جيتس وبافت وزوكربيرج، تبرعوا بثرواتهم ولكن مازالوا أغنياء.. ما هي اللعبة التي يمارسونها وكيف نجحوا فيها؟
نتعهد بالتبرع بـ99% من حصصنا في فيسبوك لـ”مهمة تطوير الإمكانات البشرية وتشجيع المساواة”.
عندما صدر هذا التعهد من مؤسِّس شركة فيسبوك ومديرها التنفيذي مارك زوكربيرغ وزوجته شان في رسالة، في ديسمبر/كانون الأول 2015، لطفلهما الجديد ماكس، كانت ثروتهما تقدر بـ45 مليار دولار.
إنه يبدو أمراً مؤثراً وملهما ما فعله الثري الأميركي الشاب وزوجته، وغيرهما من المليارديرات الذين تبرعوا بأجزاء كبيرة من ثرواتهم للعمل الخيري.
ولكن الأمر ليس كرماً منزّهاً عن الأغراض كما يبدو، إذ إن موجة الرأسمالية الخيرية هذه، ليست إلا وسيلة جديدة لتحقيق مصالح الشركات الكبرى، وتسهم في إبقاء التفاوت الاجتماعي الذي خلقته، وتعزز هيمنتها، وتفسد مجال العمل الخيري حسب مقال مطول لكارل رودس أستاذ دراسات المنظمات وبيتر بلوم الصحفي والمحاضر في المجال ذاته، الذي نشرته صحيفة The Guardian البريطانية.
ففي فبراير/شباط 2017، كان مؤسِّس شركة فيسبوك ومديرها التنفيذي مارك زوكربيرغ يتصدَّر العناوين بسبب نشاطاته الخيرية، فقد قدَّمَت مبادرة تشان زوكربيرغ، التي أسَّسها الملياردير العامل في مجال التكنولوجيا وزوجته برسيلا تشان، بما يزيد على 3 ملايين دولار للمساعدة في أزمة الإسكان الحاصلة في منطقة وادي السيليكون بكاليفورنيا.
حينها صرَّح ديفيد بلوف، رئيس السياسة والدفاع في المبادرة بأنَّ الهبات كان يُفتَرَض أن “تدعم أولئك الذين يعملون لمساعدة أسرهم في الأزمات، بالإضافة إلى دعم البحث في أفكارٍ جديدةٍ لإيجاد حل طويل الأمد -وهي الاستراتيجية المكوَّنة من خطوتين، التي ستدفع الكثير من عملنا السياسي والدفاعي إلى الأمام”.
التعامل مع مشكلة خلقها زوكربيرغ وأقرانه
ليس هذا سوى جزءٍ صغيرٍ من إمبراطورية زوكربيرغ الخيرية. وكانت المبادرة قد خصَّصَت مليارات الدولارات للمشاريع الإنسانية المُصمَّمة لمعالجة المشكلات الاجتماعية، مع التركيز بشكل خاصّ على الحلول التي يدفعها العلم والأبحاث الطبيّة والتعليم. حسبما كشفت الرسالة التي كتبها زوكربيرغ وتشان لطفلهما الجديد.
الواقع أنَّ التدخُّل في مشكلة الإسكان يعالج مشكلاتٍ تقع على باب المكتب الرئيسي لشركة فيسبوك في مينلو بارك. وهي المنطقة التي تضاعف فيها متوسط أسعار المنازل ليصل إلى حوالي مليوني دولار في السنوات الخمس بين عامي 2012 و2017، حسب المقال.
وتُعدُّ سان فرانسيسكو بالعموم مدينة تتميَّز بلامساواةٍ كبيرة في توزيع الدخل، وبسُمعة احتوائها على أبهظ المساكن ثمناً في الولايات المتحدة.
كان من الواضح أنَّ مبادرة تشان زوكربيرغ مُصمَّمة لتعويض المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي سبَّبها ارتفاع أسعار الإيجارات والمنازل إلى هذا المستوى، حتى إنَّ العاملين في مجال التكنولوجيا الذين يتقاضون رواتب بمئات الآلاف يجدون أنَّه من الصعب الحصول على منزل. أما بالنسبة لأولئك الذين يعيشون على دخلٍ أكثر تواضعاً، فإنَّ إعالة أنفسهم، ناهيك عن إعالة أسرة، هو أمرٌ أقرب للمستحيل.
وللمفارقة، كان الازدهار في صناعة التكنولوجيا في هذه المنطقة -الازدهار الذي كانت فيسبوك في صدارته- مساهماً أساسياً في هذه الأزمة. وكما فسَّر بيتر كوهين من مجلس منظمات الإسكان المجتمعي، فإنه “عندما تتعامل مع التركيز الكلي للثروة وهذا التدفُّق اللامعقول للأموال العقارية، فأنت لا تتعامل مع الإسكان الذي يسدُّ حاجة عدد متزايد من السكان. أنت تتعامل مع الإسكان على أنَّه سلعة من الأموال العقارية لإجراء مضاربات”.
