المرأة الكردية.. من أين وإلى أين؟|| «قتل الرجولة» وتمكين تغيُّر الرجل (الحلقة الثانية عشرة)
تداعيات الانتقال من المجتمع الطبيعي إلى المجتمع الدولتي:
منذ أن انتقلت البشرية من المجتمع الطبيعي النيوليتي التشاركي إلى المجتمع الأبوي البطرياركي الدولتي، بدأت القضايا الاجتماعية تتثاقل باضطراد، ما حدا بالإنسان إلى التفكير في كيفية حل هذه القضايا، وإلى طرح شتى الأفكار والنظريات المتطلعة إلى إيجاد السبل الممكنة للتغلب على تلك القضايا وتجاوزها. ولعل أكثر الأفكار والنظريات تعقيداً تلك التي تتعلق بتصوُّر ماهية الحياة الجديدة والمجتمع المأمول، وبرسم إطار العلاقات بين الجنسين. ورغم تعدد تلك الفرضيات والنظريات، إلا أنه بالمقدور إدراجها في تيارين مختلفين. إذ ركزت نظريات التيار الأول على صياغة الأنظمة الفكرية التي تتطلع أساساً إلى حرية المجتمع والإنسان، في حين تطلعت نظريات التيار الثاني إلى تحديد سبل فرض الحاكمية والسيطرة على الإنسان، وبالتالي على المجتمع. ومن هنا والصراع الطبقي والاجتماعي والفكري يحتد ضمن المجتمعات وفيما بين الأنظمة دون هوادة.
الصراع من أجل الحقيقة:
ولعل من أهم الصراعات التي شهدتها البشرية، والتي قلّما يتم التطرق إليها في كتب التاريخ الرسمي، هي صراع البشرية منذ بداياتها وحتى راهننا من أجل إحياء الحقيقة. ذلك أن أنسنة الإنسان تتحقق فقط عندما يلتحم مع الحقيقة ويحياها ويُحييها. وهذا ما يشكل صُلب العلاقة الدياليكتيكية بين الإنسان والحياة. أي أنه كنايةً عن صراع الوصول إلى الحق والحقيقة. وهذا ما لا يمكن أن يتحقق إلا عندما يناضل الإنسان في سبيل ذلك متشبثاً بعشق الحقيقة وبتطوير قواه العقلية والعاطفية إلى أرقى مستوى.
لا يمكن الزعم بوجود فكر جديد، إلا عندما يتمكن هذا الفكر من تجاوز الآفاق النظرية السائدة في عصره، ومن تحليل وحل القضايا العالقة التي عجزت عنها الأفكار التي تسبقه. وبقدر ما يستطيع فكرٌ ما تحقيق ذلك، فإنه يلقى القبول داخل مجتمعه، ويكتسب رواجاً اجتماعياً ملحوظاً. وحينما يعجز هذا الفكر عن حل القضايا العالقة، فإنه تظهر الحاجة إلى أفكار جديدة أرقى وأصلح. وغالباً ما يؤدي هذا الفكر العقيم دوراً سلبياً ومعيقاً أمام تطور البديل الفكري الحديث، لدرجة قد يحتد الصراع بينهما إلى حد الحرب الدموية.
ضرورة دراسة الواقع التاريخي-الاجتماعي:
وعليه، فلدى تقييم مستوى التطور الاجتماعي، لا بد من أخذ العلاقات والتطورات التاريخية بعين الحسبان. ذلك أن الحركات الاجتماعية التي لا تطور تنظيماتها ارتباطاً بالواقع التاريخي والمرحلي، ولا تصوغ استراتيجياتها وتكتيكاتها النضالية بموجب ذلك، فهي محكومة بالاندماج ضمن النظام القائم عاجلاً أم آجلاً. وتسري هذه القاعدة على الحركات النسائية بنحو مضاعف نسبةً إلى الحركات النضالية العامة. حيث تتماهى في نهاية المطاف مع النظام الذي انطلقت لمكافحته وللانقطاع الراديكالي عنه. وتاريخنا القريب مليء كفايةً بهذه الأمثلة.
