كشف تفاصيل أسرار منع بث وثائقي أنتجته الجزيرة حول اللوبي اليهودي في أمريكا
الفيلم الوثائقي الذي أنتجته قناة الجزيرة حول اللوبي الإسرائيلي في أمريكا ثم امتنعت عن بثّه يفضح احتمالات التجسس الإسرائيلي غير القانوني على مواطنين أمريكيين، كما يكشف خوف اللوبي من تغير الأجواء السياسية حياله.
ظهر الشاب على الشاشة بمظهر “الجنتلمان” المثالي. سحنته توحي بعفوية طالب جامعي، إلا أن طوني كلاينفيلد، البريطاني اليهودي، الكامل الأوصاف للوهلة الأولى، المُجاز من جامعة أوكسفورد المهيبة، المتحدث بست لغات منها الهولندي واليديش، والمتمرس بشؤون النزاعات في الشرق الأوسط، كان يمكنه بكل سهولة أن يجد عملاً في أحد مكاتب وزارة الخارجية في أي بلد غربي، أو في أي مركز للبحوث.
ولكن لديه مشاريع أخرى، كَأَنْ يتطوع في إحدى المنظمات الموالية لإسرائيل. ولقد تم توظيفه في “المشروع الإسرائيلي” وهي رابطة تُعنى بتلميع صورةإسرائيل في وسائل الإعلام. ولقد استُقبل بترحاب شديد، لما لديه من مؤهلات، وعاشر طوال خمسة أشهر نخبة المسؤولين من كافة الرابطات المنضوية تحت لواء الدفاع المطلق عن إسرائيل ولا سيما منها اللوبي الإسرائيلي الجبار في الولايات المتحدة الأمريكية (الأيباك). فلقد خالطهم في الحفلات الرسمية والمؤتمرات والمحاضرات والمنتديات ودورات التدريب للنشطاء، وارتبط بصداقات مع عدد منهم. ولقد اكتسب بفضل لباقته ودفء تعامله وفعاليته ثقة كل من حاورهم، فتحدثوا معه بصدر مفتوح، تاركين جانباً اللغة الرسمية الجامدة وما تُمليه عليهم التوجيهات. ويمكن اعتبار ما أباحوا به من حقائق بمثابة المواد المتفجرة.
كيف يتم التأثير على الكونغريس الأمريكي؟ “أعضاء الكونغريس لا يفعلون أي شيء إن لم يتم الضغط عليهم، والسبيل الوحيد لذلك هو المال”. كيف تتم محاربة المناضلين لصالح فلسطين في حرم الجامعات؟ “أكثر الأساليب فعالية مع من يعادي إسرائيل هو التحري عن أحوالهم الشخصية وبث أخبارهم على موقع إنترنت مجهول الهوية، وبعد ذلك تناقل أخبارهم هذه على صفحات الفيسبوك.”
ويتحدث هؤلاء الأشخاص بكل سذاجة مع طوني كونهم يتصورونه صديقاً أميناَ، ويعترفون بأنهم يقومون بالتجسس على مواطنين أمريكيين بمساعدة وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية، التي أنشئت عام 2006، ووضعت مباشرة تحت سلطة رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو. وتبوح إحدى المسؤولات فيها لطوني كلاينفيلد: “نحن حكومة تعمل على أرضٍ أجنبية، وعلينا أن نتحلى بأعلى درجات الحيطة والحذر.” وعليهم فعلاً التحلي بالحذر إذ أن بعض أعمالهم تقع تحت طائلة القوانين الأمريكية.
