مستثمرون أوروبيون ينتقدون بمرارة تمزيق واشنطن الاتفاق النووي.. ولكن، لابد من مغادرة إيران، وإلا “حرق القيصر قرانا وسوّاها بالأرض”
في أعقاب الاتفاق النووي بين إيران والدول الكبرى، عام 2015، هرعت مئات الشركات، وخصوصاً الأوروبية، لدخول السوق الإيرانية غير المستغلة والكبيرة، حيث يعيش في البلاد نحو 80 مليون نسمة، إلا أن المفاجأة كانت أن الاتفاق تم تمزيقه مبكراً، وعادت العقوبات على طهران ومن يتعاملون معها.
لقد كان الإعلان مدوياً، بحسب تقرير لصحيفة The New York Times الأميركية: لدى الشركات 180 يوماً لمغادرة إيران أو مواجهة المنع من دخول السوق الأميركية، والتعرُّض لغرامات تصل إلى مليارات الدولارات، والقبض على كبار مدرائها لِتَجَاهُل عقوبات واشنطن.
تعهَّد مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي، في خطابٍ ألقاه الاثنين 21 مايو/أيَّار بأن الولايات المتحدة سوف تدمر الاقتصاد الإيراني من خلال تدابير أحادية جديدة ستكون “أقسى عقوبات في التاريخ”.
وبحسب التقرير، فمن السابق لأوانه القول كم من الشركات الأجنبية سوف تنسحب في نهاية المطاف من إيران أمام تلك التهديدات، بالنظر إلى وعود الاتحاد الأوروبي وعوداً باتخاذ خطوات لحماية شركاته.
مرارة أوروبية
لكن العقوبات الجديدة عقّدت الأمور على المستثمرين الأجانب بشكل لا يمكن إنكاره، ولا سيما الشركات ذات العمليات التشغيلية العالمية، ما ترك عديداً من المديرين الأوروبيين في حالة مرارة.
وتنقل الصحيفة الأميركية عن أحدهم قوله؛ إن “الرسالة هي: هذه هي روما، قد غيَّر القيصر رأيه. إذا عصينا، سوف تُحرق قُرانا وتُسوَّى بالأرض”.
ومثلما هو الحال مع جميع الأشخاص الذين أُجريت معهم مقابلات في هذا المقال، تحدث هذا المدير بشرط عدم الإفصاح عن اسمه؛ خوفاً من الغضب الذي قد يأتي إما من السلطات الإيرانية أو الأميركية.
مدى التأثير الحقيقي على الاقتصاد الإيراني
لا يزال مبهماً مدى التأثير الكلي الذي ستُحدثه العقوبات الجديدة، فبالرغم من أن الاستثمار الأجنبي في إيران تضاعف منذ توقيع الاتفاق في 2015، فإن الزيادة الواقعية في حجم هذه الاستثمارات، التي ارتفعت إلى 4 مليارات دولار بعد أن كانت ملياري دولار، ليست مؤثرة للغاية على اقتصاد يبلغ حجمه 428 مليار دولار.
ومع ذلك، تظهر الإنجازات التي حققتها المؤسسات التجارية الغربية في السنوات الثلاث الماضية جليَّةً في الطرق المزدحمة للعاصمة الإيرانية.
تريد شركة Bosch الألمانية للأجهزة المنزلية أن يشتري الإيرانيون غسالات الأطباق التي تنتجها، وفقاً لما تُظهره اللوحات الإعلانية الكبيرة. فيما تظهر العلامة التجارية لشركة ABB Global، وهي مؤسسة سويدية-سويسرية تنشط في جميع المجالات، بدءاً من الروبوتات وحتى الطاقة الكهربائية، على جانب أحد البنايات. كما تظهر كذلك علامات مشروب الشعير غير الكحولي “بريبيكان”، الذي تنتجه شركةٌ من المملكة العربية السعودية، الخصم الإقليمي لإيران.
وينقل التقرير عن الخبير الاقتصادي الإيراني، سعيد ليلاز، قوله: “تبدو معاقبة الشركات الأجنبية أقرب إلى إنهاك القوة من إيذاء الاقتصاد الإيراني حقاً، فالنفط هو ما يهم فعلياً، والحضور الأوروبي هنا ليس بهذا القدر بعد”.
وعلى إثر إعلان العقوبات، تغادر شركتا نفط كبيرتان، وهما “توتال” الفرنسية و”إني” الإيطالية، مشروعات تنمية هناك. أما شركة الشحن الدنماركية TORM، فلن توجِّه أشرعتها بعد الآن نحو الموانئ الإيرانية. وسوف تضطر كذلك شركة Danieli الإيطالية المنتجة للصلب، التي فتحت منذ عام مصنعاً كبيراً بالقرب من طهران، أن تبيع جميع أسهمها وأن تنسحب من السوق الإيراني.