حركة حرية المرأة الكردستانية أيضاً، ولكي تصوغ مشروعها الاجتماعي المستقبلي، قامت بدراسة الواقع التاريخي الاجتماعي بكل مفاهيمه وتفاصيله، بكل أولوياته ومطباته، مع مراعاة تجاوز النظرة الماركسية الكلاسيكية الضيقة بالتأكيد. حيث درست نشوء الكون والطبيعة، وبحثت في آليات وقواعد الطبيعة والكون، وخاضت في جوهر الإنسان، وتمعنت في الإرث النضالي التاريخي عموماً والنسائي خصوصاً؛ قبل أن تبدأ برصف أرضية النظام المتطلع إلى الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة. وهذا ما يعني أنها راعت الاتسام بالتعددية والتنوع، والاعتماد على الجذور التاريخية والثقافية العريقة لدى التطلع إلى التحلي بالطابع الكوني. كما جهدت لأن تكون واقعية وثورية في نفس الوقت لدى صياغة مشروعها المستقبلي. وهكذا تمكنت من تحديد نقاط العلاّم وأحجار الزاوية في فكرها الأيديولوجي الحديث.
أول صراع بشري كان بين الجنسين:
وبناءً على كل هذه الدراسات والبحوث العميقة، توصلت حركة حرية المرأة الكردستانية بفضل إرشادات قائدها “عبد الله أوجالان” إلى مبدأ محوري يتجسد في القناعة التي تشير إلى أن أول صراع شهدته البشرية لم يكن بين السيد والعبد، بل كان بين الرجل والمرأة. أي أن أول وأقدم صراع بشري كان صراعاً جنسياً، وليس طبقياً. وبمعنى آخر، فإن عبودية المرأة هي أقدم أشكال العبودية. بالتالي، فإنها تشكل أُمَّ القضايا الاجتماعية العالقة. والحال هذه، فإن حل جميع القضايا الاجتماعية سيكون أسهل وأكثر سداداً، في حال صياغة الحلول الجذرية والاستراتيجية لهذه القضية الشائكة، وفي حال جعلها محوراً لجميع الحلول المعنية بالحياة على اختلاف ميادينها ومجالاتها. فأياً يكن، فإن قمة ممارسات وسياسات الذهنية الذكورية السلطوية تتجسد في يومنا الراهن بأكثر حالاتها شفافيةً ووضوحاً من خلال ما تطبقه ضد المرأة في جميع ميادين الحياة. أي أن مفتاح الحل يكمن في حرية المرأة.
من جهة أخرى، فمن الضرورة بمكان الإشارة إلى أن مقصد حركة حرية المرأة الكردستانية من “الذهنية الذكورية” التي تشكل دعامة كافة الأنظمة السلطوية المهيمنة، هو أنها ليست ظاهرة مقتصرة على جنس “الرجل”، ولا تنطلق من رؤية بيولوجية “ذكورية” ضيقة وغير موضوعية. بل تَعتَبرها ظاهرة متعلقة بظواهر السلطة والدولة والاحتكار والربح الفاحش. بمعنى آخر، فإنها ظاهرة سوسيولوجية وثقافية وذهنية ذات جذور تاريخية. بالتالي، فإن الرجل أيضاً يعاني من تداعيات هذه الذهنية، بالتالي، فإنه يعاني من قضية الحرية الحقيقية. إلا أن درجة معاناة المرأة تكون أكثر بأضعاف مضاعفة، نتيجة كونها أولى ضحايا هذه الذهنية، وأكثر مَن يعاني من تداعياتها.
من هنا، فهناك روابط متينة بين “الرجولة” السلطوية وبين الدولة والسلطة والقوة. إذ أن الرجولة السلطوية بدأت بالظهور كظاهرة ذهنية وثقافية بدءاً من الانتقال من المجتمع الطبيعي الكومونالي التشاركي والتعددي نحو المجتمع الدولتي السلطوي الهرمي الطبقي ذي اللون الذكوري فقط. فمنذ الانقطاع عن “المجتمع الطبيعي”، وسيادة الذهنية الذكورية، حَلَّ مصطلح “الرجل” محل مصطلح “الإنسان”. وبات الإنسان مقتصراً فقط على الرجل. وسادت المصطلحات “الذكورية” بامتياز، من قبيل: رجال العلم، رجال الدين، رجال التنظيم، وغير ذلك. هذا عدا الأمثال والمقولات الذكورية: “عليك بالحب كالرجل” و”اعمل الشيء الفلاني كالرجال” و”إنها قوية كالرجال” و”إنها حرة كالرجال” وغير ذلك.
