هل بدأ الاتحاد الأوروبي طريقه نحو التفكك؟
لن يتمكن الاتحاد الأوروبي، في تقديري المتواضع، من حماية تجربته التكاملية الناجحة إذا اكتفى بالتخندق في مواقف دفاعية. فقد بات واضحاً أن هذه التجربة الفريدة، والتي لا تضاهيها أي تجربة تكاملية أخرى في العالم أجمع، دخلت في مأزق أوصلها إلى مفترق طرق في عالم لم يعد يعرف اليوم غير لغة القوة ولا يعترف إلا بالأقوياء. لذا فليس من قبيل المبالغة أن نقول إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم تحدياً يفرض على الدول الأعضاء فيه الاختيار بين بديلين لا ثالث لهما: فإما الإقدام على خطوات جريئة تفتح الطريق أمام المؤسسات الأوروبية المشتركة للتحول سريعاً نحو نظام فيدرالي يمتلك جيشه الموحد ويمارس سياسة خارجية أوروبية موحّدة، وإما التخندق في مواقع دفاعية يتلقى فيها مزيداً من الضربات يتوقع أن تتزايد وتيرتها في المرحلة المقبلة، إلى أن ينفرط عقده ويتفكك تماماً.
متغيرات كثيرة بدأت تشكل تهديداً جدياً للعملية التكاملية الجارية في أوروبا منذ بداية خمسينات القرن الماضي، خصوصاً عقب إقدام غالبية الشعب البريطاني على التصويت في استفتاء عام لمصلحة خروج بريطانيا نهائياً من الاتحاد، في سابقة هي الأولى من نوعها، وكذلك في ضوء خلافات حادة وعميقة بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي كافة حول السياسات الواجب اتباعها إزاء ملايين المهاجرين، الذين بدأوا يتدفقون إليها من كل حدب وصوب، وعجز واضح عن الاتفاق على آلية متوازنة تسمح بتوزيع عادل للأعباء الاقتصادية والسياسية والأمنية الناجمة عن استمرار تدفق هؤلاء المهاجرين.
كان معظم الدارسين والمتابعين لتجربة التكامل الأوروبي يعتقدون حتى وقت قريب أنها تمكّنت من تحصين نفسها في مواجهة التحديات المحتملة، وأصبحت في وضع يجعلها في مأمن يحميها من الانتكاس أو التراجع أو التوقف أو الدوران حول النفس. وهي قناعة لم تستند إلى إعجاب مبالغ فيه بإنجازات هذه التجربة، أو إلى انحياز أيديولوجي للرؤية السياسية والفكرية التي حكمت مسيرتها، بقدر ما استندت إلى عاملين موضوعيين تماماً يصعب الاختلاف على إسهامهما الكبير في إنجاحها: الأول: إبداع مؤسسي ومنهجي ميّز مسيرة تجربة التكامل الأوروبي منذ البداية. فقد أدرك جون مونيه، الأب الروحي لهذه التجربة، أن أي تحرك في اتجاه الوحدة الأوروبية لن يكفل له النجاح ما لم يبدأ بحل عقدة الأمن التي استحكمت بين فرنسا وألمانيا وتسبّبت في إشعال أزمات وحروب دورية مدمرة، ومن هنا اقتراحه العبقري بضرورة وضع صناعة الفحم والصلب في كل من ألمانيا وفرنسا، ومعهما من يرغب من الدول المجاورة، تحت سلطة أوروبية مشتركة، منعاً لأي سباق جديد للتسلح ولخلق بيئة حاضنة تغري القطاعات الإنتاجية والخدمية المرتبطة بهذه الصناعة الضخمة، وهي كثيرة، بالاقتداء بها في مرحلة لاحقة. وهكذا انطلقت «الجماعة الأوروبية للفحم والصلب» لتشكل الركيزة الأساسية لحركة وحدوية أوروبية راحت خطواتها تتتابع وتتسارع وتنتقل من مرحلة التكامل الاقتصادي إلى مرحلة التكامل السياسي، بخاصة بعد تأسيس الاتحاد الأوروبي، ومن التوسع الرأسي إلى التوسع الأفقي، حيث بدأ بست دول وأصبح الآن يضم 28 دولة وما تزال دول أخرى كثيرة تتمنى أن تنضم أو حتى تنتسب إليه.