وهكذا يبدو كرم زوكربيرغ الظاهري مساهمةً صغيرةً في مشكلةٍ كبيرة أنتجتها الصناعة الناجحة التي هو جزءٌ منها.
ومن إحدى وجهات النظر، تحاول هبات الإسكان (التي تعادل سعر واحد ونصف من المنازل متوسطة المستوى في مينلو بارك)، وضع لاصق للجروح على مشكلةٍ ساعدت شركة فيسبوك وشركات منطقة خليج سان فرانسيسكو الأخرى وحرَّضوا على حدوثها.
وقد يبدو أنَّ زوكربيرغ يحاول إعادة تحويل جزءٍ صغيرٍ من غنائم الرأسماليّة التكنولوجية النيوليبرالية -تحت اسم الكرم- لمحاولة معالجة مشكلات انعدام المساواة في الثروة، التي أنتجها النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي سمح لهذه الغنائم بالتكدُّس في المقام الأول.
إن مشروعاته الخيرية ليس هدفها الإيثار والتبرعات سيكون لها فوائد متعددة
من السهل اعتبار زوكربيرغ نوعاً من المديرين التنفيذيين الأبطال -الذي كان في يوم من الأيام طفلاً عادياً جعلت منه عبقريته واحداً من أغنى الرجال في العالم، والذي قرَّر استخدام هذه الثروة لمساعدة الآخرين.
تتحدَّث الصورة التي يعرضها عن إيثار غير ملوَّث بالمصلحة الشخصية. لكنَّ بحثاً مُتعمِّقاً سريعاً، بعيداً عن الصورة الظاهرية، يكشف أنَّ أساس مشروعات زوكربيرغ الخيرية تنبني على شيءٍ أكثر من الإيثار الطيب. وعلى الرغم من أنَّ كثيرين امتدحوا زوكربيرغ لكرمه، كانت طبيعة هذه الأعمال الخيرية في ظاهرها مثاراً للتساؤل منذ البداية.
فهي مفيدة في مجال الضرائب والاستثمار وحتى السياسة
يمكن تفسير صياغة رسالة زوكربيرغ في 2015 بسهولة على أنَّها تعني نيَّته بالتبرُّع بـ45 مليار دولار للأعمال الخيريّة.
ولكن كما قال المراسل الاستقصائي جيسي إيسنغر في ذلك الوقت، ليست مبادرة تشان زوكربيرغ التي سيُمنَح هذا العطاء عن طريقها بمؤسسة خيرية غير ربحية، بل هي شركة ذات مسؤولية محدودة.
ولهذه الحالة القانونية تأثيراتٌ عمليةٌ مهمة، بالأخص عندما يتعلَّق الأمر بالضرائب. وباعتبارها شركة، يمكن للمبادرة أن تقوم بما هو أكثر من النشاط الخيري: تمنحها حالتها القانونية الحقَّ في الاستثمار في الشركات الأخرى، وتقديم تبرُّعات سياسية.
وسيبقى متحكماً في أمواله بل ستزيد أرباحه
عملياً، لا تقيد الشركة قرارات زوكربيرغ فيما يريد أن يفعله بأمواله، فهو المُتحكِّم بالأمر. وعلاوة على ذلك، وطبقاً لوصف إيسنغر، أسفرت حركة زوكربيرغ الجريئة عن عائدٍ كبير من الاستثمارات في العلاقات العامة لفيسبوك، وذلك على الرغم من أنَّ الأمر يبدو كما لو أنَّه “نقلٌ بسيطٌ للأموال من جيبٍ إلى آخر” في حين “يحتمل ألا يدفع أيَّ ضرائب عليها”.
يعني إنشاء مبادرة تشان زوكربيرغ -التي ليست منظمة خيرية قطعاً- أنَّ زوكربيرغ باستطاعته التحكُّم في استثمارات الشركة بما يراه مناسباً، مع الحصول على منافع معتبرة في التجارة والضرائب والسياسة. ولا يعني هذا كله أنَّ دوافع زوكربيرغ لا تتضمَّن بعض التعبير عن كرمه أو بعض الرغبة الصادقة بصلاح الإنسانية وتحقيق المساواة فيها.
كما أنه يعيد تعريف الكرم
لكن ما يشير إليه هو أنَّه عندما يتعلَّق الأمر بالعطاء، فإنَّ الأسلوب الذي ينتهجه المدير التنفيذي هو الأسلوب الذي لا يتضمَّن اختلافاً واضحاً بين كونك كريماً، مع السعي إلى الاحتفاظ بالسيطرة على ما تُعطيه، وتوقُّع جني الفوائد في المقابل.
إنَّ إعادة تعريف الكرم إلى تعريفٍ لا يصبح فيه الكرم متناقضاً مع التحكُّم والمصالح الشخصية هو سمةٌ مُمَيِّزةٌ لـ”مجتمع المديرين التنفيذيين”: المجتمع الذي تُطبَّق فيه القيم المرتبطة برئاسة الشركات على جميع أبعاد السعي الإنساني.