وفي نهاية فترة تدريب طوني في رابطة “المشروع الإسرائيلي” كان رئيسه إيريك غالاغير مسروراً للغاية من عمله لدرجة أنه عرض عليه وظيفة دائمة. “أمنيتي أن تأتي للعمل معي. فأنا أبحث عن شخص لديه روح العمل الجماعي، نشيط في عمله، شغوف بمهمته، محب للمعرفة، جيد التكوين، لبق الحديث، كثير المطالعة. وأنت تجمع بين كل هذه الصفات”. إلا ان طوني قابل هذا العرض بالرفض كما هو معلوم فهو ليس تماماً الشخص الذي يدعيه حتى لو كانت شهاداته ومؤهلاته غير قابلة للتشكيك: فهو “مُنْدس” من طرف قناة الجزيرة، بهدف إعداد فيلم وثائقي عن اللوبي الإسرائيلي. ولقد سجل عدداً من المحادثات بواسطة كاميرا خفية، وكان قد جمع، بالتعاون مع أعضاء آخرين من الفريق الذي يرأسه فيل ريس، داخل القسم المختص بالتحري والاستقصاء في القناة، كل المكونات المطلوبة لإنتاج تحقيق باهر. وما كان يزيد من الطابع المشوّق لهذا التحقيق ما سبقه من ريبورتاج بثته القناة عن اللوبي الإسرائيلي في المملكة المتحدة، كَشَف تمادي إسرائيل في التدخل بالشؤون الداخلية لبلد آخر بل ومحاولاتها إسقاط وزير بريطاني اعتبرته متعاطفاً مع الفلسطينيين، مما أدى وقتها الى اعتذار علني من السفير الإسرائيلي في لندن والى العودة السريعة لأحد الدبلوماسيين رفيعي المستوى الى تل أبيب.
شراء المشروع
وبالتالي كان من المتوقع أن نعيش حدثاً إعلامياً خطيراً، وإنكاراً ساخطاً، وسجالاً عنيفاً. إلا أن شيئاً من ذلك كله لم يحدث. فلقد تم تأجيل البث الذي كان منتظراً مطلع عام 2018 الى أجل غير مسمى، وذلك دون أي تعليل رسمي. وتبين من أخبار وردت في الصحافة اليهودية الأمريكية قبل أي مصدر آخر أن بث البرنامج لن يحدث إطلاقاً، الأمر الذي أكده فيما بعد كلايتون سويشر، مدير القسم المختص بالتحري والاستقصاء في القناة، وذلك في مقال أعرب فيه عن أسفه لتجميد الشريط. ثم أعلنت القناة أن سويشر سيكون في إجازة لمدة طويلة من عمله. هكذا تمت التضحية بالتحقيق في المعركة الطاحنة الدائرة بين قطر من ناحية والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة من ناحية أخرى، من أجل كسب ود واشنطن في النزاع الدائر بين الفريقين. وأي سبيل أفضل لبلوغ الهدف المنشود من خطب ودّ اللوبي الإسرائيلي الجبار المعروف بتأثيره على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط؟
ومن أجل ترجيح كفة الميزان قررت قطر تأجيل البث المبرمج، مقابل توقف الجناح الأيمن للوبي الصهيوني عن التحريض على قطر داخل الإدارة الأمريكية. ولقد قام مورتون كلاين رئيس المنظمة الصهيونية الأمريكية، والمقرب من ستيف بانون، المستشار السابق للرئيس دونالد ترامب بزيارة الدوحة وتفاخَرَ بالحؤول دون بث الفيلم الوثائقي. هؤلاء الذين كانوا منذ زمن ليس بالبعيد يتهمون قطر بتمويل حركة حماس والإرهاب وافقوا على تغيير موقفهم مقابل تجميد التحقيق مما يدل على مدى الإحراج الذي ينطوي عليه الفيلم الوثائقي بما تضمنه من اعترافات.
ولقد أدى دفن هذا العمل الذي دام أكثر من سنة كاملة الى تململ داخل قناة الجزيرة ولّد الرغبة لدى البعض بعدم ترك هذه الحقائق تضيع في الرمال المتحركة للتسويات الجيوسياسية. هكذا أتيحت لنا الفرصة، بفضل أحد الأصدقاء المقيمين في الخليج، لمشاهدة الحلقات الأربع ومدة كل منها خمسون دقيقة، في شكلها شبه المُنجَز.
والمدهش في هذه الحلقات التي رأيناها هي حالة التوتر السائدة في أوساط اللوبي منذ بضع سنوات، حالة الخوف الدفين من فقدان اللوبي لنفوذه. كيف يمكن تفسير ذلك في حين كانت المساندة لإسرائيل مكثفة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي حين نرى نواب كل من الحزبين الديمقراطي والجمهوري يؤيدون أي مغامرة يمكن أن تقوم بها إسرائيل. أَوَلَم يجعل انتخاب دونالد ترامب العاصمة الأمريكية تتخلى عن أي محاولة للعب دور الوسيط في النزاع الإسرائيلي العربي بل ولا تتورع عن الاصطفاف بكل بساطة الى جانب الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل؟ ولكن بالرغم من هذا المشهد الملائم في الظاهر، إلا أن ثمة هاجس يطارد اللوبي تحت شعار “بي دي إس” الذي يحمل الأحرف الأولى باللغة الإنكليزية للكلمات الثلاث التالية: مقاطعة، سحب الاستثمارات، عقوبات.