وهمَّت شركة بروكتر آند غامبل الأميركية، عملاقة السلع الاستهلاكية التي تبيع منتجات من قبيل “هيد آن شولدرز” وماكينات حلاقة “براون”، بتسريح جميع العاملين لديها، بحسب موظفين فيها، وتتجه هي الأخرى نحو الخروج من إيران.
لكن القرار ليس واضحاً جداً للعديد من الشركات الأخرى، وأغلبها أوروبية وآسيوية، تبيع منتجات ليست خاضعة لعقوبات؛ مثل المشروبات غير الكحولية، وقطع الشوكولاتة، والملابس، والمعدات الطبية، والأدوية، على سبيل المثال لا الحصر.
وتملك سلسلة المتاجر البريطانية “ديبنهامز” فروعاً لها في إيران، وكذلك شركة “أديداس” الألمانية للملابس الرياضية، فيما تبيع شركتا “بيجو” و”رينو” سياراتهما هنا، و”سكانيا” السويدية شاحنات وحافلات.
كما يوجد استشاريون أوروبيون وآسيويون في طهران وجميع أنحاء البلاد، يقدمون النصائح إلى الشركات الإيرانية، وغيرهم من مستوردي منتجات العناية بالبشرة، والطهاة الذين يعملون في المطاعم الكبرى، ولاعبي كرة القدم، والشركات التي دخلت في مشاريع تجارية مع شركاء إيرانيين.
فقدان وظائف
تقول الصحيفة الأميركية بلا شك فإن مغادرة الشركات الأوروبية والآسيوية سوف تعني فقدان الشباب الإيراني للكثير من الفرص الوظيفية.
وبحسب مدير تنفيذي لشركة أوروبية: “لديّ طاقم عمل يتكون من 11 امرأة متحمسة”، ويضيف: “والآن، عليّ أن أتركهن جميعاً ليرحلن. إنه يؤذيني بدنياً حتى أن أفكر في ذلك”.
يشعر أصحاب العمل الإيرانيون أيضاً بهذه الآثار. إذ قال بن كرمي من شركة I.C.A للدعاية والإعلان في طهران: “فقدنا 20 في المائة من عملائنا في الأسبوع الماضي، وعلّق 60 في المائة أعمالهم مؤقتاً”، وأضاف: “سوف نفقد كثيراً من العمالة الوافدة وكثيراً من الخبرات”.
من جانبها، قالت ساناز، البالغة من العمر 31 عاماً وتعمل مع شركة منتجات استهلاكية: “أصحاب عملي، وآخرون كنت آمل أن أعمل معهم، قد يغادرون. الأسعار مرتفعة، ومعظم الرواتب -إذا استطعت الحصول على وظيفة- منخفضة”.
وأوضحت ساناز أنها لا تخطط للانضمام إلى أيِّ احتجاجاتٍ ضد قادة إيران، مثلما تأمل إدارة ترامب. وأضافت: “كنت في احتجاجات 2009، وكانت تجربةً مؤلمة. إذا خرج الجميع، فسوف أنضم. ولكن على الأرجح أنني سأتغاضى عن الوضع”.
يعتقد قليل من الدبلوماسيين والمحللين الأوروبيين أن العقوبات الجديدة ضد إيران سوف تُحدث الأثر الذي يبدو أن بومبيو يأمله من جانبه. أما واشنطن، فهي بمعزل تام عن كثير من هذه الآثار.
وقال دبلوماسي أوروبي إن “الأميركيين يريدون الآن زعزعة استقرار إيران، ولكنهم لن يعيشوا مع هذه العواقب. بل سنعيش نحن معها”.
وأضاف أنه يشك في أن العقوبات يمكنها إحداث أثر كبير، ولكن إذا زعزعت استقرار البلاد، يمكن أن تواجه أوروبا التداعيات من جراء الهجرة وزيادة انعدام الأمن الإقليمي.
وأوضح الدبلوماسي الأوروبي أن أغلب السفارات الأوروبية في الوقت الحالي تخبر شركات بلادها بعدم الاستعجال في اتخاذ القرار.
وتابع: “إننا نخبرهم بألا يتخذوا أيَّ قراراتٍ مُتسرِّعة وأن يُبقوا على أعمالهم. ولكنهم بكل تأكيد يتخذون قراراتهم الخاصة”.