الأمر لا يقتصر على حالة واحدة، وتعهَّد المليارديرات لا يوجد به شيء ملزم قانونياً
لم يكن مارك زوكربيرغ أول مدير تنفيذي معاصر يعد ويبادر بمنح تبرّعات كبيرة من الثروة إلى قضايا خيّرة ذات دوافع ذاتيّة. وفي مجتمع المديرين التنفيذيّين، يُعدّ إنشاء أغنى رجال الأعمال في العالم لوسائل من أجل التبرّع بثروتهم وسام شرفٍ بالتأكيد.
وقد أُضفيَ الطابع المؤسّساتي على هذا فيما يُعرف بمبادرة “تعهُّد عطاء”، وهي الحملة الخيريّة التي بدأها وارن بافت وبيل غيتس في 2010، وتستهدف الحملة ذوي المليارات في كلّ أنحاء العالم، وتحثّهم على التبرّع بأغلب ثرواتهم.
ولا يوجد في التعهّد ما يحدد ما الذي ستستخدم فيه التبرّعات، أو ما إذا كانت ستُمنح الآن أو يُوصى بها بعد الموت، أي أنَّه مجرّد تعهّد عام باستخدام الثروة الخاصّة ظاهريّاً للمصلحة العامّة. وهو ليس ملزماً قانونيّاً كذلك، بل مجرَّد التزامٍ أخلاقي.
وتوجد قائمةٌ طويلة من الأشخاص والعائلات التي تعهَّدت بالتبرُّع بثرواتها. تتضمَّن القائمة مارك زوكربيرغ وبرسيلا تشان، و174 شخصاً آخرين، من ضمنهم أرباب بيوت مثل ريتشارد وجوان برانسون، مايكل بلومبيرغ، بارون هيلتون، ديفيد روكفلر.
أولى النتائج: إبعاد النظر عن المشكلة الحقيقية
وقد يبدو الأمر كما لو أنَّ الكثير من أغنى الأشخاص في العالم يرغبون ببساطة بإعطاء أموالهم لقضايا خيّرة. يسمِّي الجغرافيان البشريان إيان هاي وسامانثا مولر هذه المبالغ بتشكُّكٍ بـ”العصر الذهبي للأعمال الخيرية”، الذي تزايدت فيه أعداد الوصايا بالتوريث للجمعيات الخيرية من قِبَلِ فاحشي الثراء حتى وصلت إلى مئات مليارات الدولارات. كتب هاي ومولر في ورقة عام 2014، أنَّ هؤلاء الذين يتبرَّعون إلى الجمعيات الخيرية يمنحونها حقَّ “التصرُّف في تنظيم المشاريع”، لكنَّهم يشيرون إلى أنَّ هذا الحقَّ “يحوِّل الانتباه والثروات بعيداً عن أوجه القصور في المظاهر المعاصرة للرأسمالية”، وقد تكون أيضاً تؤدي غرض تعويض الإنفاق العام الذي تسحبه الدولة.
إن ما نشهده بشكلٍ أساسي هو نقل المسؤولية عن خدمة العامة ومصالحهم من المؤسسات الديمقراطية إلى طبقة الأثرياء، لتتولى أمرها طبقة المديرين التنفيذيين. في مجتمع رؤساء الشركات، لم يعد القيام بالمسؤوليات الاجتماعية محلَّ جدلٍ فيما يتصل بما إذا كان على الشركات أن تتحمَّل مسؤوليةً عمَّا هو أكثر من مصالح أعمالها التجارية؛ بل إن الجدل أصبح يدور حول الكيفية التي يمكن بها استخدام الأعمال الخيرية لتعزيز منظومة سياسية واجتماعية تُمكِّن هذا العدد الضئيل من الناس من تكنيز ثرواتٍ فاحشة. ويعد استثمار زوكربيرغ في إيجاد حلول لأزمة الإسكان في منطقة خليج سان فرانسيسكو نموذجاً على هذا التوجُّه الأوسع.
كما أن ما يفعلونه هو ترويج للرأسمالية الخيرية التي تبدو كمشروع سياسي واقتصادي كامل
ويعد الاعتماد على إحسان طبقة المليارديرات من رجال الأعمال لدعم المشروعات العامة جزءاً مما بات يعرف بـ”الرأسمالية الخيرية”. ويحل هذا إشكال التناقض الواضح بين العمل الخيري (الذي يتركز في صورته التقليدية على العطاء) والرأسمالية (التي تستند على السعي إلى تحقيق المصالح الاقتصادية). ويفسر المؤرخ ميكال ثوروب هذا الأمر بأن الرأسمالية الخيرية تقوم على الادعاء بأن “آليات الرأسمالية تفوق غيرها من الآليات (وخصوصاً آليات الدول) ليس فقط في بناء الاقتصاد، بل أيضاً في التقدم البشري، وأنَّ السوق والفاعلين في السوق في مرتبة الصدارة وسط صفوف مَن يبنون المجتمع الجيد أو ينبغي وضعهم في هذه المرتبة”.
ولا يقتصر العصر الذهبي للعمل الخيري على المزايا التي تتحقق للمانحين الفرديين؛ بل على النطاق الأوسع، يخدم العمل الخيري شرعنة الرأسمالية وكذلك تغولها أكثر فأكثر داخل قطاعات النشاط الاجتماعي والثقافي والسياسي.