هذا التحرك انطلق عام 2005 وأخد بتطبيق المنهج نفسه الذي أثبت فعاليته ضد نظام الفصل العنصري في أفريقيا الجنوبية على إسرائيل. ولقد ازدهر هذا التحرك في الجامعات الأمريكية ولكن هل يتوجب فعلاً التخوف من ذلك، يسأل ديفيد بروغ، مدير الشؤون الاستراتيجية في رابطة “مسيحيون متوحدون من أجل إسرائيل”، ومدير “الماكابي تاسك فورس” فيقول لنا: “إسرائيل هي النموذج الأمثل للدولة الشبيهة بالشركة الناشئة الواعدة، فهي تستقبل من الاستثمارات الأجنبية أكثر من أي وقت مضى في تاريخها. إذاً لماذا لا نهدأ وندرك أن حملة المقاطعة لا تعني أي شيء ونتجاهلها؟” ويؤكد ديفيد بروغ بإصرار: “لا أعتقد أن هدف حملة المقاطعة كان في أي يوم من الأيام حمل الجامعات على سحب استثماراتها من إسرائيل. لو ركزنا على الجانب المالي لشعرنا بالارتياح، ولكن لو أدركنا مدى الجهود المبذولة لإبعادنا، نحن محبّي إسرائيل، عن الأجيال الصاعدة، لتعين علينا عندئذٍ أن نقلق. فوضعنا سيّء في صفوف الشباب المولودين منذ عام 2000 وطلاب الجامعات. بل ولقد صلنا الى حدٍّ أصبحت معه الغالبية تميل الى الفلسطينيين أكثر منها الى الإسرائيليين.” أما جاكوب بين، المدير التنفيذي ل“ائتلاف إسرائيل في حرم الجامعات”، وهو تجمع لمنظمات توظف أكثر من مائة شخص يعملون على التصدي لحملة المقاطعة في الجامعات، فيعبر من ناحيته عن قلقه:“القاسم المشترك الوحيد بين أعضاء الكونغرس والرؤساء والسفراء بالذات أنهم قد أمضوا جميعاً فترة من حياتهم في الجامعات وتلقوا فيها تكوينهم”. بمعنى آخر هل سيظلون غداً أصدقاء لإسرائيل؟
المشكلة الكبرى
ثمة عامل آخر يثير قلق اللوبي. فلطالما كانت مساندة 1ذل في الماضي تعلو فوق الخلافات ما بين الديمقراطيين والجمهوريين. أَوَلَم يُقرّ أوباما نفسه وقبل انتهاء ولايته بأشهر قلائل مساعدة غير مشروطة لإسرائيل قدرها 38 مليار دولار لمدة عشر سنوات بالرغم من علاقاته المتردية للغاية مع بنيامين نتانياهو؟ إلا أن المشهد السياسي بات اليوم يشهد تغييراً وباتت قاعدة الولاء المطلق لإسرائيل تقتصر أكثر فأكثر على الحزب الجمهوري واليمين الإنجيلي.
هذا ما يعترف به ديفيد هازوني المدير الأسبق لمجلة “ذي تاور ماغازين” والعضو المؤثر في رابطة ائتلاف إسرائيل في الفيلم الوثائقي:“إن المقاطعة الحالية لإسرائيل ليست المشكلة. المشكلة الكبرى هي الحزب الديمقراطي، أي أنصار بيرني ساندرز، كل هؤلاء الناس المعادين لإسرائيل الذين يستقطبهم في الحزب الديمقراطي. ولن يظل الولاء لإسرائيل مسألة يتوافق بشأنها الحزبان، وهذا معناه أن كل تغيير في رئاسة الجمهورية سوف يؤدي الى احتمال حصول تغيير في السياسة المتبعة حيال اسرائيل. وهذا خطر على إسرائيل، هذا هو الرهان الحقيقي في المعركة” وهو الأمر الذي يؤكده بدوره جون ميرشهايمر، مؤلف كتاب مشهور حول اللوبي، فهو يسجل أن “مساندة إسرائيل تتزايد في الحزب الجمهوري في حين أنها تتقلص في الحزب الديمقراطي.”ثمة فرق جوهري بين الحزبين “.