مشروع “قتل الرجولة”:
من هنا تم طرح مشروع “قتل الرجولة”. وقد تطرق السيد عبد الله أوجالان إلى هذا الأمر قائلاً: “إن قتل الرجولة هو في الحقيقة أحد مبادئ الاشتراكية الحقيقية. وهو يعني قتل السلطة والهيمنة واللامساواة واللاتسامح والعبودية”. وبتعبير آخر، فإن ما ينبغي التطلع إليه عبر “قتل الرجولة” السائدة، هو القضاء على الزيف والرياء والازدواجية والتحكم. إنه يعني التحدي لظاهرة “الموت المنتصب” أو “شبه الحياة”. تماماً مثلما يتم نبش التراب وقلبه رأساً على عقب أثناء نثر البذور، كي تتمكن من التوغل بجذورها وإيجاد مُتنفَّس للحياة والازدهار. بالتالي، فإن قتل الرجولة يعني التغلب على “الجنسوية الاجتماعية” السائدة منذ خمسة آلاف سنة.
يقول أوجالان حول ظاهرة “الرجولة الزائفة”: “أكثر ما يُخيفني هو الرجولة الزائفة الرخيصة. ذلك أن حال الرجل الحالي لا يدل على شيء يُذكر، بل ومحفوف بالمخاطر. والرجولة السائدة ليست جذابة على الإطلاق. بل إنها مشبَعة بنزعة استعراض القوة. ولذلك تلجأ إلى العنف والضرب والشتم والتمييز. وعليه، لطالما قلتُ في قرارة نفسي أنه ثمة اختلال بائن وفظاظة فاحشة في هذه الظاهرة”.
فحصيلة ظاهرة العبودية التي تغلغلت ذهنياً ونفسياً وروحياً في الجنسَين على السواء، فقد تفشّت ظواهر الدونية وعدم الثقة بالنفس والخنوع واليأس لدى المرأة، والفوقية والتحكم والقوة والنفوذ لدى الرجل. بالتالي، وللتخلص من كل ذلك، لا بد من تحديد معايير “المرأة الحرة” و”الرجل الحر”، وإعادة بناء العلاقات الاجتماعية بين الجنسين بموجب ذلك. وعليه، فإن الانطلاق نحو “حملة الحرية” يكون بقتل الرجولة السائدة، وبتمكين تغير وتحول الرجل وفق مبادئ الحرية.
لماذا مشروع “قتل الرجولة”؟:
كل هذا غير ممكن إلا عندما يدرك الإنسان العبد –أياً كان جنسه- أنه فعلاً ليس حراً، وأنه يعاني من تداعيات العبودية من الأعماق. حينها فقط يدرك المرء أنه ما من شيء ثمين سيفقده، لأنه أصلاً لا يملك شيئاً بحق. وحينها يصبح بإمكان المرء بذل الجهود اللازمة للتحلي بالوعي الحر وتحمّل كل المصاعب والمشقات في سبيل العودة إلى الذات، والتي سمّاها السومريون منذ غابر الأزمان “أماركي”، في إشارة منهم إلى الحنين إلى الحياة الحرة الأصيلة والتحسر على “الكينونة” المسلوبة.
بمعنى آخر، فإن تحرير أو حرية “الجندر الاجتماعي” لن يكون إلا بخوض النضال العتيد والشاق والطويل المدى على صعيد المرأة والرجل على السواء. إلا أن ريادة هذا النضال تقع على عاتق المرأة المنظمة والواعية بالتأكيد، لأنها تدرك تماماً مدى معاناتها من العبودية، ولأنها بالتالي تواقة إلى الحرية أكثر بكثير من الرجل. وهنا تتجلى أهمية وضرورة وحتمية مشروع تمكين “تغير وتحول الرجل” كأحد أهم شروط وخطوات حرية “الجندر الاجتماعي” بالتوازي والتماشي والتداخل مع مشروع “نظرية الانقطاع” التي تم تناولها سابقاً، فلا داعي بالتالي إلى تكرارها هنا.