وتحوي الرأسمالية الخيرية بين طياتها أكثر من مجرد ما تدعيه من سخاء، فهي تشمل تلقين قيم الليبرالية الجديدة متجسدة في أصحاب المليارات من المديرين التنفيذيين للشركات الذين كانوا هم رأس الحربة خاصتها. ويعاد تشكيل العمل الخيري بنفس المفاهيم التي يتعامل بها المديرون التنفيذيون للشركات مع مشروع تجاري. ويترجم العطاء الخيري إلى نموذج عمل تجاري يُوظّف حلولاً تستند إلى قواعد السوق، وتتميز بالنجاعة والتكاليف والمنافع محددتي المقدار.
إنهم ينقلون كذلك ممارسات الشركات للمؤسسات الخيرية التي تجاوبت بالفعل مع الإغراء
وتقتبس الرأسمالية الخيرية تطبيق الخطابات والممارسات الإدارية من الشركات وتوائمها على العمل الخيري. وينصب التركيز على ريادة الأعمال، والمنهجيات المستندة إلى السوق ومقاييس الأداء. وتُموَّل العمليةُ بواسطة رجال الأعمال فاحشي الثراء، ويُديرها المخضرمون في مجال الأعمال. وتكون نتيجة ذلك، على مستوى عملي، هو شروع المديرين التنفيذيين للشركات في أداء العمل الخيري بطريقة تشبه تلك التي يديرون بها شركاتهم.
وكجزءٍ من ذلك، تغيرت المؤسسات الخيرية في السنوات الأخيرة. وكما يشرح غاري جنكينز، أستاذ القانون في جامعة منيسوتا، في ورقة بحثية له، يشمل هذا بالتبعية أن تصبح المؤسسات الخيرية “بشكل متزايد موجَّهة، ومهيمنة، ومرتكزة على مقاييس الأداء، ولها وجهة تجارية فيما يتصل بتعاملاتها مع الجهات الخيرية العامة المستفيدة من المنح، في محاولة لإظهار أن عمل المؤسسة “استراتيجي” و”قابلٌ للمساءلة””.
وقال جنكينز إن هذا بعيد كل البعد عما تزعمه الرأسمالية الخيرية من التحول الحميد إلى طريقة مختلفة وأفضل في أداء العمل الخيري، على طريقة رئيس تنفيذي لشركة “لإنقاذ العالم من خلال التفكير في الأعمال وطرق السوق”. ولكن الخطر الحقيقي للرأسمالية الخيرية يكمن في استحواذ المصالح التجارية على العمل الخيري، بحيث يخدم السخاء الخيري مع المحتاجين الهيمنة الكبيرة لنموذج المجتمع كما يرسمه رئيس الشركة وما يتبعه من مؤسسات.
ولكن هل هم على استعداد لتضحيات العمل الخيري؟
يُمثل هذا التحول تجاه المسؤولية الاجتماعية مشكلةً بارزة للمديرين التنفيذيين. ففي حين يمكن أن تكون الشركات مستعدة للتضحية بمنفعة على المدى القصير في سبيل الحفاظ على سمعتها في نظر العامة، فإنَّ هذه الموازنة نفسها نادراً ما تجد مساحة لدى المديريين التنفيذيين أنفسهم، إذ يخضعون للتقييم بناءً على التقارير ربع السنوية ومدى تفانيهم في خدمة المصالح المالية للمساهمين لديهم. وعلى ذلك، وفي حين يمكن أن تحظى استراتيجيات المسؤولية الاجتماعية باستحسان العامة، يختلف الأمر تماماً في أروقة مجالس الإدارات، خصوصاً عند تفحص الميزانية.
والآن وجدوا الحل: التبرعات بديلاً لوقف استغلال العمالة وممارسات أخرى
وثمة حافز اقتصادي إضافي للمديرين التنفيذيين لتجنب إدخال تغييرات جوهرية على عملياتهم باسم العدالة الاجتماعية، ويتمثل هذا في أن حصةً كبيرةً من مكافأة المدير التنفيذي غالباً ما ما تأتي من أسهم الشركة وخياراتها. وربما يكون القبول بسياسات التجارة العادلة وإغلاق ورش السخرة واستغلال العمالة أمراً يصب في صالح العالم، ولكن نتائجه يُمكن أن تكون كارثية على النجاح المالي المباشر للشركات. وما يعد أمراً ذا قيمة لكسب استحسان العامة لا يلزم بالضرورة أن يكون ذا قيمة كبيرة للشركات، ولا ذا فائدة شخصية على كبار المديرين التنفيذيين فيها.
وسعت العديد من الشركات إلى إيجاد حل لهذا التناقض عن طريق الدخول في أعمال خيرية ذائعة الصيت. ويجري إخفاء الممارسات الاستغلالية للعمالة أو الممارسات السيئة للشركات خلف ضجيج الدعاية للإسهامات التي تقدمها الشركات في قضايا عادلة على نحو يصب في مصلحتها الضريبية.
