في البحث عن الحقيقة الكردية (الحلقة الثامنة)
لكن حينما يكون الحديث عن الكُرد لا يمكننا قول هذا الشيء عنهم. إذ، أنهم لم يأتوا إلى الجغرافيا التي يقطنوها من منطقة أخرى وهم ليسوا مهاجرين، بل هم من حقيقة المنطقة التي يعيشونها منذ بداية التاريخ. وأنهم كانوا مجاورون للسومريين شمالاً وغرباً. حتى أن السومريين أطلقوا عليهم “كوتيين” وهي تعني شعب الجبال أو الجبليين في اللغة السومرية. وهذه ميزة وصفة ملازمة للكرد منذ آلاف السنين وحتى راهننا.
حيث لا يمكن للكرد أن يعيشوا بعيداً عن الجبال التي احتضنتهم عبر التاريخ وحمتهم من الهجمات الخارجالكرد ليسوا مجرد شعب هاجر من مناطق مختلفة واستقر في الجغرافيا التي يقطنها حاليا كما بعض الشعوب الأخرى. فالعرب معروفون أنهم هاجروا من شبه الجزيرة العربية نحو المناطق الشمالية بحثاً عن الكلأ والملأ واستقروا فيها منذ آلاف السنين وكذلك الأتراك استقروا في جغرافيتهم بعدما أتوا من منغوليا واعتنقوا الاسلام شكلاً كي يأخذوا مكاناً لهم ضمن شعوب المنطقة في مرحلة الخلافة العباسية. وهناك الكثير من الشعوب على هذه الشاكلة إن كانوا رومان أو يونانيين من الذين استقروا هذه الجغرافيا.
لكن حينما يتم كتابة التاريخ من قِبل المنتصرون تبدأ عملية التحريف الممنهج للشعوب والمجتمعات، لفرض ثقافتها عليها واعتباره نصراً مؤزراً وعليه يتم إلغاء الآخر وكأنه لم يكن موجود يوماً ما. وعبر التاريخ كانت هذه الثقافة هي المسيطرة وكل منتصر يبدأ التاريخ من ذاته والآخر عبارة عن ماضي يجب نسيانه وعدم التحدث فيه. بهذه العقلية تم كتابة التاريخ من قِبل حاشية الملوك والسلاطين بشكل تحريفي مقيت. لكن حينما يتم تناول القضية الكردية فنرى معظم المؤرخين يتجاهلون حقيقة وجود هذا الشعب على أرضه منذ آلاف السنين.
فتارة يُقال أنهم أبناء الجن أو أنهم عرب أو أتراك أو أن تاريخهم غير معروف. بهذه التقربات السطحية يتم القضاء على تاريخ شعب يمتلك من ثقافة موغلة في القِدم تفوق عن الكثير من الشعوب المجاورة. إذ يوضح أوجلان في مجلده الخامس “مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”، هذه القضية بشكل جيد ويقول: “نصادفُ مِراراً النماذجَ البدئيةَ من أسلافِ الكردِ في علاقاتِ مجتمعِ المدنيةِ السومريةِ مع محيطِهم، ابتداءاً من التاريخِ المكتوب. ونظراً لكونِهم يُشَكِّلون المنبعَ العينَ الذي يستقي منه السومريون، فقد كان السومريون يَصفون شعبَ المناطقِ الجبليةِ في الشمالِ والشرقِ منهم باسمِ الكورتيين، والذي لا يزال يفيدُ بنفسِ المعنى؛ ويُطلِقون تسميةَ العموريين على شعبِ القبائلِ التي تقطنُ إلى الغربِ منهم عموماً. فالمعنى اللفظيُّ لكلمةِ كورتي تعني “الشعب الجبليّ”. ولدى ذِكرِ الكرديّ في يومِنا الراهنِ أيضاً يجري استذكارُ صفةِ “الجبليّ” كخاصيةٍ أساسية. في حقيقةِ الأمر، يَلوحُ فيما يَلوحُ أنّ الفارقَ بين كورتيّي Kurti العهدِ السومريِّ وكورتيّي Kürti راهننا، هو فرقٌ ربما يعادلُ النقطتَين اللتَين على حرفِ “u”، لا غير . فالكردُ الذين يعيشون الثقافةَ القَبَلِيّةَ طيلة آلافِ السنين، لا يزالون الكُردَ القَبَلِيّين الذين تطغى نسبتُهم ضمن عمومِ الشعبِ الكرديّ. ربما يضمّون بين أحشائِهم عدداً وفيراً من أبناءِ المدنِ والسهول، وممَّن شَهِدوا التمايزَ الطبقيّ، والمتواطئين مع الدولةِ ومناهضيها أيضاً”.