كيف السبيل إذاً لعودة المياه الى مجاريها بنظر هؤلاء؟ عبر مناظرات سياسية؟ احتمال صعب، حيث أن الطاقم الحاكم في إسرائيل منذ اتفاق أوسلو عام 1993 هو من أحزاب اليمين المتطرف الرافض لأي حل دبلوماسي، فمناقشة مصير الفلسطينيين ومستقبل المستعمرات ومأساة غزة غير وارد أساساً كما أن ولاء اللوبي ل بنيامين نتانياهو ودونالد ترامب ليس بالأمر المثير للحماس لدى الشباب من الطلاب الأمريكيين. ويلفت الصحفي ماكس بلومانتال الانتباه الى أن تكتيك الصمت هذا يتبعه اللوبي برفضه النقاش بخصوص فيلم الجزيرة الوثائقي: أي الاكتفاء بوصف صحافة التحري بالجاسوسية والنيل من سمعة القناة بوصفها تابعة لمن يملكها: دولة قطر، والتأكيد على أن الموضوع إنما هو تهجّم على “لوبي الطائفة اليهودية” وليس على لوبي مساندة إسرائيل. وبذلك يتفادى النقاش حول ما يكشفه الفيلم من حقائق حول السياسة الإسرائيلية.
ويلخص نووا بولاك، المدير التنفيذي للجنة الطواريء من أجل إسرائيل هذه الأمور بعرضه للحل المقترح في مواجهة الانتقادات:“إذا ما أردتم النيل من الرسالة فعليكم النيل من الرسول. عندما تتطرقون الى حملة مقاطعة إسرائيل المسماة”بي دي إس” عليكم أن تقولوا إنها مجموعة تدعو الى الحقد والبغضاء ومعاداة السامية والعنف ضد المدنيين بمعنى آخر إنها تساند الإرهاب. أما منظمة “أصوات يهودية من أجل السلام” فيفضل تسميتها “أصوات موالية لحركة حماس” ومع ذلك فهو يعلن تفاؤله، فكما يشرح لنا طوني، تبقى غالبية الشعب الأمريكي ميالة لإسرائيل، ويرى المتحدث أن الوضع مختلف في “المملكة المتحدة حيث المسألة مجرد كراهية لإسرائيل. لقد تركتم نصف أولئك الباكستانيين الحقيرين (يتلفظ هنا بكلمة نابية) يستقرون في بلادكم.”
وفِي عملية النيل من سمعة من يحمل الرسالة، فلا بد من جمع المعلومات المختلفة حوله، بدءاً بحياته الشخصية ومروراً بانتماءاته السياسية وانتهاءً بنشاطاته المهنية. ولقد أنشأ اللوبي جهاز تجسس في السنوات الأخيرة. يتباهى جاكوب باين المدير التنفيذي للتجمع من أجل إسرائيل في الجامعات، بما يقوم به هذا الجهاز قائلاً: “عملياتنا في التقصي ترتكز الى تقنيات عالية. عندما بدأت العمل منذ سنوات كانت ميزانيتنا تُقدر ببضع آلاف الدولارات، ولقد بلغت الْيَوْمَ مليون ونصف بل وربما مليونين. لست متأكداً من الرقم ولكن لا شك أنها جسيمة”. إلا أنهم حريصون على التكتم. “نقوم بالعمليات على نحو مضمون دون الكشف عن الهوية، فهذا مفتاح النجاح”.
“إن كنت عنصرياً فلا بد أن يعلم بك الجميع”
ومن ضمن المجموعات الأكثر خطورة بنظر المتعاطفين مع فلسطين هي “كناري ميشين” أي بعثة كناري التي يبقى تمويلها وأعضاؤها وطرق عملها سراً كاملاً. وتشرح لنا إحدى الصحفيات المقربات من اللوبي دورها: “إن من يكره هذه المنظمة، أو يكون من ضمن النشطاء المستهدفين، يقول إن لديها قائمة سوداء. إذ أن لديها أسماء طلاب وأساتذة جامعات ومنظمات لهم صلة بالإرهاب، صلة مباشرة أو أنهم دعوا لتدمير الدولة اليهودية”. وموقع المنظمة نفسه يشرح دوره على النحو التالي:“احذروا من راديكاليي الْيَوْمَ فقد يصبحوا بين موظفيكم غداً”، وفوق كل سيرة ذاتية لشخصية مستهدفة تجد العبارة التالية:“إن كنتَ عنصرياً فلا بد أن يعلم الجميع بأمرك”.