وربما تكون تلك الإسهامات ثمناً بسيطاً نسبياً إذا ما قورنت بتغيير الممارسات العملياتية الأساسية. وعلى نحو مشابه، يُعد التبرع للجمعيات الخيرية فرصةً مثاليةً للمديرين التنفيذيين لرسم صورة لأنفسهم بأنهم خيرون، دون أنَّ يضطروا إلى التضحية بالتزامهم بتحقيق الأرباح على حساب أي تكلفة اجتماعية.
ويسمح النشاط الخيري للمديرين التنفيذيين أن يكونوا خيرين، بدلاً من أنَّ يكونوا تقدميين من الناحية الاقتصادية، أو ديمقراطيين من الناحية السياسية.
كما أن العمل الخيري يمكن أن ينعكس على الأسهم
بل إنَّ هناك مقابلاً مالياً أكثر وضوحاً في بعض الحالات. فالعمل الخيري يُمكن أن يكون مصدراً مطلقاً لتراكم رأس المال: فقد تبيّن أن العمل الخيري للشركات له أثر إيجابي على صورتها في عيون المحللين الماليين في أسواق الأسهم. ويمكن للمديرين التنفيذيين أن يستفيدوا على المستوى الشخصي من الترويج لأعمالهم الخيرية، لصرف الأنظار عن أنشطة أخرى أقل استحساناً لهم. كما يمكنهم أن ينتفعوا في مناصبهم التنفيذية من أرباح رأس المال التي يمكن تكوينها عند عرض استراتيجيات خيرية بارزة.
وقد كان جوهر فكرة المسؤولية الاجتماعية محل انتقاد نظراً لما يقدمه من غطاء أخلاقي للشركات للتصرف على نحو استغلالي صِرف، يُلحق الضرر بالمجتمع. ولكن في العصر الحالي، سمحت المسؤولية الاجتماعية، عند تصويرها كسمة شخصية فردية للمديرين التنفيذيين، بإدارة الشركات بصورة أكثر رعونة من أي وقت مضى. ويمكن فهم المشاركة العامة للمديرين التنفيذيين في الرأسمالية الخيرية باعتبارها مكوناً رئيسياً لعملية إدارة السمعة هذه. وهي جزء من التسويق للشركة نفسها، إذ تُعد الأعمال الخيرية للقائمين على إدارة الشركة إشارة لخيرية الشركة ككل.
وكلما كان الرئيس التنفيذي أخلاقياً، زاد سعي شركته لأن تصبح غير أخلاقية
والمفارقة أن الرأسمالية الخيرية تمنح الشركات أيضاً حقاً أخلاقياً، على الأقل في الوعي العام، في التصرف بصورةٍ غير مسؤولةٍ تجاه المجتمع. فيمكن أن يَمنح الترويج لسخاء المديرين التنفيذيين حقاً ضمنياً لشركاتهم للتصرف دون رحمة، ودون إيلاء اعتبار للآثار الاجتماعية الأوسع لأنشطتها. ويعكس هذا نقطة توتر بارزة في جوهر المسؤولية الاجتماعية للشركات: فكلما كان الرئيس التنفيذي أخلاقياً، زاد سعي شركته من الناحية النظرية لأن تصبح غير أخلاقية.
ويفضح النفاق الكامن في زعم المديرين التنفيذيين بأنَّهم مخلصون للمسؤولية الاجتماعية والعمل الخيري أيضاً، أخلاقيات استبدادية أعمق تسود في مجتمع المديرين التنفيذيين. فيشيع تقديم الرأسمالية الخيرية على أنها مكون العدالة الاجتماعية في السوق الحرة العالمية، التي تغيب فيها الأخلاق. وتعد الأعمال الخيرية للشركات، في أحسن تفسير ممكن لها، نوعاً من الضريبة المسددة طوعاً تدفع نسبة الـ1% نظير الدور الذي لعبته في تحويل العالم إلى صورته الحالية التي يستشري فيها الحرمان ويشيع فيها عدم المساواة. ومع ذلك، تساعد ثقافة “العطاء” هذه أيضاً في دعم صورة سلطوية بوضوح للتطور الاقتصادي ونشر هذه الصورة التي تعكس أسلوب القيادة المتسلط للمديرين التنفيذيين الذي يمولونه بالدرجة الأولى.
وهناك ما هو أسوأ أنهم يساهمون في تمويل المستبدين
وينطوي تحويل العمل الخيري إلى صورة اقتصاد السوق على تبعات خطيرة تفوق تلك الاقتصادية. فله إرث سياسي متصاعد، يجري فيه التضحية بالديمقراطية لحساب تمكين العمل الخيري الذي يتبع أسلوب المديرين التنفيذيين.