لا بدَّ من التقرب العلمي من عملية البحث في المجتمعات والشعوب والابتعاد عن التقربات الدوغمائية والبراغماتية التي لا ولن تفضي إلى نتائج ايجابية، بل على العكس سندور حينها في دائرة فرغة وندق الماء كي نحصل على محلول آخر. التقرب من التاريخ على أنه تطور بشكل حلزوني أو مستقيم أدخل معظم علماء التاريخ في دوامة التكرار وعدم التوصل إلى النتيجة المتوخاة. حيث أن عدم إدراك الرابط بين قوانين الديالكتيك وأهمها الزمان والمكان بشكل جيد لا يمكننا التوصل إلى حقيقة الأمور مهما بلغت النظريات من تقربها لقضية ما. لأنه لا يمكن التحدث عن الزمان والمكان إلا بعملية إثبات الوجود والنشوء لمجتمع ما.
لطالما تم تناول الفلسفة بشكلها الميتافيزيقي الدوغمائي في أصل الوجود للشعوب وهذا يظهر بكل وضوح من خلال الفلسفة والأديان، وربط الوجود بهما مع العلم أن الوجود البشري هو أقدم من هذه العلوم بكثير. إن كانت الكتابة تم توثيقها على أنها بدأت قبل الميلاد بخمسة آلاف سنة وبدأت من اللغة المسمارية والهيروغليفية هذا يعني أننا أمام ثورة قام بها الانسان في الفكر والتطور الفكري حتى توصلوا إلى لغة تفاهم فيما بينهم. مع العلم أنَّ هذا الانسان أيضاً قبل اختراع الكتابة كان يرسم على جدران الكهوف وبعدها على الطين والأحجار وبعدها على أوراق البردي وهذه العملية استمرت لمئات الآلاف من السنين. حينها هل بمقدورنا أن نقول أن أصل وجود الانسان بدأ من السومريون الذين اكتشفوا الحروف والكتابة. أم أنه هناك تاريخ ممتد لآلاف السنين قبل ظهور الكتابة ولغة التفاهم بين الناس.
لذلك علينا توخي الحذر بكل دقة حينما يتم الحديث عن قضايا الشعوب لمعرفة ثقافتهم ووجودهم وخاصة إذا كان هذا الشعب هو الكرد. إذ يوضح أوجلان في مجلده الخامس “مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”، هذه القضية بشكل جيد ويقول: “هذه المسألةُ الأقدمُ عُمراً في الفلسفةِ والأديان، بل وحتى في الميثولوجيا، حيث عجزوا عن استيعابِ العلاقةِ بين الزمانِ والمكان. ولم يتمكنوا من الإدراكِ أنّ العلاقةَ بين الوجودِ والزمانِ تتبدى في هيئةِ النشوءِ والتكوُّن، أي التغير. والعجزُ عن الإدراكِ يُقحمُ هذه العقلياتِ بما لا مفرَّ منه في أشكالِ التفكيرِ بالتقدمِ على خطٍّ مستقيمٍ أو بشكلٍ حلزونيّ. وأهمُّ تجديدٍ أتت به الفلسفةُ الدياليكتيكيةُ في هذا الخصوص، هو ذاك المعنيُّ بجوهرِ التطورِ الكونيّ. فالزمانُ والمكانُ غيرُ ممكنَين إلا بالوجودِ والنشوء. أي أنّ التغيرَ ثمرةٌ طبيعيةٌ لتواجدِ الوجودِ (المكان) والزمان. والتغيرُ شرطٌ لا بدَّ منه لأجلِ الوجودِ والزمان. وهو برهانٌ على تواجدِهما. من هنا، فتحليلُ مضمونِ مصطلحِ التغيرِ يتحلى بأهميةٍ أكبر. إذ ينبغي تواجدُ شيءٍ لا يتغير، من أجلِ إمكانيةِ حصولِ التغير. حينها يَكُونُ التغيرُ نسبةً إلى اللامتغير. واللامتغير هو ما يبقى دوماً كما هو. بمعنى آخر، فالذي لا يتغيرُ هو الوجودُ الأصل، الوجودُ ذاتاً، وهو الجوهرُ الباقي دوماً والذي ينبثقُ منه النشوء. قد يُقالُ أننا دَنَونا هنا من مصطلحٍ إلهيٍّ صوفيّ. لكنّ استنتاجاً كهذا ضرورةٌ اضطراريةٌ لا تتنافى مع العِلم. بَيْدَ أنّ القولَ بكونِ وعيِ الإنسانِ ذا كفاءةٍ تامّةٍ بشأنِ استيعابِ وإدراكِ النشوءِ والزمانِ والمكان، هو أمرٌ ميتافيزيقيّ. حيث أنّ قدرةَ الإنسانِ على فهمِ المطلقِ أمرٌ محفوفٌ بالشكِّ والظنّ”.