المرأة الكردية من أين وإلى أين؟|| الحياة التشاركية الحرة (الحلقة 17)
النشوء والخلود:
منذ أن نشأ الكون وأدرك ذاته، اقتصرت وظيفة كافة الكائنات الحية فيه على تأمين المأكل والمأمن والتكاثر. بمعنى آخر، فأينما تواجَد الوجود والنشوء، فإنه تلازَمَ وترافق مع ظاهرة التكاثر أولاً، ومع الغذاء والسكن ثانياً. وعادةً ما تَوَصَّل أغلب الفلاسفة والحكماء والعلماء الأقدمين إلى حقيقةٍ تشير إلى التوازن المثالي بين النشوء والتكاثر. والذي لم يُصَب بالاختلال إلا على يد الإنسان وفي الواقع البشري حصراً.
ذلك أن بحث الإنسان عن الخلود جعله يجرب كل الوسائل لتخليد ذاته وتأمين سيرورته الأبدية. ولعل ملحمة جلجامش خير مثال على هذه النزعة البشرية القديمة، والتي باتت تتخذ أشكالاً جنونية طائشة في راهننا. فقديماً أعلن الإنسان عن نفسه إلهاً أزلياً-أبدياً، ثم نَصَّب ذاته مَلِكاً-إلهاً، وأطلق على نفسه لقب فرعون أو نمرود، ليَعبده سائر العباد.
وفي عصرنا الحديث نجد أنه يخترق السماوات والفضاء، ويخترع القنابل النووية، ليثبت لنفسه أولاً أنه ما من مستحيل أمام نزعاته الجنونية، وأنه أقرب فعلاً إلى الإله الخالق القادر على كل شيء لإشباع غرائزه الطائشة.
الاختلاف والوعي والمعنى:
لكن المهم في الأمر هو أن الوجود والتكاثر والخلود لا يمكن أن يكون ذا معنى بالنسبة للإنسان، إلا إذا أدرك ذاته جيداً، وأضفى المعاني الثمينة على كل ما حوله. بمعنى آخر، فالوجود متلازم مع الوعي. وإذا كان الكونُ قد أدركَ ذاته لأول مرةٍ متجسداً في الإنسان باعتباره الكون الأصغر، فإن هذا يدل على أهمية وضرورة “المعنى” لإدراك الحياة وعيشها بنحو حقيقي. حينها تمتلئ الحياة بالرفاه والسعادة والفضيلة والحرية والكرامة والعدالة وغيرها الكثير من المعاني الجميلة والثمينة.
وأهم المعاني تأتي من ظاهرة “الاختلاف” والتنوع والتعدد. وربما لأجل ذلك تقوم كل قواعد وأصول الطبيعة والكون على “الثنائيات”، التي تحتوي الاختلاف، وربما التناقض والتضاد، ولكنها بذلك تُكوِّن ذاتها وتُمكّن النشوء الحقيقي. فلولا المرأة لَما كان الرجل، ولولا الشر لَما كان للخير معنى، ولا يمكن التفكير بالنور دون الظلام، وهكذا دواليك.
إذن، ورغم تناقض أو تضاد أو اختلاف الكثير من الظواهر في الطبيعة، إلا أن كل واحد منها يؤدي دوره المنوط به، لتكتمل اللوحة الطبيعية الكونية، ولتنتعش المعاني في الحياة كي تبقى دفاقة وحيوية وزاهية الألوان.
التوازن في العلاقة بين الجنسين:
بالتالي، نحن أمام ظواهر محورية ومصيرية لا تكون الحياة إلا بها: الوجود، الوعي، الاختلاف، والمعنى. وربما أهم اختلاف في الكون هو الاختلاف في الجنس. أي أن يكون هناك المؤنث والمذكر من كل جنس ونوع. بالتالي، أن يكون هناك امرأة ورجل في النوع البشري.
