ناصرَ القضية الفلسطينية وتسبَّب في العداوة التاريخية مع المغرب.. بومدين، الزعيم الذي حكم الجزائر بصرامة العسكر ودهاء السياسة
ينتصب وسط مدينة قالمة (شرق الجزائر) تمثال من البرونز، للرئيس الراحل هواري بومدين، حرص ناحتوه على إبراز أكبر قدر ممكن من التطابق مع الصورة الحقيقية للرجل، بقامته الفارهة النحيفة وهو يرتدي البرنوس (اللباس التقليدي الجزائري) ونظرته الثاقبة والموسطاش (الشارب) رمز الشموخ والرجولة عند الجزائريين.
تمثال بومدين تُخلِّد به الولاية ذكرى ابنها، الذي ما زال الأكثر حضوراً وحظوة لدى غالبية الجزائريين، إضافة إلى حضوره في كل المدن الجزائرية عبر معالم كبرى تؤرخ لحقبة الرئيس “المجاهد”؛ كالمساجد والجامعات والمصانع التي أراد لها أن تكون عملاقة بحجم طموحاته المتوارية خلف شخصيته البسيطة والغامضة.
وفي المخيال الجزائري، يبقى هواري بومدين هو صاحب الكاريزما القوية، السياسة الصارمة والقومية العربية، إضافة إلى أخطاء وكبوات ما زالت تدفع البلاد ثمنها إلى اليوم.
زعيم لم يعِش سوى 46 عاماً
يختصر موقع رئاسة الجمهورية الجزائرية، حياة الرئيس هواري بومدين في 11 سطراً فقط، وهي لمحة صغيرة تماثل صغر سنِّه عندما شُيِّع إلى مثواه الأخير وهو لم يتجاوز الـ46 عاماً من عمره.
وبين تلك الأسطر والسنين القصيرة، تُكتنز تفاصيل لا تكاد تنتهي عن الرجل الذي وُلد يوم 23 أغسطس/آب 1932، بقرية بني عدي في ولاية قالمة (شرق البلاد)، ببيت حجري من غرفتين وسقف من القرميد، حوَّلته السلطات الجزائرية إلى متحف في السنوات الأخيرة.
اسمه الحقيقي محمد إبراهيم بوخروبة، ينحدر والداه من قرية بو الصفصاف ببلدية سلمى ولاية جيجل، تعلَّم اللغة العربية بالمدرسة القرآنية ودرس بالفرنسية في مدرسة “ألمابير”، التي تحمل اليوم اسم محمد عبده.
تابع تعليمه بالمدرسة الكتانية بقسنطينة، وحرص على رفض أداء الخدمة العسكرية الإجبارية ضمن صفوف الجيش الفرنسي، ليفرَّ سنة 1949 إلى تونس، حيث أكمل دراسته في جامع الزيتونة، ومنه انتقل في رحلة دامت شهرين سيراً على الأقدام إلى جامع الأزهر بالقاهرة.
التحق بالثورة التحريرية الجزائرية سنة 1955، بالمنطقة الغربية ومنها استلهم اسمه الثوري “هواري بومدين” الذي لازمه طيلة حياته وبعد مماته، وتدرَّج في الرتب العسكرية إلى أن تقلَّد منصب وزير الدفاع الوطني في أول حكومة للجزائر المستقلة، ليصبح بعد 3 سنوات رئيساً للدولة.
الماضي الثوري
التاريخ الاستثنائي للراحل هواري بومدين لا يجعل منه بالضرورة “ملاكاً”، فهناك من يعتبرونه دكتاتوراً خدمته الثورة أكثر مما خدمها؛ بل ويوجد حتى من يدَّعي أنه لم يطلق رصاصة واحدة على الجيش الفرنسي.
بالنسبة لحسين آيت أحمد، الذي قاد تمرداً مسلحاً ضد حكم أحمد بن بلة سنة 1963، فإن بومدين مثقف صغير جاء من جامع القاهرة (الأزهر)، وأجرى ثورته في المغرب وتونس، ودخل بجيشه ومَدافعه رفقة بن بلة ليحطم ما كافح من أجله الشعب الجزائري ضد الاستعمار.
التبخيس من الماضي الثوري للرجل، لا يروق لأتباعه ومحبيه من العامة والخاصة، فهو من التحق بجيش التحرير الوطني، قادماً من مصر على متن سفينة “دينا” المعبأة بـ16.5 طن من مختلف الأسلحة، أرسلتها المملكة الهاشمية الأردنية للثورة، وأنزلت حمولتها غرب البلاد، في إنجاز استخباراتي غير مسبوق.
