المرجح أنَّهم سيحققون ذلك. إذا أكَّد مولر الادعاء ضد ترمب في تقرير إلى الكونغرس، سيضيف ذلك مزيداً من الزخم وربما يكفي لاستيفاء بنود الاتهام والعزل التي تبنتها أغلبية أعضاء الكونغرس وأُرسلت إلى مجلس الشيوخ.
لكن مهلاً، فمن المرجح أن يمتنع مجلس الشيوخ إدانة دونالد ترمب
في هذه الحالة، من المرجح أن يمتنع مجلس الشيوخ عن الإدانة، كما حدث في قضية كلينتون. لكن أثناء ذلك، ستؤدي هذه القضية إلى تفاقم حالة الاستقطاب التي تشهدها أميركا بالفعل الآن وتخفيض مستوى ثقة المواطن في مؤسساته السياسية حتى دون المستوى الحالي وسيترك الأميركيين مشمئزّين من السياسة أكثر مما هم عليه الآن، إلى جانب إثارة إزعاج وغضب ما يقرب من 63 مليون أميركي صوّتوا لترمب والذين لن يقبلوا بالاتهام والعزل القانوني إلا إذا تواصل سير إجراءات التحقيق دون غموض أو حيل قانونية واضحة.
فقد استقال الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون من الرئاسة في عام 1974 عندما انهارت مكانته السياسية ودفاعه القانوني. وكما كتب الكاتب السياسي جيمس بيري في صحيفة National Observer الأميركية، حينها من إجازته في منطقة فينغر لاكس بنيويورك آنذاك. كتب بيري أن المنزل الذي كان يقضي به إجازته كان في حالة مزرية، ولكنه طمأن قراءه بأن «الدستور الأميركي ليس في هذه الحالة المزرية، وأنه يعمل كما ينبغي».
عكس هذا الشعور السائد لدى الشعب الأميركي حتى بعد أن ذهب انتصار نيكسون الساحق وإعادة انتخابه عام 1972 أدراج الرياح وطرد الرئيس من منصبه. تسبب هذا الشعور في إدخال البلاد في واحدة من أحلك أزماتها الدستورية حتى وجدت طريقها إلى التعافي السياسي والاستقرار. السؤال الذي يواجه البلاد الآن، كما سيظهر سياق الأحداث القادمة، هو ما إذا كانت هذه الأحداث ستحل أزمة دستورية – أو ستفاقم الأزمة التي تعيشها أميركا بالفعل.