ومن الناحية السياسية يفترض أن تكون السوق الحرة شرطاً أساسياً للديمقراطية الليبرالية. ومع ذلك، فإن تحليلاً أُجري حديثاً أظهر وجود صلة أعمق بين عمليات التحول إلى اقتصاد السوق والاستبداد. وبصورة محددة، يعد وجود حكومة قوية شرطاً لتنفيذ تلك التغييرات في السوق والتي لا تحظى غالباً بشهرة كبيرة. وعلى ذلك، تتحول صورة هذا الاستبداد الطاغي إلى أخرى إيجابية مُحتلمة، لقائد سياسي تقدمي يمكنه توجيه بلاده إلى المسار الصحيح من ناحية السوق في مواجهة المعارضة “غير الراشدة”. ويصبح العمل الخيري وسيلة للمديرين التنفيذيين لتمويل هؤلاء الطواغيت “الطيبين”.
بل إن الأمر وصل لتلاشي الفواصل بين الدولة والشركات
ويشير آخر تطور للرأسمالية الخيرية إلى التغول المتزايد للشركات في تقديم الخدمات العامة. ولا يقتصر هذا التغول على أنشطة أصحاب المليارات وحدهم؛ بل بات يصبح أيضاً جزءاً من أنشطة الشركات الكبرى تحت عنوان المسؤولية الاجتماعية للشركات. وينطبق هذا الحال بشكل خاص على الشركات متعددة الجنسيات، التي تمنحها صلاتها العالمية وثروتها وسلطتها نفوذاً سياسياً واسعاً. ويشار إلى هذه العلاقة منذ فترة بالمسؤولية الاجتماعية السياسية للشركات.
ويشير أستاذا أخلاقيات الأعمال أندرياس شيرر وغويدو بالازو إلى أنه، بالنسبة للشركات الكبيرة “تتجلى المسؤولية الاجتماعية بشكل متزايد في انخراط الشركة في العملية السياسية الخاصة بحل المشكلات الاجتماعية، على نطاق عالمي في أغلب الأحوال”. وتشهد هذه المبادرات السياسية للمسؤولية الاجتماعية للشركات تعاون الشركات وتآزُرها مع الحكومة والجهات المدنية والمؤسسات العالمية، إلى درجة بدأت عندها الفواصل التاريخية بين أهداف الدولة وتلك الخاصة بالشركات تتلاشى بشكل متزايد.
منذ مدة طويلة تشارك الشركات العالمية في أنشطة شبه حكومية مثل وضع المعايير والقوانين، وهي تنخرط بشكل متزايد هذه الأيام في أنشطة أخرى كان العرف فيما سبق يقضي بأنها من اختصاص الحكومة، مثل تقديم الخدمات الصحية الحكومية، والتعليم، وحماية حقوق الإنسان، والتعامل مع المشكلات الاجتماعية مثل مرض الإيدز وسوء التغذية، وحماية البيئة الطبيعية والترويج للسلام والاستقرار الاجتماعي.
لدرجة أنها باتت أكبر من اقتصادات أغلب الدول
وفي الوقت الراهن، بسات من الممكن للمؤسسات الكبيرة أنَّ تمسك بزمام نفوذ سياسي واقتصادي كبيرين، على نطاق عالمي. ويعني هذا أن تصرفات هذه الشركات، والطريقة التي تحكم وتنظم هذه التصرفات، لها تبعات اجتماعية بالغة.
ولقد اختل التوازن عام 2000، حين أفاد معهد البحوث السياسية في الولايات المتحدة، بعد مقارنة عوائد الشركات مع إجمالي الناتج المحلي للدول، أنَّ 51 من بين أكبر الاقتصادات في العالم كانت لشركات بينما 49 كانت اقتصادات وطنية. وكانت أكبر الشركات هي جنرال موتورز، وول مارت، وفورد، وكانت اقتصادات كل واحدة منها أكبر من تلك الخاصة ببولندا والنرويج وجنوب إفريقيا. ويعتبر المديرون التنفيذيون، بصفتهم على رأس تلك الشركات، في مقام الساسة. ولا يلزم في هذا الصدد سوى أن نذكر النفوذ المتزايد للمنتدى الاقتصادي العالمي، الذي يشهد اجتماعه السنوي في دافوس بسويسرا تلاحم كبار الساسة مع المديرين التنفيذيين للشركات بهدف ظاهري، هو “تحسين العالم”، وقد بات هذا الاجتماع من الطقوس المبجلة التي ترمز للقوة والنفوذ العالميين للمديرين التنفيذيين.
كارثة موت 25 ألف شخص في الهند كان إنذاراً أدى لتغيير سياسة الشركات وليس الكرم
لا يعد تطور المسؤولية الاجتماعية للشركات نتيجة لمبادرات مستقلة للشركات نظير قيامها بأعمال خيرية، وإنما استجابة لنشاط المنظمات غير الحكومية وجماعات الضغط والاتحادات العمالية في مجال المسؤولية الاجتماعية. وغالباً ما كان هذا النشاط استجابة لإخفاق الحكومات في تنظيم عمل الشركات الكبيرة. كما أن الحوادث الصناعية البارزة والفضائح المجلجلة شكلت بدورها ضغطاً على المؤسسات لزيادة الرقابة الذاتية.
