قبلة رودان من جحيم دانتي إلى المتحف البريطاني
على مدى أكثر من ثلاثة أشهر ظل معرض “رودان والفن الإغريقي القديم” الذي أقامه المتحف البريطاني يحظى بإقبال جماهيري كبير، رافقه احتفاء نقدي مميز دفع بعض النقاد إلى وصفه بأبرز معرض هذا العام.
قدم المعرض مجموعة من أبرز أعمال النحات الفرنسي، أوغست رودان، ومن بينها أشهر أعماله وأكثرها جماهيرية من أمثال: “القبلة” و”المفكر” و”عصر البرونز”.
كما عرض نماذج برونزية أو جبسية لأعماله الأخرى اُستعيرت من متحف رودان في باريس، إلى جانب منحوتات مرمرية من معبد البارثينون الإغريقي التي تعد أحد أبرز كنوز المتحف البريطاني.
وتكشف المقارنة بين الاثنين ( بين منحوتات البارثينون ومنحوتات رودان) الكثير من أسرار أعمال رودان وجذورها الإبداعية ومدى تأثره بالفن الإغريقي القديم واستلهامه لكثير من أشكاله وثيماته.
ولعل السمة الأبرز للمعرض كانت الجمع بين عراقة الأثر التاريخي وحداثة الفن المعاصر والبحث عن نقاط التعالق في طرائق التعبير ومظاهر التأثير.
لقد حرص المتحف البريطاني على اختيار رودان، أحد أبرز رواد النحت الحديث، ليقدم مقارنة تبرز أهمية أحد أبرز كنوزه وهي المنحوتات المرمرية لمعبد البارثينون، التي رآها رودان لأول مرة في زيارته إلى المتحف في عام 1881 وتركت أبلغ الأثر في أعماله الفنية اللاحقة.
أثر الفن الإغريقي
يكشف لنا هذا المعرض بعد قرن من وفاة رودان، المتمرد حينها على هيمنة نزعة الكلاسيكية الجديدة، كيف عاد إلى مصادرها الأصلية في الفن الإغريقي، وأعمال النحات الإغريقي فيدياس ومجايليه قبل أكثر من 2500 عام، ليستلهم منها بطريقة مختلفة.
لقد ثارت الكلاسيكية الجديدة في الفن في منتصف القرن التاسع عشر على زخرفية أساليب فن الباروك والروكوكو المهيمنة وعادت إلى مبدأي البساطة والتناسق في الفن الإغريقي، بيد أنها استلهمت هذا التراث عبر وسيط هو النسخ الرومانية للمنحوتات الهيلنستية، إذ انهم لم يطلعوا على نتائج التنقيبات الأثرية المتأخرة.
من هنا أهمية لحظة رودان هذه، ولقائه المباشر مع منحوتات البارثينون المرمرية في المتحف البريطاني. فلم يستلهم قوة التعبير الجسدي فيها حسب، بل كانت عينه تلتقط حتى ما تركه الزمن والأنواء الجوية من آثار عليها أو كسور وتصدعات فيها.
لقد حاول رودان محاكاة ذلك في أعماله النحتية الحديثة، إذ كان يعمد أحيانا إلى قطع رؤوسها أو أطرافها “ليجترح لنا نوعا نحتيا في الفن المعاصر هو جذع الجسد البشري الذي بلا رأس أو أطراف”.
ورافق هذا الاستلهام للفن الإغريقي رودان في كل حياته بل أنه اشتهر بجمعه نحو 6 آلاف قطعة أثرية، ضمها في متحف خاص في ميدون عام 1900.
هل كانت قبلة حقا؟
ما أن تدخل رواق المعرض، حتى تفاجأ باحتشاد الجمهور في القاعة الأولى عند تمثال القبلة الشهير، وإلى جانبه تمثال نصفي بعنوان بالاس (احدى تسميات أثينا، ربة الحكمة في الميثولوجيا الإغريقية) وقد جعلها تلد البارثينون من رأسها في إشارة إلى أسطورة ولادتها من رأس كبير الآلهة زيوس.
وينظر الكثيرون اليوم إلى تمثال القبلة بوصفة يمثل لحظة عاطفية وحسية حميمية، ويحملونه سمات رومانسية، بيد أن الحقيقة هي أن رودان نحت هذا التمثال ليمثل صورة العاشقين الملعونين في الجحيم في القصيدة الملحمية “الكوميديا الآلهية ” لدانتي، حيث يلتقي دانتي في الجحيم بالعاشقين بابلو وفرانسيسكا اللذين قتلهما زوج فرانسيسكا (شقيق بابلو)، بعد أن وجدهما معا في لحظة حميمة. وهذه اللحظة قبل موتهما هي ما حاول رودان تجسيدها في منحوتته.