مشروع تمكين “تغير وتحول الرجل”:
ومشروع تمكين “تغير وتحول الرجل” يهدف إلى تحقيق انقطاع الرجل من الحياة ذات الذهنية الذكورية، وجذبه إلى الحياة الواعية والمنظمة وفق مبدأ الحرية الحقيقية. إنه مشروع شاق وشائك بقدر كونه يشمل آفاقاً واسعة. فهو معني بمحاكمة ومساءلة كل مجالات الحياة التي تفرض ظواهر الاستهلاك والتحكم والتسلط بنحو لا يطاق. وهو معني بالمثل بطرح البديل الجذري والملموس لكل ذلك. وهذا ما يقتضي بالتالي تجاوز الآفاق الذهنية السائدة، للتغلب على النظم الذكورية المتحكمة بحياتنا.
إنه مشروع بديل أيديولوجي-فكري جذري. وهو ينطلق من فكرة إقناع الرجل بأنه –هو أيضاً- يعاني من قضية الحرية، وأنه عليه –هو أيضاً- خوض النضال للتخلص من العبودية. وأن يقوم بتحليل تداعيات الذهنية الذكورية في ذاته وشخصيته، وأن يكافح للتخلص منها. وأن يعترف الرجل بمسؤوليته على الصعيد الذهني عن اختلال الحياة الاجتماعية، وعن سقوط المرأة، وعن تمزيق وتشتيت المجتمع والروح المجتمعية، وعن تفشي شتى ظواهر القبح والشناعة في الحياة.
فأياً يكن، فإن الحياة العامة ظلت حكراً على الرجل دون المرأة طيلة آلاف السنين. ولم يسمح للمرأة باتخاذ مكانتها في هذه “المساحة العامة”، إلا بعد أن جَرَّدها من كينونتها، وقصَفَ عقلها، وفرض عليها التشبه به ومحاكاته. وأياً يكن، فالرجل هو الذي أنشأ المؤسسات الدولتية الذكورية بمختلف مسمياتها وعلى جميع الأصعدة وفي كافة المجالات. وأياً يكن، فالرجل هو الذي تشبث بالعنف، والتزم به كثقافة أحادية، وتحصن بالقوة والسلاح، وخاض الحروب الدموية طمعاً في المزيد من الربح والنفوذ.
والنتيجة؟
حينها سيتمكن الجنسان من التحلي بالإرادة الذاتية الحرة وبالوعي الذاتي الحر وبالحيوية الذاتية الدفاقة. ذلك أن الرجل سيتخلص من ظاهرة “الرجولة” المزيفة بالعودة إلى ذاته الحرة المسلوبة. وستنفض المرأة عن ذاتها تداعيات ظاهرة “الحرمة” الخانعة والأَمَة، بالعودة إلى كينونتها الذاتية الحرة المسلوبة. وبذلك فقط يمكن للحياة الاجتماعية أن تعود إلى مجراها الصحيح الذي انحرفت عنه منذ أن شهدت البشرية ظواهر عبودية المرأة ونشوء الدولة والتمايز الطبقي والهرمية. وحينها فقط يغدو بالإمكان وقف حمّامات الدم الحالية، والانتقام من الحروب الدموية السابقة، والبلوغ بالشعوب والمجتمعات والهويات والثقافات نحو مستقبل واعد يسوده الأمن والسلام والرفاه والاستقرار بشكل مستدام.
وهذا بدوره ما يعني إعادة بناء وهيكلة المجتمع الطبيعي، وإعادة تنظيم العلاقات بين الجنسين على أساس المساواة والعدالة والحرية الحقيقية والحياة الندية التشاركية. وهذا ما يعني تأسيس الحياة الجديدة بالرؤية الأنثوية الحرة المرتكزة إلى التعاون والتشاركية والتكافل والندية. وهذا ما يشكل صُلب الاشتراكية، ويشير إلى الرجوع إلى الأصل، أصل “الإنسان”. أي أنه يؤدي إلى تحقيق “الكينونة” الحقيقية والذاتية للمرأة والرجل على السواء.