وقد أسفر انفجارٌ في مصنع كيماويات في بوبال بالهند عام 1984 عن مقتل ما يقرب من 25 ألف شخص. ويقول جيمس بوست، أستاذ الإدارة في جامعة بوسطن، إنه بعد هذه الكارثة “أدركت الشركات العاملة في مجال الكيماويات على مستوى العالم أنَّه من شبه المستحيل الحصول على رخصة لإدارة المصانع دون ثقة العامة في معايير السلامة للصناعة.
وتبنى اتحاد المصنعين الكيماويين ميثاق شرف مهني تضمن معايير جديدة للإدارة الجيدة للمنتجات وإشراك المجتمع والإفصاح”.
وكان الدافع وراء هذا هو تحقيق مصالح الشركات وليس السخاء أو الكرم، إذ بدأت الصناعات والشركات على مستوى العالم “إدراك الأهمية المتزايدة لسمعتها وصورتها”. واتُّخِذَّت خطوات مشابهة بعد حوادث صناعية كبرى، مثل تسريب حاوية إكسون فالديز للنفط مئات الآلاف من براميل الوقود في ألاسكا عام 1989، وانفجار منصة النفط لديب ووتر هورايزن التابعة لبريتش بتروليوم في خليج المكسيك عام 2010.
وحتى عندما تخلت بعض الشركات عن عمالة الأطفال لم يكن الدافع أخلاقياً
أطفال يجبرون على العمل لساعات إضافية في ظروف بشعة، من بين الوقائع الأخرى الهامة، كان تورط شركتي نايكي وغاب الرائدتين في صناعة الملابس في فضيحة عمالة الأطفال بعد إذاعة فيلم وثائقي في برنامج BBC Panorama في أكتوبر/تشرين الأول عام 2010.
وأظهر الوثائقي مصانع ملابس لغاب ونايكي في كمبوديا بها ظروف عمل بشعة، ويعمل بها أطفال في الثانية عشرة من عمرهم مدة سبعة أيام أسبوعياً، ويجبرون على العمل ساعات إضافية مع تحمل الإساءة البدنية والنفسية من الإدارة. وطلبت موجة الغضب الشعبي التي تلت ذلك الكشف بأن تتحمل غاب ونايكي، وما أشبههما من الشركات، مزيداً من المسؤولية عن الآثار الاجتماعية والإنسانية السلبية لممارسات الأعمال التي تديرها.
وقد طرحت المسؤولية الاجتماعية للشركات آنذاك لتقليل الآثار السلبية لسعي الشركات إلى تحقيق مصالحها الخاصة. ولكن، بمرور الوقت، تحولت إلى وسيلة لتعزيز المصالح الذاتية، مع ادعاء أن الشركات تسعى لتحقيق مصالح الآخرين.
وعندما تواجه الشركة تهديد حدوث فضيحة، يُنظر إلى المسؤولية الاجتماعية للشركات على أنَّها وسيلة يمكن بها تعزيز سمعة الشركة، لتخفيف وطأة التهديد بإخضاعها لرقابة الحكومة. ومرةً أخر نرى هنا كيف أن الشركات تنخرط فيما يبدو ظاهرياً أنه ممارسات مسؤولة، لزيادة قوتها السياسية، ولتقليص سلطة الدولة على عملياتها.
باتت فكرة أن المؤسسات تتبنى المسؤولية الاجتماعية، لأغراض تعزيز سمعة الشركة أو الدفاع عنها، تضع أخلاقيات المسؤولية الاجتماعية للشركات قيد التدقيق.
ولكن المشكلة أن هذا الكرم الأسطوري يخفي الحقيقة المؤلمة
وتصاعد الجدال بأنه، بدلاً من استخدام المسؤولية الاجتماعية للشركات كوسيلة للقيام بأعمال خيرة، باتت الشركات تتبناها لمجرد أن تبدو “بمظهر جيد”، ولكن دون إخضاع موقفها الأخلاقي أو السياسي للتساؤل. حتى شركة إنرون الأميركية، قبل فضيحة الغش المجلجلة التي تعرَّضت لها، وما تلاها من إفلاسها في نهاية المطاف عام 2001، كانت معروفة بتشجيعها للمسؤولية الاجتماعية.
يتسم المديرون التنفيذيون بكرم أسطوري، أو هكذا يُراد لنا أن نرى. ويصعب على أرض الواقع أن تجد خطأً لدى أولئك الأثرياء الذين تبرعوا بقدر كبير من ثرواتهم لقضايا خيرية، أو لدى الشركات التي تروج لبرامج المسؤولية الاجتماعية. بيد أنَّ ما تحققه المسؤولية الاجتماعية والرأسمالية الخيرية على نطاق أوسع هو إيجاد مسوغ اجتماعي لانعدام المساواة الكبير من ناحية الثروة، وليس إيجاد أي مسوغٍ لها. علينا أن نلحظ أنه، بالرغم من الانتشار الواسع للعطاء الذي تعد به الرأسمالية الخيرية، فإن ما يُسمى بالعصر الذهبي للعمل الخيري هو أيضاً عصر يشهد اتساعاً في انعدام المساواة.