الثاني: إصرار الدول على المحافظة على طابعها الديموقراطي، برفض قبول عضوية أي دولة أوروبية راغبة في الالتحاق بها إلا بعد استكمال المقومات الديموقراطية. وبالتدريج تحوّلت التجربة التكاملية نفسها إلى أداة لدفع عملية التحول الديموقراطي في أوروبا وساعدت على ترسيخ المؤسسات الديموقراطية في دول كثيرة، بخاصة في اليونان والبرتغال وإسبانيا. هذا الإصرار لم يعكس موقفاً أيديولوجياً أو مظهرياً بقدر ما عكسَ قناعة تامة بأن رسوخ القواعد الديموقراطية في الدول الأعضاء كافة يحمي التجربة التكاملية نفسها ويساعد على ضبط سرعة إيقاعها على نبض القبول الشعبي بها. وهذا ما يفسر المرونة التي تحلّت بها هذه التجربة حين سمحت بمسارات تكاملية مختلفة، خصوصاً بالنسبة إلى العملة الأوروبية الموحدة، من ناحية، وتأشيرة الدخول الموحدة (شنغن)، من ناحية أخرى. لم يكن هذان العاملان كافيين لإطلاق عملية التكامل الأوروبي على النحو الذي تحقق بالفعل، فهناك عامل آخر لا يقل عنهما أهمية، كان له الفضل الأساسي في توفير البيئة الدولية المناسبة لإطلاقها ومن دونه ما كان يمكن لها أن تنطلق أصلاً. فمن المعروف أن حلم الوحدة الأوروبية راوَد كثيرين في مختلف العصور، منذ رأى فيه البعض أداة تعبوية قادرة على وقف الفتوحات الإسلامية وتمكين أوروبا المسيحية من السيطرة على بيت المقدس، الأمر الذي يفسر موجات «الحروب الصليبية» المتعافبة التي انطلقت من أوروبا، مروراً بنابوليون بونابرت بعد أن سيطر على مقاليد الثورة الفرنسية الكبرى في نهاية القرن الثامن عشر وحاول استخدام انتصاراته العسكرية كأداة لإخضاع وتوحيد أوروبا تحت الهيمنة الفرنسية، وانتهاء بهتلر الذي حاول بدوره الاستناد على انتصاراته العسكرية، وأيضاً على نظرية تفوق الجنس الآري العنصرية، لإخضاع وتوحيد أوروبا تحت الهيمنة النازية. غير أن أياً من هذه الطموحات لم يمتلك المقومات اللازمة لإطلاق تجربة وحدوية أو تكاملية قابلة للدوام، وهي مقومات لم تتوافر لها بيئة دولية مناسبة إلا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ففي سياق النظام الدولي ثنائي القطبية الذي استقر في هذه المرحلة، تراجعت مكانة القارة الأوروبية في النظام الدولي، بما في ذلك الدول الأوروبية المنتصرة في هذه الحرب، وانقسمت إلى أوروبا شرقية وأخرى غربية وأصبحت محشورة بين قوتين عظميين يشكل أحدهما وهو الاتحاد السوفياتي السابق مصدر تهديد مشترك، ويشكل الآخر وهو الولايات المتحدة حليفاً مشتركاً. وفي سياق هذا الوضع الدولي الجديد أصبحت فكرة الوحدة، نظرياً على الأقل، المخرج الوحيد لتمكين أوروبا الغربية من مواجهة التهديد المحتمل للاتحاد السوفياتي، وأيضاً لتنظيم أوضاعها الداخلية بما يسمح لها بالتعامل ككتلة موحدة مع الحليف الأميركي. ولأن الولايات المتحدة كانت في ذلك الوقت حريصة على تحقيق أكبر قدر ممكن من التجانس في صفوف المعسكر المناهض للاتحاد السوفياتي، فقد بادرت بإطلاق مشروع مارشال من ناحية، وحلف شمال الأطلسي من ناحية أخرى، وهما الجناحان اللذان أقلعت بهما عملية التكامل الأوروبي ووفرا لها حماية اقتصادية وأمنية مكّنتها من ترسيخ جذورها في سنوات انطلاقتها الأولى.