تأسيساً عليه، فإن حفظ التوازن الكوني في العلاقة بين الجنسين هو قاعدة كونية أساسية. وقد حافظت هذه القاعدة على توازنها النموذجي في أغلب الكائنات الحية، ما عدا البشر. أقول ما عدا البشر، لأن هذا الخلل في العلاقة بين الجنسين، أي بين المرأة والرجل، هو من صنع البشر بالذات. تماماً مثلما أن الخلل الذي يحصل في الطبيعة والبيئة هو من صنع البشر للأسف الشديد.
أول خلل في العلاقة بين الجنسين:
ويبدو أن أول خلل اجتماعي حصل بالتمييز بين الجنسين لصالح الرجل، فظهرت لدينا ثنائية الرجل الحاكم-المرأة المستعبَدة. وهذا ما أسس للتمييز بين الكثير من الأشياء متمثلةً في ثنائية التمييز بين الذات والموضوع. ومن حينها والبشرية عموماً تعاني آفات وكوارث هذا الخلل والتمييز الفظيع. لكن أكثر مَن يعاني من ذلك هو المرأة، التي تحولت انطلاقاً من ذلك إلى موضوع شيئي، بعدما كانت ذاتاً فاعلة، بل بعدما كانت محور الحياة وأُسَّها.
ومنذ أن استُعبِدت المرأة وبُضِّعَت، تحولت المجتمعات إلى حشود استهلاكية مخصية، وفقدت الحياة معانيها الفاضلة واستُهلِكَت، فزالت قدسيتها ورونقها. بمعنى آخر، فاستهلاك الحياة في المرأة هو مؤشر رئيسي على الاستهلاك الاجتماعي وعلى نفاذ الثقافة المجتمعية الأصيلة. إذ تُفرَغ المصطلحات المقدسة من معانيها، وتُزوَّر الحقائق، ويُكتَب كل شيء بعين تحريفية بامتياز. وهذا ما يدلل عليه راهننا بأفضل الأشكال.
تداعيات الخلل في العلاقة بين الجنسين:
لنتناول هنا بعضاً من المفاهيم أو المصطلحات (على سبيل المثال، لا الحصر)، التي أُفرِغت من محتواها الحقيقي وحُرِّفَت:
فمفهوم “الشرف” المتمحور حول المرأة، ما هو إلا دليل على البُعد كل البُعد عن معنى الشرف الحقيقي المتمثل في الأرض والوطن والحرية الحقيقية والأخلاق الفاضلة. وبكلمة أخرى، فإن التعصب لشرف المرأة بتطرف مبالَغ فيه، هو تعبير ملموس عن استشراء اللاشرف والانحطاط الاجتماعي. وكم هي مفارقة فظيعة أن نتشبث بشرف المرأة بالقدر الذي نبتعد فيه عن شرف المجتمع والوطن، أي عن شرف الحياة الحقيقية.
فهذا ما يؤدي بدوره إلى تحريف مفهوم “الرجولة” أيضاً، وإلى تحديد معايير خاطئة تماماً في تعريفها. فنجد -مثلاً- الرجل يقلب الدنيا ولا يُقعِدها إن مَسَّ أحدٌ “شرفَ” حرمِه، ولكنه يتقاعس عن الدفاع عن شرف الوطن والبلاد في حال تعرضها لأي هجوم أو استيلاء أو احتلال وما شابه! أليس هذا هو الواقع الذي نعيشه حقاً؟!
من جانب آخر، فإن مصطلح “العشق” نجده بات قِشَرياً وغرائزياً بامتياز، وخاصة في راهننا، بعدما كان يمثل قمة القداسة والفضيلة. ونجد الكثير من الآداب والفنون عموماً والروايات خصوصاً، حتى تلك التي حازت على جوائز عالمية، ترسم لنا العشق –أو بالأحرى اللاعشق- متمحوراً حول الغريزة والجنس!
الحياة التشاركية الحرة:
كل هذه المواضيع وغيرها الكثير الكثير، هي غيض من فيض المسار المنحرف والخاطئ الذي تسير عليه البشرية منذ أن فقدت معانيها الحقيقية حصيلة فقدان المرأة لمكانتها الأصلية والأصيلة التي تميزت بها في فجر التاريخ، والتي بفضلها كانت النسبة الساحقة من البدايات التاريخية التي شهدتها البشرية.
