تفاصيل خطة بناء مدن ومستعمرات في الفضاء
مهمة استغرقت 167 يوماً تلك التي خرج فيها رائد الفضاء باري “بوتش” ويلمور على متنمحطة الفضاء الدولية عام 2014 بينما كان في رحلة استكشافية في الفضاء
في الأسابيع الأولى اختفى مفتاح عزم الدوران من على متن السفينة، لا عجب في الأمر إذن فلا توجد جاذبية لحفظ الأشياء في مكانها.
أخبر ويلمور وحدة المراقبة في ناسا عن الأداة المفقودة، بينما كان يراقب في الوقت ذاته طابعة ثلاثية الأبعاد وهي عبارة عن صندوق بحجم المايكروويف ينفث البلاستيك الساخن لبناء المواد طبقة فوق طبقة، كان الجهاز يخضع للاختبار على محطة الفضاء.
بعد نحو أسبوع، فتح ويلمور باب الطابعة ثلاثية الأبعاد، فوجد نسخةً طبق الأصل متقنة من مفتاح العزم المفقود. شعر بسعادة غامرة والتُقطت تلك اللحظة وانتشرت الصورة عبر وسائل الإعلام العالمية في وقتها. حتى ذلك الوقت، كانت الطابعة تصنع أجساماً بسيطةً للغاية. يقول ويلمور: “كان مفتاحاً مطبوعاً كاملاً بآلية السقاطة، لقد أجادت الطابعة نفعاً”
لحظة تاريخية
لم يكن رائد الفضاء يعلم أن الفريق الذي صمم الطابعة وشغَّلها -وهو
فريق شركة Made In Space في ولاية كاليفورنيا كان يستمع إلى محادثته مع وحدة ناسا (وهو امتياز تتمتع به الشركات التي تعمل مع وكالة الفضاء)، وعمل على مدار الساعة لتصميم نسخة من الأداة تستوفي شروط السلامة الصارمة التي وضعتها الوكالة.
قال حينها دون -المؤسس المشارك في شركة Made In Space ورئيس قسم التكنولوجيا فيها- وهو جالسٌ على طاولة في غرفة المؤتمرات بمقر الشركة في مطار موفيت فيلد بمقاطعة سانتا كلارا “فور أن اعتمدت ناسا المفتاح المفقود، أرسلنا الملف إلى الطابعة، عبر البريد الإلكتروني، ثم ضغطنا على زر الطبع، أشعر بقشعريرة في كل مرة أفكر فيها في تلك القصة”.
ورأى أنَّ هذا المفتاح يُمثِّل رمزاً لتحدٍّ جديد تماماً في مجال استكشاف الفضاء، وهو حدٌّ تُعد شركته التي أنشئت منذ ثماني سنوات رائدةً فيه: صناعة العناصر في الفضاء بدلاً من الاعتماد فقط على تلك الأشياء التي تحتاج إلى توفير مكان لحزمها معك على الصاروخ المنطلق من الأرض.
يجلس دون (33 عاماً) في غرفة اجتماعات غير مرتبة تسمى ذا بريدج -وهي إشارة إلى مركز القيادة الموجود في سلسلة أفلام Star Trek- موجودة بالطابق الثاني في مبنى طويل كان ثكنة للأسطول البحري الأميركي، أمَّا الآن، فيسكن به معظم موظفو شركة Made in Space البالغ عددهم 43 موظفاً.
حين شاهد إطلاق مكوك الفضاء من مركز Kennedy Space Center برأس كانافيرال، وكان يبدو كـ”نجمة صغيرة” تتحرك في السماء، شعر أن عليه اكتشاف هذا العالم، وعقب على هذه الحدث قائلاً “أتذكر حالة السحر التي سيطرت عليَّ عند رؤية تلك النجمة بينما قلت لنفسي: “هناك أشخاص على متن تلك النجمة يختفون في الفضاء”، وأضاف “كل شخص على الكوكب يجلس على شاطئ الفضاء. وهذا هو المحيط الكبير الذي علينا استكشافه”.