ولقد نجح طوني بالتوصل الى معرفة من هو المؤسس والممول لهذه المنظمة، في شخص آدم ميلستاين، رئيس المجلس الأمريكي من أجل إسرائيل المحكوم عليه بتهمة التهرب الضريبي عام 2009 الأمر الذي لم يمنعه من الاستمرار بنشاطاته من داخل زنزانته في السجن. ولقد شرح فلسفته لطوني:“علينا أولاً أن نجري تحقيقات بشأنهم (أي النشطاء المتعاطفين مع فلسطين) فما هو مشروعهم؟ هو التهجم على أتباع الطائفة اليهودية لأن ذلك سهل ويحظى بشعبية. وعلينا أن نكشف لعبتهم، أي كونهم عنصريين، معادين للديمقراطية. علينا أن نضعهم في حالة استنفار”. ويضيف:“هـؤلاء ليسوا معادين للسامية فقط (أي للطائفة كطائفة) هؤلاء أعداء الحريات، أعداء المسيحية، أعداء الديمقراطية”.
ولقد شهد العديد من الطلاب على المخاطر المحدقة بهم. سمر عوّاد ساهمت في حملة لمناصرة حقوق الفلسطينيين في نوكسفيل تينيسي وتحكي كيف تمت مطاردتها على تويتر وكيف وضعوا على الانترنت معلومات خاصة بها تعود الى عشر سنوات خلت: “وما زالوا يُنقِّبون وينقبون. ولقد اتصل أحدهم بصاحب المؤسسة التي أعمل بها وطلب فصلي من عملي، مهدداً إياه إن لم يفعل بالتشهير به على أنه معادٍ للسامية”. قد تُمثل أحياناً عمليات التشهير هذه قتلاً مهنيا،ً أو إن كانت الضحية من الطلاب صعوبةً في أي بحث عن عمل في نهاية الدراسة.. بعض المتهمين أرسلوا بالتالي رسائل ندم وتوبة نُشرت في باب مخصص لها مقابل شطب اسمهم من اللائحة السوداء، بمثابة “اعترافات” يشرحوا فيها كيف تمً التغرير بهم وهي تشبه تلك التي كان يتم انتزاعها في ظل الماكارثية في الولايات المتحدة الأمريكية في الخمسينات أو من قِبل الأنظمة الدكتاتورية الحالية. يرحب باين بالأمر قائلاً:“هذه حرب نفسية. جعلناهم في حالة هلع. فإما أن يكمّوا أفواههم أو يُمضوا وقتهم في البحث (عن التهم الموجهة إليهم) بدل مهاجمة إسرائيل. أمر فعال للغاية”. حتى لو أقر أحد المتحدثين الآخرين بشيءٍ من الأسف “بأن الذم والقدح بمعاداة السامية لم يعد له نفس الفعالية.”