لم تكن علاقة أوروبا الغربية بالولايات المتحدة، سلسة دائماً، وإنما واجهت أزمات كثيرة في مراحل مختلفة، غير أن الثبات النسبي للنظام الدولي، سواء في صيغته الثنائية القطبية أو في صيغته الأحادية القطبية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، وفّر مناخاً مواتياً لبلورة صيغة لعلاقة تسمح بتنافس اقتصادي، أو حتى سياسي، منضبط، في إطار إدراك مشترك لأهمية التحالف الاستراتيجي بين الطرفين. أما اليوم فقد طرأت على النظام الدولي تغييرات عميقة، خصوصاً بعد وصول ترامب للسلطة في الولايات المتحدة، وفّرت للأطروحات الشعبوية واليمينية المتطرفة بيئة ملائمة للتكاثر وتمدد النفوذ سواء في أوروبا أو في الولايات المتحدة نفسها. وفي سياق هذه التغييرات، تبدو العملية التكاملية في أوروبا الآن محاصرة من الداخل والخارج، ومحشورة بين مطرقة نزعات متطرفة تهددها من الداخل، وسِندان نظام دولي في حالة سيولة كاملة، يهددها مِن الخارج.
ففي الداخل قوى سياسية قومية النزعة ترى في الوحدة الأوروبية خطراً على الهويات الوطينة وتسعى لاستغلال قضية الهجرة كوسيلة لترسيخ نفوذها والوصول إلى السلطة في العديد من الدول الأوروبية، الأمر الذي يهدد الاتحاد الأوروبي على المدى المنظور باحتمال خروج دول أخرى منه، اقتداء ببريطانيا. وفي الخارج نظام دولي تتجلى سيولته الشديدة عبر مظاهر عدة: ففي الولايات المتحدة إدارة ترفع شعار «أميركا أولاً»، وتحتقر الديبلوماسية متعددة الأطراف، وتطالب حلفاءها الأوروبيين وغير الأوروبيين بدفع تكاليف حمايتهم. وفي روسيا سلطة تتبنى نزعة قومية متشددة تدفعها إلى التمدد وملء الفراغ في المناطق التي تتهيأ الولايات المتحدة للانسحاب منها. وهناك أيضاً قوى عالمية صاعدة، كالصين والهند وغيرها، تسعى بقوة لترجمة قوتها الاقتصادية المتنامية إلى نفوذ سياسي يسمح لها بالمشاركة في إدارة نظام دولي متعدد القطبية. كل ذلك في غياب قواعد تسمح للنظام الدولي الحالي بالتحول سلمياً إلى نظام متعدد القطبية، وفي ظل عجز عن إصلاح الأمم المتحدة بطريقة تمكن النظام الدولي من إنجاز هذا التحول من دون خسائر كبيرة.
في سياق كهذا، يبدو الاتحاد الأوروبي مؤسسة عملاقة ذات واجهة جميلة لكنها بنيت قوق رمال متحركة، ومن ثم تواجه خطر السقوط. فإما أن تمد جذورها في الأرض، عبر عملية جريئة للتحول إلى قوة سياسية وعسكرية واقتصادية موحدة كي تحمي نفسها من خطر السقوط، الأمر الذي يبدو في اللحظة الراهنة وكأنه حلم بعيد المنال، أو تظل واقفة كما هي في مواجهة مصير مجهول قد يعرضها، خصوصاً مع اشتداد الرياح وهبوب العواصف، للتفكك والسقوط قطعة بعد قطعة.