كان دون يرى أنَّ عمله في وكالة ناسا أمر حتمي؛ فقد كان مفتوناً بمُعلِّم الفيزياء في المدرسة الثانوية، الذي ترشَّح إلى المرحلة النهائية ضمن المجموعة التي اختارتها وكالة ناسا. وبعد ذلك، درس هندسة الفضاء الجوي في جامعة أورلاندو، حيث عمل على برنامج المكوك عبر منحةٍ حصل عليها في شركة Boeing، التي تعاقدت معها وكالة ناسا لبناء المركبة الفضائية.
المستقبل في الفضاء
تضع شركات الفضاء الخاصة التي تحظى بأكبر قدر من الاهتمام، مثل شركة SpaceX التي يرأسها إيلون مسك وشركة Virgin Galactic أو شركة Blue Origin التي يرأسها جيف بيزوس، في أولويتها تحقيق الوعد الأصلي الخاص بمكوك الفضاء: الوصول إلى الفضاء بتكلفة أقل، طارحين تساؤلات حول “ماذا لو لم نكن بحاجةٍ إلى إطلاق أي شيء على الإطلاق؟”.
ويعني طرح هذا السؤال أنَّهم لم يعودوا مقيدين بأبعاد الأجسام الفضائية التي يمكن حزمها داخل صاروخ، والقادرة على التغلُّب على الاهتزاز المصاحب لإطلاق الصواريخ من الأرض. يتوقع دون أنه على مدار السنوات العشر القادمة، سيصبح الفضاء منطقة صناعية مليئة بالمصانع المدارية “مثل مصانع النفط على المحيط لكنَّها لن تسبب تلوثاً”.
لاسيما وجود عدة شركات بالفعل -من بينها شركة Axiom Space التي أقامت شراكة مع Made In Space وشركة Bigelow Aerospace– تبني محطاتٍ فضائية تجارية من شأنها أن تحتوي على معدات صناعية مدارية في غضون سنتين.
مدن كاملة على الفضاء
في نهاية المطاف سيذهب الناس إلى تلك المصانع في الفضاء للعمل بطريقة تشبه كثيراً تلك التي يعمل بها عمال الحفر في حقول النفط. وأضاف: “مع أنَّ أغلب عملية التصنيع ستعتمد على الآلات ستحتاج إلى الأشخاص لإصلاح الروبوتات وصيانتها. قد يكون الأمر غير جيدٍ وخطراً كذلك، لكنَّهم سيجنون أموالاً مجزية ثم يعودون إلى منازلهم”. وسيدفع آخرون أموالاً للذهاب في “رحلة على متن السفن”، أو ربما الدوران حول الأرض أو “القيام برحلة رائعة حول القمر لمدة أسبوع”
وبمرور الوقت، ستبدأ الشركات المصنعة بملء مدار الكرة الأرضية بدءاً من الارتفاعات المنخفضة، ثم تتوسع إلى الخارج إلى الدوائر أحادية المركز وصولاً إلى القمر.
تستعد شركة Made In Space لإنشاء مستعمرة قمرية عن طريق صناعة طوب “ريغو” المصنوع عن طريق الخلط بين بوليمر خاص مع غبار محاك لغبار سطح القمر (الحطام الصخري). ويُعَد الطوب -الذي يبدو كعينات من أحجار الرصف ذات درجات مختلفة من اللون الرمادي- ثقيلاً ويشبه البلاستيك في قوامه. ونظرياً، يمكن لمركبة صناعة الطوب التي تعمل بالتحكم الذاتي أن تستخدم الغبار الموجود على سطح القمر لإنشاء مساكن قبل وصول رواد الفضاء.
مستعمرات على القمر
قبل بناء المستعمرات على القمر تطور الشركات الطابعات ثلاثية الأبعاد، التي تعمل في ظل انعدام الجاذبية، ويمكن تثبيتها في محطة الفضاء الدولية.