وعُرف عن بومدين، في أثناء الكفاح المسلح، أنه كان قليل الكلام، ذكياً صنع لنفسه شخصية غامضة.
وعن سر تدرُّجه السريع في رتب الجيش؛ من قيادة الولاية الخامسة للثورة إلى قائد مركز القيادة بوجدة المغربية، وأخيراً قيادة الأركان العامة للجيش، فوزيراً للدفاع غداة الاستقلال- كشف رئيس جمعية “المالغ” (وزارة التسليح والاتصالات)، المجاهد ووزير الداخلية الأسبق دحو ولد قابلية، في شهاداته، أن مؤسس المخابرات الجزائرية في أثناء الثورة، عبد الحفيظ بو الصوف، هو من “صنع بومدين”.
الرئيس بالتصحيح الثوري أم بالانقلاب؟
كان طريق هواري بومدين لبلوغ رئاسة الجزائر حديثة الاستقلال محفوفاً بالمخاطر، بعد إزاحة الرئيس أحمد بن بلة بالقوة بتاريخ 19 يونيو/حزيران 1965.
فبعد شهر من التخطيط الدقيق والمحكم، نفَّذ بومدين وكبار قادة الجيش ما أطلقوا عليه اسم “التصحيح الثوري”، وهو مصطلح لتجميل الانقلاب العسكري الذي قاموا به.
الرئيس السابق الشاذلي بن جديد، الذي كان يومها قائداً للناحية العسكرية الثانية، يروي في الجزء الأول من مذكراته التي صدرت سنة 2012، الأسباب التي دفعت وزير الدفاع الوطني، هواري بومدين، إلى الانقلاب على الرئيس أحمد بن بلة بعد 3 سنوات من الاستقلال، فقد جمعتهما ظروف الحرب والسياسة، وباعدت بينهما التطلعات والأماني.
ويعتبر الشاذلي بن جديد أنه من الخطأ اعتقاد أن الخلاف بين الرجلين يعود إلى اختلاف في الطبائع أو تنافر بالأمزجة، فأسبابه تكمن أساساً في تضارب الرؤى والتصورات حول المشاكل التي عرفتها البلاد بعد الاستقلال وطرق حلها.
ووصف بن جديد، العلاقة بين الرجلين في الأشهر الأخيرة قبل الانقلاب بأن “كل واحد منهما بدا متبرماً من الآخر ويتفادى لقاءه، وكأن بينهما عداوة مستحكمة!”.
أما العقيد الطاهر الزبيري الذي تولى مهمة إلقاء القبض على أول رئيس للجزائر، فيؤكد أن انفرادية بن بلة في الحكم وسعيه للزعامة المطلقة عجَّلت بتعويضه ببومدين عبر القوة العسكرية.
سياسي بنياشين عسكرية
نجا هواري بومدين من غضب الشعب الجزائري بعد إزاحته بن بلة بتلك الطريقة، رغم الشعبية الكبيرة للأخير، وباشر مهمته الرئاسية بطريقة جذبت إليه الأنظار في الداخل والخارج.
وجمع بومدين بين صفات القائد العسكري الصارم والسياسي المحنَّك، حيث يصفه الباحث في العلوم السياسية بجامعة الجزائر 3، رؤوف فتيحاني، بأنه كان جذاباً في كل شيء، سواء كشخصية سياسية أو كقائد، وأوضح لـ”عربي بوست” أن بومدين كانت لديه كاريزما قوية، ومن لا شيء يتحكم في كل الأمور، “كان من السهل جداً بالنسبة له الدخول في حرب حتى وهو لا يملك الأسلحة اللازمة”، يضيف الباحث.
وساعده تكوينه العسكري على إحباط محاولة الانقلاب العسكري التي تعرض لها، في ديسمبر/كانون الأول 1967، من قِبل رفيقه في السلاح وقائد أركان الجيش آنذاك العقيد الطاهر الزبيري، الذي برر فِعلته بأن بومدين “اختار نهج الزعامة الانفرادية التي أسقطنا بسببها بن بلة”.
