في البحث عن الحقيقة الكردية (الحلقة العاشرة)
دائماً تكون للمدنيات المتشكلة عبر التاريخ أرضيات كانت قد اعتمدت عليها حتى تتكون وتصبح قوة وتفرض سلطاتها على المجتمع، وبدون هذه الأرضية لا يمكن بالأساس التفكير بوجود أية مدنية ولا يمكن أيضاً الفصل بينهما. وهذا ما نعيشه في راهننا. إذ، كل مدنية تعتبر نفسها هي الأولى وهي الأساس في بداية التاريخ أو حتى نهايته. هذه الثقافة التي نشرتها الليبرالية “الأنانية” هي السائدة عند كل الأمم والدول المتشكلة بعد المدنية الإغريقية وحتى وقتنا الحاضر.
كل دولة أو أمة اعتبرت وتعبر نفسها وكأن التاريخ قد بدأ منها وأنه لولاها لما كان هناك تاريخ بالأصل ولم ولن يكون هناك تطور تستفيد منه الانسانية. كيف يمكننا التخلص من هذه المواقف التي جرَّت على المجتمعات الكثير من المنغصات الوجودية حتى بات وجودها بحد ذاته عرضة للزوال؟
حيث أنه لا يمكن أن تكون هناك مدنية بدأ منها التاريخ من دون عوامل ساعدت على نشوء وتكون هذه المدنية. فهل يمكن إنكار وجود آلاف القرى والقبائل التي تعيش البراري التي بدأ منها التفكير الأول للتحول للمدنية؟ إذا افترضنا جدلاً أنَّ المدينة هي الأساس ومنها انطلق كل شيء، حينها بماذا يمكننا تعريف آلاف القرى المنتشرة على أطارف هذه المدن؟ وحتى المدنيات الكبيرة أيضاً بمقدورنا القياس بها على هذا النحو. هل يمكننا القول أنَّ المدنية المصرية القديمة “الفرعونية” أو اليونانية أو الصينية هي الأساس أم أنها مكملة لمرحلة كانت متواجدة قبلها بآلاف السنين. وكلنا يدرك أنَّ هذه المدنيات لا تتجاوز أعمارها الخمسة آلاف سنة أو سبعة آلاف سنة على أبعد تقدير، وكذلك المدنية السومرية أيضاً. لا بدَّ أنه كانت هناك مرحلة عاشها الانسان لمدة تزيد عن عشرات الآلاف من السنين حتى توصَّل تفكيره في بناء المدن الكبيرة والمعابد التي ما زالت شامخة حتى الوقت الحاضر. إذ يوضح أوجلان في مجلده الخامس “مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”، هذه القضية بشكل جيد ويقول: “من غيرِ الممكنِ التفكيرُ بالمدنيةِ السومريةِ التي يُقَدَّرُ أنها بدأَت أعوامَ 3000 ق.م، وكذلك بالمدنياتِ المصريةِ والهنديةِ والصينية، بشكلٍ منقطعٍ عن جذورِها الكائنةِ في الهلالِ الخصيب. وما لا جدالَ فيه البتة، هو أنّ ثقافةَ الهلالِ الخصيبِ أدت دورَ المنبعِ العين، ليس من ناحيةِ نشوءِ المدنياتِ والحضاراتِ الرئيسيةِ فحسب، بل ومن ناحيةِ تأمينِ سيرورتِها مدى ألافِ السنين أيضاً. فكما هو معلوم، لا يُمكنُ لثقافاتِ الحضاراتِ والمدنياتِ أنْ تتنامى، إلا في الأوساطِ المعطاءِ للثقافةِ النيوليتية؛ نظراً لافتقارِها إلى القدرةِ على البدءِ من نقطةِ الصفرِ في الإنشاءِ بمفردِها. في حين أنّ نيوليتيةَ ميزوبوتاميا في الهلالِ الخصيبِ تكادُ تَكُونُ مهداَ حضارةِ العصورِ الوسطى بمفردِها (3000 ق.م – 500 م). والحضارةُ الميزوبوتاميةُ المركزِ قد أدت دورَ المِحورِ للحضاراتِ والمدنياتِ العالميةِ الرئيسيةِ بدءاً من 3000 ق.م حتى 300 ق.م. وإذا ما قارنّاها بالهيمنةِ الأمريكيةِ التي لَم تَبلغْ بَعدُ قرناً من الزمن، فسنَعي الفارقَ الشاسعَ بينهما على نحوٍ أفضل”.