ولولا الإمكانيات التي توفرها وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية لما كان بالإمكان شن الحروب الصليبية هذه المرتكزة الى جمع البيانات الشخصية عن المواطنين الأمريكيين، وتعترف مديرتها العامة، سيما فاكنين-جيل بهذا الأمر في إحدى محاضرات المجاس الإسرائيلي الأمريكي:“فيما يتعلق بجمع المعلومات وتحليلها والعمل بشأن المنظمات المناضلة وتقفي أثر التمويل فهذه مهمة لا يستطيع القيام بها على أكمل وجه سوى بلد مُزود بالإمكانيات”. وتضيف:“قرار الحكومة الإسرائيلية أن تكون لاعباً رئيسياً يعني الكثير، فبإمكاننا حشد مهارات غير متوفرة لدى المنظمات غير الحكومية في هذا المجال…نحن الطرف الوحيد في شبكة دعم إسرائيل القادر على سد الثغرات (…) فلدينا الميزانية والقدرة على توفير الكثير من الأمور”. ثم تقول بنبرة التهديد:“كل من لديه صلة بحملة مقاطعة إسرائيل عليه أن يفكر ملياً ويطرح على نفسه السؤال التالي مرتين: هل أختار هذا المعسكر أم المعسكر الآخر؟”
“أداة لزعزعة الاستقرار”
وتُقرّ سيما فاكنين-جيل:“لدينا منظمة”الإف دي دي“وغيرها ممن يعملون معنا في هذا المضمار. وال”إف دي دي“ترمز الى الأحرف الثلاث الأولى باللغة الانكليزية من تسمية”مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات“، وهو مركز أبحاث من المحافظين الجدد لعب في السنوات الأخيرة دوراً هاماً في التقريب بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل. ولقد شارك في الصيف الماضي في الحملة ضد قطر والجزيرة، متهماً القناة بأنها أداة لزعزعة الاستقرار الإقليمي. وينص القانون الأمريكي على ضرورة أن يُسجل الأفراد الأجانب والمنظمات الأجنبية أنفسهم لدى وزارة العدل. ولكن هل ستجرؤ الوزارة على جر”مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات” أمام المحاكم لأنها لم تتنبه لهذه المسألة؟
وكما يلاحظ علي أبو نعمة “لو حصل أن تسجل أحد كبار المسؤولين الروس أو الإيرانيين أو حتى الكنديين معترفاً بقيام بلده بعمليات سرية للتجسس على مواطنين أمريكيين واستخدم لهذا الغرض غطاء منظمة أمريكية لكان لذلك وقع قنبلة مدوية!”. إذ أن هذا النوع من التعاون لا يقتصر على مركز “الإف دي دي” وهو الأمر الذي يبوح به المتحدثون مع طوني، حتى لو تحفظوا قائلين إن الموضوع حساس ومن الأفضل عدم الخوض فيه مطولا.
كما يكشف الفيلم الوثائقي أسراراً أخرى كالطريقة التي يجري فيها الاضطلاع بكل معاملات ونفقات الصحفيين الأمريكيين في القدس من قبل منظمة “المشروع الإسرائيلي”، ومرافقتهم عن كثب في كل تحركاتهم بل وتزويدهم بالصور الجاهزة التي يكفي إرسالها الى الولايات المتحدة الأمريكية وكيف يتم تمويل إجازات فاخرة لأعضاء الكونغرس الأمريكي في إسرائيل وبالتحايل على القانون الأمريكي. وكذلك كيف يتم الضغط على وسائل الإعلام ووكالات الأنباء حتى تغير بياناتها الصحفية أو مقالاتها.
ومع أن الظروف ما زالت ملائمة جداً لإسرائيل إلا أن أنصارها الأمريكيين ورغم كل إمكانياتهم يبدون على درجة من التوتر. حيت يبدو لهم المستقبل شيئاً فشيئاً أقل إشراقاً وذلك حتى في الأوساط الأكثر تأييداً لهم وهذا ما تؤكده سيما فاكنين-جيل المديرة العامة لوزارة الشؤون الاستراتيجية في إسرائيل:“لقد خسرنا جيل اليهود المولودين بعد 2000. فأهلهم يأتون إليّ يشكون من تصرف أطفالهم خلال طقوس يوم السبت. كما أنهم لا يعترفون بدولة إسرائيل ولا ينظرون إلى هذا الكيان نظرة الإعجاب بتاتاً”.
قطر تقود حملة إعلامية مضادة
في 10 أبريل نيسان نشر موقع المنظمة الصهيونية الأمريكية1 بيانا يفيد بأن المنظمة ورئيسها مرتون كلاين “سعيدان وفخوران بإعلان نتيجة جهودهما المبذولة خلال الاجتماعات العديدة المطولة والمتعمقة التي عقدها السيد كلاين في الدوحة، قطر، مع كل من الأمير ومسؤولين رفيعي المستوى (…) فلقد وافقت قطر على عدم بث الفيلم الوثائقي المعادي للسامية بشكل مشين والذي أعدتهقناة الجزيرة بواسطة أحد المُنْدَسّين داخل ما سمي باللوبي اليهودي الأمريكي المزعوم” .