وكالة ناسا كانت قد أقرت أن التكنولوجيا لم تكن مدروسة جيداً وأن محطة الفضاء كانت صغيرة جداً آنذاك لدرجةٍ لا تسمح بالمخاطرة بذلك، مع أنَّها اختبرت الفكرة في أواخر التسعينيات من القرن العشرين. ومع ذلك، ففور توسيع محطة الفضاء، حدَّدت وكالة ناسا قطاع الولايات المتحدة على أنَّه مختبرٌ وطني، ودَعَت شركات دعاية ومؤسسات بحثية ووكالات حكومية إلى طرح مشروعات أبحاث تتعلق بالجاذبية الصغرى. اتجهت شركة Made In Space إلى مركز Marshall Space Flight Center في ولاية ألاباما لعرض الإمكانات التجارية للطابعة ثلاثية الأبعاد بالفضاء.
طابعات تعمل دون جاذبية
تكمن مشكلة الطابعات ثلاثية الأبعاد العادية في أنها مصممة للعمل في ظل الجاذبية. فبدون قوة الجذب الثابتة إلى أسفل، سيكون عليك تأمين كل حزام وترس وبكرة، لأنَّ أي حركةٍ غير مقصودة ولو لبضعة ملليمترات تؤدي إلى تخريب آلية الطباعة، ما يسفر عن طباعة خاطئة أو معيبة.
ولضمان أنَّ الطابعة ثلاثية الأبعاد ستعمل على متن محطة الفضاء الدولية، اصطحبت الطابعة على متن طائرة “مذنب القيء” التي تُعَد طائرة ركاب متحولة تتبع مسار عربة الملاهي، فتُعرِّض ما بها لعشرين ثانية من انعدام الجاذبية مع كل انزلاق. اصطحب الفريق القائم على تجريب الجهاز الطابعة في 10 رحلات طيران كهذه، واستغرقت كل واحدة منها نحو ساعتين، راقبوا فيهما أداء الطابعة ثلاثية الأبعاد.
اضطر الفريق إلى تشغيل كل جزء من التجربة آلياً، فالمزيج بين الحبوب القوية المضادة للغثيان والشعور الجديد بالطفو جعل اتخاذ القرارات أمراً مستحيلاً في الواقع. كانت تطرأ التعديلات على الطابعة عقب كل رحلة، حتى توصَّلوا إلى حلٍّ في الرحلة العاشرة.
ثُبتت الطابعة بمحطة الفضاء الدولية، في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2014. وكان أول ما طبعته هو جزء من الطابعة: غطاء إلكترونيات بلاستيكي في حجم بطاقات اللعب تقريباً، يحمل جملة Made In Space بارزة. وبعد مرور شهر، تمكنت من طباعة مفتاح عزم الدوران المفقود، الذي أكَّد لرائد الفضاء باري ويلمور إمكانات الطابعة الجديدة.
وتفكر الشركة كذلك في مجال التوريد عبر صناعة مواد مُدعَمة في الفضاء، وهي المواد التي لا يمكن تصنيعها إلا في ظروف منخفضة الجاذبية، لكنَّها مطلوبة في كوكب الأرض. وأولى المواد التي صُنعت بهذه الطريقة هي ZBLAN التي تُعَد نوعاً من الألياف البصرية ذات جودةٍ هيكلية أعلى من أية ألياف يمكن تصنيعها على الأرض. وتُصنع الألياف البصرية التي تُعَد الأوعية الدموية للإنترنت عبر صهر قضبان زجاجية وسحبها حتى تصبح أدق من شعرة الإنسان. وعند إتمام هذه المرحلة على كوكب الأرض، فإن الكثافات المختلفة للمواد تعني أنه بإمكان الألياف أن تتبلور مع وجود شوائب صغيرة.
هناك كثير من الطلب على ZBLAN من شركات الاتصالات التي تسعى باستماتة لتقديم نطاق ترددي أعلى لعملائها التواقين لإنترنت أفضل. وفي هذا الصدد، علَّق دون قائلاً: “تشتري الصناعات أليافاً بصرية أجنبية بأسعار باهظة، بينما يمكنك تعديل المواد الخام الشاردة في الفضاء، وتصنيعها، ثم إحضارها مرة أخرى إلى الأرض، ويظل لديك عمل ناجح”.
وينصب الهدف الأسمى للشركات صانعة طابعات تعمل دون جاذبية يتمثل في المساعدة على بناء مستعمرات في الفضاء بحجم مدن. إذ يرون أن الأمر لا يتعلق بمغادرة الأرض، بل التوسع (خارجها) وإنقاذها.