وبالنسبة للرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، الذي كان الذراع اليمنى لبومدين كوزير للخارجية، فقد خسرت الجزائر الكثير من المكاسب السياسية برحيل بومدين، حيث قال في إحدى خطاباته: “يوم أبَّنت أخي وصديقي ورفيقي في السلاح الرئيس بومدين.. الذين كانوا يفهمون حينذاك السياسة كانوا يعرفون أني كنت أودِّع أخاً وصديقاً ورفيقاً وفي الوقت نفسه كنا نودع السياسة في حد ذاتها”.
ويوم وفاته، قال عبد العزيز بوتفليقة إن بومدين جعل من الكادحين عمالاً منتجين، وأخرج الفلاحين من الأكواخ إلى بيوت الكرامة، في إشارة إلى قضائه على استغلال الإنسان للإنسان وتأسيسه العدالة الاجتماعية، الأمر الذي أدخله قلوب البسطاء من عامة الناس.
ونجح بومدين حيث فشل سابقه بن بلة؛ إذ تحكَّم في كل خيوط التناقضات والخلافات العميقة التي ضربت قادة الثورة العسكريين والسياسيين؛ بل وسيطر على الجيش برغم الغليان الذي كان بداخله؛ بسبب صراع ضباط الداخل مع الضباط الفارين من الجيش الفرنسي.
أستاذ التاريخ بجامعة وهران رابح لونيسي يُرجع تفوُّق الرجل إلىإتقانه اللعب على التناقضات اللغوية والأيديولوجية والجهوية داخل كل المؤسسات، وضمنها الجيش، فكان كل طرف يحيِّد الآخر لصالح تزايد نفوذ بومدين.
“مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”
حماسة الجزائريين الشهيرة للقضية الفلسطينية تعود للرئيس هواري بومدين، الذي اشتهر بمقولة: “نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”.
ولم يتردَّد في إرسال الجيش الجزائري إلى جبهات القتال مع الجيوش العربية ضد الجيش الإسرائيلي؛ كتأكيد منه على مواقفه الداعمة للقومية العربية، التي عُرف بها الزعماء العرب وقتها كجمال عبد الناصر وصدام حسين والملك فيصل.
وفي خطاب شهير بعد حرب الساعات الست سنة 1967 (النكسة)، قال بومدين: “سيحكم علينا التاريخ كخونة إذا قبِلنا هذه الهزيمة”، وتابع: “الجزائر لن تقبل هذه الهزيمة.. لن تقبلها أبداً”.
ووجد بومدين فرصة للانتقام في حرب أكتوبر/تشرين الأول سنة 1973، حيث أرسل الفيلق الثامن معزَّزاً بمدرعات وطائرات حربية، وخطب في الجنود قائلاً: “أمامكم طريقان: إما النصر أو الموت والاستشهاد”.
المحلل السياسي الفلسطيني صالح الشقباوي يؤكد لـ”عربي بوست”، أن بومدين كان مشروع استقلال عربي كامل، وفي وقته كانت “الأمة تفتخر بنفسها وذاتها”، وأضاف أنه قاد معركة النفط رفقة الملك فيصل سنة 1973، وذهب إلى موسكو ومنح ليونيد بريجنيف صكاً على بياض لاقتناء السلاح ومحاربة إسرائيل، حتى أصبح من أكبر “أعداء الصهيونية والإمبريالية؛ لذلك قتلوه بالسم”.
ولم يكن بومدين رجل حرب فقط، حيث سعى طويلاً لوقف الحرب بين العراق وإيران، وأثمرت جهوده توقيع اتفاق الجزائر بين البلدين سنة 1975، وهو الاتفاق الذي لم يعمر طويلاً.
العداوة مع الجيران
تسبَّبت مبادئ السياسة الخارجية التي رسمها الرئيس الراحل هواري بومدين للجزائر، في بناء علاقات متينة مع العديد من الدول الإفريقية على وجه الخصوص، نظير تكريسه الوصف الذي يطلَق على بلاده “مكة الثوار وقِبلة الأحرار”، فقد وضع دعم حركات التحرر في إفريقيا ومختلف مناطق العالم ضمن أولوياته.
هذا التوجُّه جعل الصدام مع المملكة المغربية أمراً حتمياً؛ بسبب قضية الصحراء الغربية، التي لم تكن فقط بالنسبة إليه قضية تصفية استعمار بقدر ما كان يرى، دون أن يصرح بذلك علانية، أن أي تنازل عنها معناه تشجيع المغرب على التهام مناطق أخرى، مما سيهدد الأمن والسلم في المنطقة، حسب تحليل أستاذ المؤرخ رابح لونيسي.