وعلى المنضدة نفسها تنتصب منحوتة مرمرية من البارثينون لاثنتين من الآلهة الإغريقية بدون رأسيهما، تضطجع إحداهما متكئة على الأخرى، وهي منحوتة تبرز جسدين من كتلة واحدة، أبرز غياب رأسيهما جمالية قوة التعبير بالجسد. ونرى أن رودان يترسم هذا الأسلوب في قبلته حيث يغيب وجها العاشقين لمصلحة القوة التعبيرية في جسديهما في لحظة حميمية.
هل كان مفكرا حقا؟
وفي القاعة نفسها ينتصب تمثال رودان الشهير “المفكر” وهو اسم لم يطلقه رودان على منحوتته، التي صممها لتكون في أعلى عمله الأساسي “بوابة الجحيم” (سنتوقف عنده لاحقا).
وكانت تمثل في البداية تجسيدا لمينوس، القاضي الذي يحاكم من يرسلون إلى الجحيم، ثم لاحقا لدانتي نفسه متأملا في العالم السفلي، وقد أطلق عليه اسم “المفكر” عمال الصب في المصهر الذي صُب فيه التمثال، معتقدين أنه يشبه تمثال لورينزو دي ميديتشي للنحات الإيطالي الشهير مايكل أنجلو، الذي يحمل اسم “المفكر”.
يصور التمثال رجلا بقوام رياضي يستند بمرفقه الأيمن على فخذه الأيسر، فيبدو الجسد كله مندفعا إلى الأمام ويسند حنكه على ظاهر كفه، الأمر الذي يفسره البعض بأنه دلالة على الحداد والحزن عند الإغريق، فيرونه رجلا حزينا متأملا في قدر الإنسان المأساوي.
بوابة الجحيم
يمكن وصف هذا العمل بالعمل التأسيسي الذي استمدت منه معظم منحوتات رودان الشهيرة، وفي المقدمة منها القبلة والمفكر، التي كانت في الأصل مجرد أشكال صغيرة صممت لتكون في واجهة “بوابة الجحيم”.
كانت البوابة، التي كان من المقرر أن تكون في مدخل متحف للفنون الزخرفية (التزينية) يُبنى في باريس، أول تكليف رسمي تلقاه رودان وهو في سن الأربعين وبعد كفاح طويل للاعتراف بموهبته، بدأ من التحدي الذي واجهه بعد أن رفضت مدرسة الفنون الجميلة قبوله لثلاث مرات.
وعلى الرغم من أن المتحف لم يُبن، إلا أن رودان ظل يعمل بشكل متقطع في هذه البوابة، لسنوات طويلة قاربت 37 عاما حتى وفاته في 1917.
ضمت البوابة أكثر من 180 شكلا تجسد بالنحت البارز على هذه البوابة، شكلت الخميرة لمعظم الأعمال الشهيرة لرودان، التي نفذها بشكل منفصل كمنحوتات قائمة بذاتها صبت بالجبس أو البرونز أو المرمر. وتقف البوابة بارتفاع 6 أمتار وبعرض أربعة أمتار وبعمق نحو متر.
استلهم رودان بوابته من مؤثرات متعددة، في المقدمة منها بوابة الفردوس في فلورنسا للفنان الإيطالي لورينزو غيبرتي، وعمل مايكل أنجلو الشهير الحساب الأخير أو يوم القيامة، فضلا عن النصوص الأدبية لدانتي الذي تصور البوابة وصفه للجحيم، وقصائد الشاعر الفرنسي بودلير “أزهار الشر” و”الكوميديا البشرية: للروائي الفرنسي بلزاك.
أنجز رودان بوابته بعد أن رسم مئات الرسوم لتفاصيلها، وعدد من النماذج التصميمية (ماكيت)، وقد قدم المعرض عرضا مرئيا للبوابة الضخمة التي يصعب نقلها، فضلا عن نموذج جبسي نفذ في عام 1991 بناء على النموذج التصميمي الثالث الذي نفذه رودان في عام 1880-81.
مواطنو كاليه
احتل النصب التاريخي، الذي يخلد شجاعة رجال افتدوا مدينتهم، القاعة الأخيرة للمعرض تحت ضوء طبيعي ينفذ من جدار زجاجي واسع جعله يبدو متناسقا مع فضاء الحديقة التي تقف خارجها.
ترجع قصة النصب إلى حادثة تاريخية عندما حاصر ملك انكلترا إدوارد الثالث عام 1347 في حرب المئة عام مدينة كاليه، وأمر بقتل جميع أهلها، فتقدم ستة من كبار مواطنيها وجاءوا إلى بلاطه حاسري الرؤوس حفاة الأقدام والحبال في أعناقهم ليعدمهم افتداءً لأهالي المدينة. وعندما قرر إعدامهم تدخلت زوجته الملكة وتوسطت لديه للعفو عنهم.
