قصة مغربي ًتناول أخشاباً من الأنقاض وشرب بوله لمدة 12 يوماً
من يظنُّ أن أحداث الفيلم السينمائي “الـ33″ من وحي خيال كُتَّابه فهو مُخطئ لا محالة، فالفيلم الأميركي- الشيلي، اعتمد على أحداث حقيقية عاشها عُمال منجم نُحاس شيليّون انهار وهم يعملون داخله، ليبقوا مُحتجزين تحت الأرض 69 يوماً كاملة!
هذا بالضبط ما حدث لـ”بابا أوموحى”، مواطن مغربي لا تفارق الابتسامة مُحياه بالرغم من مروره بتجربة صعبة، احتُجز على إثرها طيلة 12 يوماً، قضاها تحت أنقاض أحد مقالِع مادة “الغَاسُول” (صخور طينية تجميلية وعلاجية)، بمنطقة ميسور، نواحي إقليم ميدلت.
احتجاز داخل جبل منهار.. النجدة!
كان يوم عمل اعتيادي، غيَّرت أحداثُه مَجرى حياة العامل البسيط بعد انهيار جَبل على جسده ليتم احتجازُه داخل نفقٍ كان يعمل به في الطابق الثالث تحت الأرض.
احتمى بابا أموحى بآخِر النَّفق، مُستفيداً من الفجوة الهوائية، في انتظار انتِشاله من طرف زملائه الذي فَطنوا إلى انهيار مَدخل النَّفق. هرعوا إليه مُسرعين ليخبرهم عبر الجدار بصوت مختنق، أنه لا يزال على قيد الحياة رغم الإصابة على كتفه، جراء سقوط عمود خشبي كان يُعزز سقف النفق، إلا أن النَّجدة لم تأتِ أبداً.
لا ينجو عمال المناجم والمقالع المغاربة عادة من الانهيارات الصخرية والترابية، إذ يلقى شباب في مقتبل العمر حتفهم مطمورين في الأعماق، كان آخرهم شقيقان داخل بئر تُعرف محلياً باسم “السَّاندرِيات” مُخصَّصة لاستخراج الفحم الحجري، إذ دُفنا حيَّين على عمق عشرات الأمتار تحت الأرض، الأسبوع الماضي.
تتكرر مآسي عمال المناجم والمقالع بالبلاد، ما بين فقد الحياة اختناقاً إلى فقدان أحد الأطراف أو الشلل الكلي، وهو ما حدث أبريل/نيسان 2018، حيث توفي شاب وأصيب آخر بمنجم لاستخراج المعادن نواحي زاكورة، شرقي المغرب، قبل هذا الحادث بأشهر، وتحديداً في ديسمبر/كانون الأول 2017، انهار منجم للنحاس نواحي شيشاوة، وسط المغرب، لقي على إثره أربعة أشخاص مَصرعهم، فيما تعرض ثلاثة آخرون لإصابات خطيرة.
لا تتوقف الوفيات والإصابات في مُختلف المناجم بمناطق عديدة بالبلاد، بسبب ضعف وسائل السلامة، والتصرفات اللاقانونية التي يتم اللجوء إليها من طرف أصحاب الشركات المستغلة للمناجم والمقالع، و”بابا أوموحى” كان من أوائل ضحايا هذه الخُروقات.
بين أنياب الموت.. طال الانتظار
قضى “بابا”، الذي كان شاباً حينها، ليلة مُخيفة ومظلمة في عمق الجبل المنهار، في انتظار نداءات العمال وفريق النجدة، واستمر على تلك الحال أياماً امتدت وطالت لـ12 يوماً كاملة، كان خلالها يتناول أجزاء من خشب الأعمدة، ويُعيد شرب بوله المجمع في إناء صغير.