والآن بعد كل هذا الإحسان دعنا نلقي نظرة على ما حدث لتوزيع الثروة في العالم
ويظهر هذا بشكل جليٍّ في تقرير لمنظمة أوكسفام عام 2017، يحمل عنوان An Economy for the 99%. ويسلط التقرير الضوء على الظلم وغياب الاستدامة في عالم يعاني اتساع رقعة انعدام المساواة: فمنذ بدايات تسعينيات القرن العشرين، حاز أثرياء العالم البالغة نسبتهم 1% من سكانه، دخلاً يزيد على دخل نسبة الفقراء في العالم البالغة 50%.
ولكن لماذا يصر تقرير أوكسفام على إلقاء اللائمة على الشركات واقتصاديات السوق العالمية التي تعمل فيها تلك الشركات. والإحصائيات الصادرة في هذا الصدد مثيرةٌ للفزع؛ إذ تجني أكبر شركات العالم عوائد تفوق العوائد الإجمالية للدول الأقل ثراءً في العالم والبالغ عددها 180 دولة.
وبعد أن تجنبوا دفع الضرائب هذا هو تأثير تبرع زوكربيرغ الفعلي
ولا تحدث المسؤولية الاجتماعية للشركات أي فارق حقيقي. ويقول التقرير: “حين تعمل الشركات بشكل متزايد لتحقيق مصالح الأغنياء، فإن مزايا النمو الاقتصادي يحرم منها من هم في أمس الحاجة إليها. وسعياً لتحقيق عوائد كبيرة لمن هم في قمة الهرم الاقتصادية، تسعى الشركات إلى زيادة الضغط على العاملين لديها والمنتجين فيها، ولتتجنب دفع الضرائب التي تصب في مصلحة الجميع، وتحديداً الأشخاص الأكثر فقراً في العالم”.
ولا تملك الأعمال الخيرية للأشخاص فاحشي الثراء ولا البرامج الاقتصادية الموجهة اجتماعياً أي أثر حقيقي لمواجهة هذا التوجه، تماماً كما أنَّ ما تصدق به زوكربيرغ من مبلغ مقداره 3 ملايين دولار لن يكون له أثرٌ يُذكر في مواجهة أزمة الإسكان في سان فرانسيسكو. وما يحدث بدلاً من ذلك هو أن الثروات الطائلة في يد القلة، سواء وصلت إلى أيديهم بطريق الإرث أو التجارة أو الجريمة، تستمر في النمو على حساب الفقراء.
أما الهدف النهائي للمسؤولية الاجتماعية هو أن يصبح الحكم بأيديهم
ففي نهاية المطاف، تدور الرأسمالية الخيرية حول رأس المال، وتدور المسؤولية الاجتماعية للشركات في فلك الشركات، بمساعٍ حسنة النية تعمل على تبرير وجود منظومة خُلقت لتخدم الأغنياء.
وما يلفت النظر في هذه المقاربة الجديدة ليس دعم الأغنياء للمساعي الخيرية، وإنما أنها تتضمن، كما تقول لينزي ماكغوي المختصة في علم الاجتماع “انفتاحاً يدمر عمداً التمييز بين المصالح العامة والخاصة، بهدف تبرير المستويات المركزة من تحقيق الكسب الخاص”.
وفي مجتمع المديرين التنفيذيين، يسود منطق الشركات هذا ويضمن أن أي أنشطة يُعتقد أنها خيّرة وتخدم المسؤولية الاجتماعية تصب في نهاية المطاف في تحقيق مصالح الشركة. ولا مكان للجدل بين أخلاقيات الكرم الأصيل والمنفعة المتبادلة والمصالح الخاصة هنا.
وحسب منطق المديرين التنفيذيين، توضع آليات مكافحة عدم المساواة التي أوجدها تكاثر الثروات في يد الأثرياء، بطريقة تصب في صالحهم في نهاية المطاف.
وتجد أكثر ممارسات الرأسمالية الليبرالية الحديثة تطرفاً مسوغاً لها في تصرفات الأشخاص الذين يستفيدون من هذه التصرفات. وتوضع آليات إعادة توزيع الثروة في يد الأثرياء، والمسؤولية الاجتماعية في يد من استغلوا المجتمع لتحقيق منفعة شخصية.
في الوقت ذاته، تتزايد حالات عدم المساواة، وتجد الشركات والأثرياء طرقاً لتجنب سداد الضرائب التي نسددها جميعاً. وباسم السخاء والخيرية، نجد أنفسنا أمام صورة جديدة من صور “حكم الشركات”، يعيد تصميم بعد آخر من السعي البشري لخدمة مصلحة الذات.
في مجتمع كهذا لا يقتنع المديرون التنفيذيون بممارسة الأعمال التجارية؛ بل عليهم أن يمسكوا بزمام المنافع العامة. وفي نهاية المطاف، بينما يمكن أن يصور موقع Giving Pledge (“تعهد العطاء” الذي يدعو أغنى الأفراد والأسر في العالم لتخصيص أكثر من نصف ثرواتهم للأعمال الخيرية) مزيداً من الوجوه العكرة لمديرين تنفيذيين، يبقى أصل الحكاية أننا نعيش في عالم تغيب فيه المساواة ويزداد توحشاً عاماً بعد آخر.