وبخلاف التوتر مع المغرب، كانت علاقة بومدين بالدول الكبرى متوازنة؛ ففي الوقت الذي وطد علاقاته مع الاتحاد السوفييتي، خاصة في مجال الأسلحة، فقد حرص أيضاً على إقامة علاقات اقتصادية وطيدة أيضاً مع أميركا وأوروبا، ومنها “عقد ألباسو” الشهير مع الولايات المتحدة.
انتقادات رغم الثورات الثلاث
رغم إطلاقه 3 ثورات (الثورة الزراعية، الثورة الصناعية، الثورة الثقافية) تستهدف نهضة البلاد وجعلها يابان إفريقيا كما كان يردد، فلم يَسلم بومدين من انتقادات وُجِّهت لسياسته الداخلية، خاصة بعد تبنِّيه الاشتراكية المطلقة وتطبيقه سياسة “الأرض لمن يخدمها”.
حبُّ بومدين الشديد للفلاحين، إلى درجة نزعه أراضي من أناس لا يستغلونها وتمليكها لآخرين يمتهنون الفلاحة بصدقٍ، لم يجعل الجزائر بلداً زراعياً، والدليل أنها ما زالت تعتمد على النفط في اقتصادها بنسبة 98 في المائة.
المؤرخ المختص في حقبة بومدين يعتبر أن منتقدي سياساته ينطلقون من كون الرجل أنفق كثيراً في السياسة الخارجية؛ كتمويله حركات التحرر في العالم بدل توجيه الأموال إلى التنمية الداخلية، مضيفاً أن وهَج الثورة الجزائرية هو الذي أعطى وهجاً للسياسة الخارجية لبومدين في تلك الفترة.
وتزامنت فترة بومدين مع المخاض العسير لصياغة مقومات الهوية الوطنية في دستور 1976، وبلوغ الصراع ذروته بين دعاة تعريب التعليم والمدافعين عن الفرنسية، حيث دافع بومدين عن خيار التعريب وأدخل العربية إلى جميع المؤسسات الرسمية، ومن ضمنها الجيش، وهو ما لم يستسِغه البعض.
واتسمت حقبة بومدين بعدد من الاغتيالات التي طالت عدداً من قادة الثورة؛ على غرار محمد خيضر، الذي قُتل في إسبانيا سنة ،1967 وكريم بلقاسم الذي اغتيل سنة 1970 بمدينة فرانكفورت الألمانية.
ضباط فرنسا
التهمة التي تلازم بومدين من قِبل فئات واسعة من المثقفين الجزائريين، هي اعتماده على من يطلق عليهم ضباط فرنسا، وهم الضباط الجزائريون الذين خدموا في صفوف الجيش الفرنسي وفرُّوا في السنوات الأخيرة ليلتحقوا بالثورة، متسبِّبين في انقسام حاد داخل المؤسسة العسكرية غداة الاستقلال؛ بسبب الرافضين والداعمين.
وبرز هؤلاء الضباط كصقور سنوات التسعينيات، حيث قادوا الحرب على الإرهاب وسيطروا على مفاصل الدولة، وأبرزهم خالد نزار، والعربي بلخير، ومحمد لعماري، ومحمد تواتي.
وفي مؤتمر لحزب جبهة التحرير الوطني تحت رئاسة بن بلة، قال بومدين -وكان حينها وزيراً للدفاع- جملته الشهيرة: “شكون (من) الطاهر ابن الطاهر الذي يريد أن يطهر الجيش”، وردَّ بذلك على مطالب بتطهير الجيش من هؤلاء الضباط الذين تكوَّنوا ضمن صفوف الجيش الفرنسي.
وفسر المؤرخ لونيسي احتفاظ بومدين بهؤلاء الضباط بـأنه”فضَّل جزائريين ذوي كفاءات في الجيش أو غيره من القطاعات حتى ولو عملوا مع فرنسا، على الإتيان بما يسميهم متعاونين دوليين أجانب”.
بنجاحاته وأخطائه، بصم الرئيس هواري بومدين الجزائر المستقلة، فقددامت فترة حكمه 13 سنة، انتهت بوفاته في ظروف غامضة بروسيا -التي فضَّلها كوجهة للعلاج بدل فرنسا؛ وفاء لمبادئه الثورية- يوم 27 ديسمبر/كانون الأول 1978، عن عمر ناهز 46 عاماً؛ بسبب مضاعفات سُمٍّ قاتلٍ تجرَّعه، دون أن يُعرف مَن وضعه له إلى اليوم.