الأمل والتشبث بالحياة لم يُفارقا عامل المنجم، الذي عانى الوحدة والجوع والعطش والبرد، إلا أن الواقع كان على عكس ذلك خارجاً، إذ بادر صاحب العمل (المقلع) وباقي العمال إلى تقديم واجب العزاء لوالدة المفقود، وأداء صلاة الغائب تكريماً لروحه، فيما تركوه مدفوناً لأيام طويلة، دون أن يكون له أي معرفة بما يقومون به، وإن كان متأكداً أنهم لن يتخلَّوا عنه.
أمانِيُّ “بابا” ذهبت أدراج الرياح بعد أيام طويلة من المعاناة وحيداً في مكان مغلق خُيِّل إليه أنه قبر، يقول النَّاجي من المحنة لـ”عربي بوست”، “بِتُّ أدعو الله أن أموت، تعبتُ من ذلك الوضع، تعبتُ من تناول قطع “الغاسول” الرطبة، ومن إعادة شرب بولي مرة تلو أخرى، ليس سهلاً أن تتمنى الموت ويصبح ملاذك الأخير صوب النجاة، لكني أردته أن يخنق أنفاسي أكثر من أي وقت آخر”.
وحدها والدته رفضت الاستسلام لواقع وفاة ابنها الوحيد، رافضة عزاء المسؤولين القادمين إليها، مؤكدة أنها لن تصدق بموته ما دامت لم تر جثته، طالبة البحث عنها وإخراجها، وهو ما لم تبادر السلطات إلى فعله آنذاك، فالرجل دُفن تحت الأرض ولا سبيل للوصول لجثته وانتهى الأمر.
إنقاذ بعد فقدان الأمل
مبادرات شخصية من أبناء القبيلة التي ينحدر منها بابا “أوموحى” هي من أنقذته وجعلته حيًّا بيننا اليوم، تبرعات مالية من ساكنة القرى عجَّلت بكراء شاحنات وجرافة لم تتوجه لمكان الرَّدم إلا بعد أخذ موافقة السلطات، التي أخبرت الأهالي جازمة أن المفقود بات فقيداً وتمت الصلاة عليه، إلا أن مسؤولاً عن المقالع أكد أن القانون يُلزِم بإخراج الجثة وعدم تركها.
سماع بابا في “قبره” صوت اشتغال الجرافة جعله يبكي، اختلطت عليه المشاعر. كان يدعو الله أن يرتاح هو بالموت ويرتاح أحباؤُه خارجاً بأن يعرفوا له قبراً، يحكي المتحدث لـ”عربي بوست”: “خائر القُوى غير قادر حتى على إعطاء إشارة صوتية لمن يبحثون عني، تمكن الرجال من إنقاذي أخيراً لأقضي أياماً طويلة داخل المستشفى”.
“في رمضان ينتظر الصائم ساعة الأذان ويتحراها كل حين، فما بالك بالبقاء دون طعام أو شراب 12 يوماً، كنت أشدُّ على جلدي دون أن أحس به من شدة البرد، اختنقت ولم أجد أمامي سوى البكاء والابتهال بأن يأخذ الله روحي، حتى إنني لم أعد قادراً في الأيام الأخيرة على التبول، جفَّ جسدي، وبقيت أعاني لأيام داخل المستشفى، لا أستطيع الكلام ولا الوقوف”.
بعد أن تحسَّنت حالته الصحية، غادر بابا المستشفى، وسار به أفراد القبيلة ممن كانوا سبباً في إنقاذ حياته صوب المنزل في موكب احتفالي. إلا أن كل ما مرَّ على “بابا أوموحى” لم يشفع له في نيل القليل من مستحقاته، أو التعويض لما أصابه، ذلك أنه كان يعمل مُياوما دون ضمان اجتماعي، ولا تأمين على المخاطر، وفي غياب عقد عمل حتّى.