أنجز رودان هذا النصب في الفترة بين 1884 إلى عام 1888، ووضع في عام 1889 أمام مبنى بلدية المدينة، وقد حرصت بريطانيا على شراء نسخة من النصب، ووضع في لندن بمساعدة النحات نفسه الذي جاء في عام 1911 لتقديم المشورة في نصبها، وهي النسخة التي نقلت إلى قاعة المعرض.
وعلى الرغم من تضحيتهم الجماعية، جعل رودان مواطني كاليه يقفون فرادى برؤوس تميل في انحناء خفيف وأيادي انحنت كفوفها في تعبيرات بين التساؤل والتضرع، وكأن كل واحد منهم منفردا في مواجهة مصيره متأملا به، في لحظة توتر وفزع كبيرة انعكست في وجوههم وحركات أجسادهم التي كساها بملابس خشنة من الخيش كما يبدو، وجعل فجوات تفصل بينهم في بعض المناطق لكنهم يكادون يلتحمون مع بعضهم في مناطق أخرى، وتتكشف هذه الفجوات للمشاهد عند دورانه حول النصب.
وقد حرص القائمون على المعرض على تقديم نسخ شمعية منفردة من تماثيل النصب، التي قدمها رودان أيضا كأعمال منفردة، كما هي الحال مع شخصية بيير دي ويسان من الرجال الستة، الذي قدم جسده عاريا بدون رأس أو اطراف، (كبقايا المنحوتات الأثرية)، التي وُضعت بعض نماذجها المرمرية الأغريقية والرومانية في القاعة نفسها للمقارنة.
مقارنات
لم يُعن المعرض بحياة رودان العاطفية الغنية وعلاقاته مع نساء شكلن نماذج لكثير من أعماله، وهي ما باتت مادة خصبة للعديد من الكتابات والأفلام والأعمال الدرامية، وكذلك الاهتمام الشعبي.
فلم يقدم المعرض سوى تمثال واحد في سياق مقارنة مع أصل إغريقي، هو تمثال نصفي حمل عنوان ” الفكر يبزغ من المادة” الذي صور رأس عشيقته ومساعدته والنحاتة الشهيرة لاحقا، كاميل كلوديل، يخرج من كتلة مرمرية ضخمة.
وحفل المعرض بمقارنات عديدة أخرى بين أعمال رودان ومصادر إلهامها في المنحوتات الأثرية الإغريقية، بما يقدم صورة واضحة (باذخة) عن مدى تأثر رودان بالنحت الإغريقي وتحديدا نحاته الأكبر فيدياس.
ومن هذه الأعمال “الأرض” و “الروح المجنحة الساقطة” “و”ولادة فينوس”، و”رأس المرأة السلافية”، وغيرها من الأعمال التي انتشرت وسط منحوتات مرمرية إغريقية وأفاريز ضمت منحوتات بالنقش البارز عليها شكلت مصادر إلهام رودان في صنعها.
ويشمخ تمثال “الرجل السائر” وسط المعرض على عمود بارتفاع سبعة أقدام، والذي تأثر رودان بتمثال عنقاء من جزيرة ناكسوس (في اللوفر) في صنعه، ليقف قبالته تمثال جذع هرمس المنقول من الإفريز الغربي للبارثينون الذي أثر فيه أيضا، ويقابل تمثال “روح جنائزية” منحوتتين لرأس وجذع أخذتا من أفريز “دوريي” في جانب المعبد الجنوبي.
كما نرى تمثال إيريس رسول الآلهة في أصله واستخداماته المتعددة في تماثيل أخرى لدى رودان ومن بينها دراسته ونماذجه لتمثال الأديب الفرنسي فكتور هوغو.
واحتوى المعرض على كمية كبيرة من الصور والوثائق والتخطيطات التي وثقت مراحل عمل رودان في بعض المنحوتات المعروضة فضلا عن نماذج من مقتنياته من القطع الأثرية التي ضمها متحفه.
وفي ختام هذا المعرض بجماله الباذخ، ستعود منحوتات البارثنيون المرمرية إلى أماكن عرضها في قاعات الآثار الإغريقية في المتحف البريطاني، وسيعود كثير من معروضاته الأخرى إلى متحف رودان في العاصمة الفرنسية، وستحتفظ العاصمة البريطانية بمواطني كاليه الشجعان الذين احترمت تضحيتهم وخصصت لهم نصبا مميزا منذ مطلع القرن في حديقة فيكتوريا تاور قرب مبنى البرلمان البريطاني.