المرحلة النيولوتية تُعتبر الأساس أو الخطوة الأولى والممتدة آلاف السنين لتكوّن المدنيات عبر التاريخ وفي مختلف جغرافية المنطقة. وكل المدنيات اعتمدت في تكونها ثقافة المرحلة النيولوتية الغنية بكل علومها وميثيولوجياتها الفكرية البدئية لظهور الأديان فيما بعد وكذلك الفلسفة على أقل تقدير. والسبب الرئيس الذي يمكننا معرفته في التناقض الذي يعيشه الكرد في عدم تقبلهم السريع في عيش المدنيات نابع بالأصل من هذه الثقافة المتأصلة بهم وهي الثقافة النيولوتية المعتمدة على الطبيعة الأولى لتطور البشرية.
لا يمكننا تحديد أسماء الدول والمدنيات بشعوبها التي تعيش الآن وهذا التقرب يُبعدنا عن الحقيقة المجتمعية للمنطقة المتشكلة عبر آلاف السنين ومن الكثير من الثقافات المختلفة لشعوب مختلفة. كأن نُعرّف القوة الأمريكية في راهننا بالمهاجرين البريطانيين فقط أو الاسبانيين. إذا، أن القوة التي صنعتها امريكا عائدة بالأساس إلى مجموع الثقافات التي احتضنتها طول فترة تكوّنها وتشكلها. وكذلك المدنيات عبر التاريخ لا يمكن تعريفها منفصلة عن بعضها البعض البتة.
نظام المدنية الذي ولَّد معه المركزية يُعتبر مرحلة ما بعد العيش لفترة طويلة من الزمن في نظام فيدرالي قبائلي أو كوموني مكون من تجمعات متوافقة مع بعضها البعض على أساس الذهنية المشتركة والتي هي الأساس في العيش المشترك. إذ يوضح أوجلان في مجلده الخامس “مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”، هذه القضية بشكل جيد ويقول: “هذا الدورُ التاريخيُّ للنيوليتيةِ الكرديةِ مهم. فعيشُ نظامِ المدنيةِ المركزيةِ (وعمرُه خمسة آلاف عام) ضارباً بجذورِه في ميزوبوتاميا، ومنضوياً تحت ريادتِها المحوريةِ مدى ثلاثة آلاف عام؛ إنما يُمَكِّنُ من إدراكِ أهميةِ الثقافةِ النيوليتيةِ بنحوٍ أفضل. ذلك أنّ تحديدَ الثقافاتِ والحضاراتِ بأسماءِ الشعوبِ قد يَكُونُ أمراً مبالَغاً فيه، وبالتالي، قد لا يَكُونُ أسلوباً صائباً. ولكن، من الصوابِ الحديثُ عن دورِهم في المراحلِ البدئيةِ بأقلِّ تقدير. بينما تعرفُنا على التاريخِ بمعرفةِ بعضِ الإمبراطورياتِ والسلالاتِ الشهيرةِ فقط، لن يَكفيَ للتعبيرِ عن الحقيقة. كما وتعريفُه ببعضِ الأقوامِ المشهورةِ أيضاً تناوُلٌ بليغُ النقصان. أما تعريفُ بعضِ عناصرِ الحداثةِ المألوفةِ بكونِها القوةَ الحاملةَ للتاريخ، فيعني أفظعَ تحريفٍ في التاريخ. من هنا، فلدى تخطّي هذه الأرضياتِ التاريخيةَ التي لا تَعقدُ الروابطَ بين الانفراديِّ والكونيّ، والمتبقيةَ بالأغلبِ من الهيمناتِ الأيديولوجية؛ نَكُونُ حينئذٍ في مواجهةِ تاريخٍ اجتماعيٍّ إنسانيٍّ أكثر صواباً. ولا نستطيعَ إنشاءَ تاريخِ الشعوبِ والكادحين المتروكين بلا تاريخ، إلا بهذا الأسلوب”.