عادة ما يلجأ المغاربة إلى السخرية من مواقف مُزرية يمرون بها ويجعلون من قصصهم وتجاربهم مصدراً للتَّنكيت والتندر، عاملين بالمثل الشعبي المغربي الذي يقول “كثرة الهم كضحَّك”، (الهم الكثير يُضحك)، هذا بالضبط ما حدث مع “بابا” العائد إلى الحياة من رحلة موت استغرَقت 12 يوماً، فما إن يدخل الناجي المسجد لأداء إحدى الصلوات حتى يبادره المصلون قائلين “نحن نصلي مع الأحياء وليس مع الموتى الذين صلينا عليهم الجنازة وودعناهم”.
استمرَّ بابا أوموحى في ممارسة العمل الذي يتقنه داخل مقالع “الغاسول”، إلى أن نال تقاعده مؤخراً، وبالرغم مما مرَّ به المتحدث لم يستطع التخلي عن مهنته كما لا تستطيع المغربيات الاستمتاع بحمامهن التقليدي دون استعمال “الغاسول” المُنسَّم بماء الورد وبالأعشاب العطرية.
السِّحر القادم من باطن الأرض
الغاسول المغربي، ويكون شكله الطبيعي مثل الأحجار، ومنه الأسود والبني، أما الأكثر شهرة فهو الغاسول الأبيض المستعمل من قبل المغربيات في كثير من الوصفات الخاصة بالبشرة، إذ يستعملنه للحصول على بشرة ناعمة وصافية، ويتم خلطُه مع ماء الورد أو ماء الزهر المقطر، كما يتم تطبيقه مَسقياً بمنقوع الأعشاب كالقرنفل والورد والريحان على الشعر للحصول على خصلات ناعمة دون تقصف.
للغاسول سِر؟ نعم هو كذلك فعلاً، يكمُن في طبيعته الطينية التي تحتوي على عناصر طبيعية وفيتامينات مغذية للشعر والبشرة معاً، فالطين المغربي يحتوي على مادة الجير التي لها مفعول قوي في القضاء على البكتيريا والالتهابات، وهو أيضا غني بعنصر “كلوريد الماغنسيوم” الذي يقضي على الدهنيات الضارة.
هذه المادة الطبيعية المستخرجة من باطن الأرض، غنية أيضاً بالمعادن المفيدة، وأهمها سيليكات الألومنيوم، مما يُعطيه قوة على امتصاص المسامات وتجديد الخلايا وحيوية الدورة الدموية، هذا بالإضافة إلى مكوناته الأخرى التي تعطيه فاعلية في توازن حرارة الجسم، والقضاء على الالتهابات وتغذية الأعصاب.
بالمُحصِّلة وعلاقة بالاستعمالات التجميلية، يعتبر “الغاسول” أو “الطين المغربي”، فعَّالاً ومُجرَّباً لعلاج مشكلات الشعر وزيادة تجميله، ولذلك فإن معظم الإنتاج المغربي منه، متمثلاً في 75%، يتم تصديره للخارج، أوروبا تحديداً.
ويستخدم الطين الذي يُعد طبيعيا 100% وآمناً من الأعراض الجانبية التي تُسبِّبها المنتجات الكيمائية، لمنع تساقط الشعر، ويساعد على إطالته، كما يتميز برائحة طينية زكية ومحببة، تبقى في الشعر بعد الاستعمال.
أما بخصوص البشرة والجلد عموماً، فيعمل على تطهير البشرة من البكتريا الضارة والشوائب والرؤوس السوداء والبثور، ويُجدِّد خلايا البشرة، وينشط الدورة الدموية للبشرة والجلد، ويقضي على الدهنيات السلبية فوق سطح البشرة.
“بابا أوموحى” ومثله كثير، وضعوا حياتهم على المحك طيلة سنوات، من أجل أجر زهيد، وعقود عمل غائبة، وتأمين غير موجود، ليضمنوا لقمة عيش صعبة لأبنائهم، مفضلين استخراج حجارة من باطن الأرض، يشقون للوصول إليها، وربما يفقدون حياتهم بسببها، حتى تصل أخيراً إلى كُبريات محلات التجميل الأوروبية والعالمية. فهل يعرف حقاً مستخدموها أي جحيم أتت منه؟.