إذن، والحال هذه، فما العمل؟ يبدو أنه علينا أولاً تشخيص كل ما تم تحريفه وتزويره عبر التاريخ، وإيجاد الحلول الجذرية للخلاص من كل هذه الآفات والأمراض الفكرية والمجتمعية والثقافية التي حُقِنَت بها أذهاننا. ولا بد قبل كل شيء أن نتحلى بالرؤية الأنثوية العريقة والمعاصرة في آنٍ معاً، أثناء تشخيص تلك الأمراض وتحديد طُرق وسُبل معالجتها.
وهذا ما أطلق عليه السيد عبد الله أوجالان في كتابه “مانيفستو الحضارة الديمقراطية”، وبالتحديد في المجلد الخامس منه (القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية) مصطلح “الحياة الندية الحرة” أو “الحياة التشاركية الحرة”.
معايير الحياة التشاركية الحرة:
وللحياة التشاركية الحرة معاييرها الأساسية التي تقوم عليها. فقبل كل شيء، ينبغي أن تكون المرأةُ كياناً قائماً بذاته ولذاته. بمعنى أن تكون مستقلة. وهذا ما يُسمى باللغة الكردية “خويبون Xwebûn”، أي الكينونة الذاتية، أو لنقل تمكين “الذاتانية”. وهذا ما يعني أن تخرج المرأة من كونها سلعة أو مُلكاً، كي تتحلى بالشخصية الحرة النابغة والناضجة.
ثم ينبغي قلب مفهوم “الرجولة” الحالي رأساً على عقب، للوصول إلى المعنى الحقيقي لها. فالرجل الذي يخاف المرأةَ الحرةَ ويعرقل طريقها، هو ليس برجل. بل هو مسخٌ ومريض وسلطوي ومستبد، سواء كان حُكمه واستبداده هذا يسري على مستوى العائلة، أو على مستوى الوطن أو القارة…
والرجل الذي لا يرى المرأة سوى أداةً لممارسة الجنس أو آلة لإنجاب الأطفال، هو رجل مريض بامتياز، لا يعرف شيئاً عن المشاعر والعواطف الإنسانية الراقية والفاضلة. وربما هو أقرب إلى أن يكون إنساناً بدائياً لم يدرك ذاته بعد. بالتالي، فهو أبعد ما يكون عن “معنى الحياة الحرة”.
في حين أن الرجل الذي يعرف كيف يصاحب المرأة ويكون صديقاً لها قبل أن يكون حبيباً أو زوجاً، والذي يركز على إدراك وتحرير ذاته من كل الخصائص السلبية المعششة في شخصه وذهنه وعقله وعواطفه؛ هو الرجل المرشح لأن يكون لائقاً بالسير على درب الحرية عموماً، وأن يكون جديراً بالمرأة الحرة خصوصاً.
وحينها فقط سيكون بمقدورنا صياغة تعريف أقرب إلى الكمال بخصوص العشق. ففي حال غياب العشق المجتمعي السديد، لا يمكن للعشق الشخصي بين فردَين أن يثمر ويتدفق باستمرار. ربما لأجل هذا وصلتنا ملاحم وأساطير العشق الأفلاطوني من أسلافنا، في حين نجد العشق مدهوساً تحت الأقدام في راهننا رغم مزاعمنا بأننا في أكثر العصور تقدماً وتطوراً!
ويكفينا أن ننظر بسرعة خاطفة إلى واقع بلادنا وشعوبنا وحيَواتنا جميعاً، كي نستنبط –وبكل سهولة- أن العلاقات الاجتماعية عموماً والعلاقات بين الجنسين خصوصاً لن تتسم بالسلامة والعطاء والاحترام المتبادل والتسامح، في حال كان المجتمع يعاني من مشاكل وقضايا بنيوية تاريخية عالقة. وربما لأجل ذلك نجد ظواهر الانتحار وجرائم الشرف وثقافة الاغتصاب والاعتداء والتحرش الجنسي في تزايد مستمر حتى في أرقى البلدان.
ما العمل؟
بالتالي، ولكي ننعم بحياة تشاركية حرة، سواء عائلياً أو مجتمعياً، فلا بد لنا أن ننعكف أيضاً على حل قضايانا الوطنية والمجتمعية العامة، وأن ننفض الغبار عن إرثنا النضالي التاريخي العريق، وأن نصقل مهاراتنا وقدراتنا الضامرة، وأن نكشف النقاب عن طاقاتنا المكبوتة، وأن نتخلص من الكثير من النعرات المعششة فينا؛ بدءاً من النعرات القوموية والعرقية ووصلاً إلى العصبية الدينية. ذلك أن المجتمع السليم يمر من التعامل السليم مع المرأة، أو لنقل العبارة الشهيرة دوماً: إن حرية المجتمع تمر من حرية المرأة.
فهل يمكننا الحديث عن وجود عائلة سليمة من جميع النواحي في ظل بلد كالعراق، الذي يعاني النعرات الطائفية والمذهبية والمشاحنات القوموية؟ بل وفي ظل برلمان سعى بكل ما في وُسعه لإقرار “القانون الجعفري” الذي يجيز الزواج بالقاصرات ويحوّل الرجل إلى “إله” معاصر والمرأة إلى “مُلكية” أو سلعة بامتياز؟
وهل يمكننا الحديث عن وجود عائلة سليمة تماماً في مصر التي تعاني من الغلاء الفاحش والبطالة المستشرية، ومن التحرش الجنسي وانعدام حضور المرأة بالشكل الحقيقي وكإرادة حرة وبهويتها الأنثوية المستقلة بذاتها في أماكن صنع القرار؟
بل وهل يمكننا الحديث عن ذلك في غمرة الفوضى العمياء التي تعصف بعموم منطقتنا الشرق أوسطية (بما فيها شمال أفريقيا أيضاً)، وفي معمعان الحرب العالمية الثالثة التي تطحن وتنهش في كل ما تطاله دون تفريق بين الصالح والطالح، أو بين الأخضر واليابس؟
حرية المرأة هي أساس الحياة التشاركية الحرة:
وما دام الجواب “لا” كبيرة بل وعملاقة، فمن المستحيل حينها الحديث عن وجود حياة تشاركية حرة وندّيّة حقيقية في كافة مستويات العلاقات الاجتماعية والمجتمعية وفي جميع مناحي الحياة.
ولأجل ذلك بالضبط نقول أن “حرية المرأة” تشكل المصطلح المفتاح لأجل حل جميع قضايانا العالقة والمتفاقمة، والتي تحوّلت أغلبها إلى حالات سرطانية اجتماعية تنعكس على البُعد الفيزيائي، فينجم عنها استشراء فظيع لحالات مَرَض السرطان الجسدي.
ومن جانب آخر، فلا نستطيع الزعم بوجود ظاهرة “التشاركية الحرة” في جميع جوانب الحياة وفي كافة تفاصيلها، إذا لم يكن مبدأ “المناصفة” ومعيار “التمثيل المتساوي” بين الجنسين سارياً على جميع المستويات والأصعدة. كما لا نستطيع طرح هذا الادعاء أيضاً في حال لم تبدأ “الحياة التشاركية الحرة” داخل العائلة أولاً، باعتبارها –أي العائلة- تشكل الخلية النواة للمجتمع.
وهذا ما معناه أن تسود الصداقة الحقيقية، والعلاقات الندية ضمن العائلة، فتتمتع المرأة بإرادتها، وتشارك في بناء العائلة من جميع النواحي، وليس أن تقتصر فقط على الأعمال المنزلية أو تربية الأطفال… وأن يكون الرجل أيضاً مسؤولاً عن عائلته وزوجته وأطفاله بالمعنى المعاصر، ودون أن يكون حاكماً أو تملكياً… بل أن يعامل “شريكة” حياته وفق ما يعنيه هذا المصطلح بكل معنى الكلمة.