بعدها بأسبوع جاء رد قناة الجزيرة2: “يخطىء مورتون كلاين في وصفه موضوع المسلسل على أنه”اللوبي اليهودي الأمريكي“إذ أن التحقيق تناول المنظمات الأمريكية الموالية لإسرائيل (بمن فيها منظمة كلاين نفسه) التي تسعى الى الترويج لمصالح قوة أجنبية على الأراضي الأمريكية (…) ومن المدهش أن يتحدث السيد كلاين عن مسلسل وثائقي لم يشاهده بهذه العبارات اللاذعة المؤذية وغير الصحيحة” . وكانت قناة الجزيرة على حق في مسألة واحدة على الأقل: فلم ترِد إطلاقاً في الفيلم أية إشارة الى “لوبي يهودي”، حتى لو كانت هذه العبارة، التي استخدمها رئيس أسبق للمؤتمر اليهودي العالمي3 عبارة شائعة في أمريكا.إلا أن القناة التزمت الصمت حول قرارها عدم بث التحقيق.
وإذا ما أردنا فهم ما هو قيد الرهان في هذا الفيلم الوثائقي، فعلينا أن نعود الى الأزمة التي نشبت بين قطر وعددٍ من جيرانها4 ، بدءاً بالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بمساندة مصر . فلقد فرضت هذه الدول على دولة قطر حظراً، مطالبة إياها بقطع علاقاتها مع إيران، وتصفية قناة الجزيرةوإقفال القاعدة العسكرية التركية قيد الإنشاء وإنهاء علاقاتها مع “المنظمات الإرهابية”، ولا سيما الإخوان المسلمين وحزب الله.
صحيح أن سياسة قطر الخارجية منذ استلام الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، والد الأمير الحالي الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، عام 1995، كانت سياسة أقل ما يقال فيها إنها غير تقليدية، سياسة تطمح لانتهاج خط مستقل، ولا سيما حيال السعودية. تستقبل قطر إحدى القواعد الاستراتيجية الأمريكية في المنطق، وكانت لها حتى أحداث “الربيع العربي” علاقات ممتازة مع حزب الله والنظام السوري، قبل أن تنقلب الى مساندة الثوار. كما وأبقت على اتصالات وثيقة مع حماس ومنحت قطاع غزة مساعدة مالية. وكانت من البلدان العربية القليلة التي تستضيف بعثة تجارية إسرائيلية (تم إغلاقها في 2008- 2009 خلال الحرب على غزة). وأخيراً لا بد من القول إن قناة الجزيرة، رغم كل الانتقادات التي وجهت إليها بسبب طريقة تغطيتها للثورات العربية، ولا سيما الحرب في ليبيا- أو للأوضاع في تركيا وتساهلها مع نظام أردوغان، قد فتحت مجالاً غير مسبوق من النقاش في العالم العربي، أثار حفيظة غالبية الأنظمة الحاكمة.
خلال الأشهر التي تبعت الإنذار الختامي الذي أطلقته الدول المجاورة، بدت قطر وكأنها تترنح من قوة الضربة الموجهة لها. بل وجرى الحديث عن احتمال اجتياح سعودي للدولة الصغيرة5 . سيما وأن الرئيس دونالد ترامب الذي تربط صهره جارد كوشنر بالسعودية والإمارات روابط قوية، اتخذ موقفاً معادياً للدوحة.
الحملة الإعلامية في واشنطن
في مثل هذا السياق المتوتر قرر أمير قطر إطلاق حملة علاقات عامة6 باتجاه واشنطن ، حيث كان لخصميه السعودي والإماراتي أساساً شبكة من الموالين والعملاء، لا سيما بوجود”مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية“. فاشترت الدوحة خدمات العديد من وكالات العلاقات العامة في الولايات المتحدة الأمريكية بمبلغ 5 مليون دولار في أكتوبر 2017 وبعدها بأسابيع بمبلغ 20 مليون7 . ومن أهدافها: الوصول الى الأوساط المحافظة المقربة من ترامب، ولا سيما اللوبي الموالي لإسرائيل، والذي كان لا بد لها أن تحصل على موالاته.
وحصلت زيارات عدة الى قطر منها زيارة ألان ديرشوويتز، وهو أحد الجامعيين الموالين لإسرائيل وهو في الوقت نفسه عضو في الحزب الديمقراطي وصديق للرئيس ترامب، وكذلك محافظ ولاية أركانسا الأسبق، مايكل هاكابي، وهو من المحافظين ومن المسيحيين الصهاينة، وابنته ناطقة بلسان البيت الأبيض، وكذلك أحد العاملين في البرامج الإذاعية جون باتشلور، وكانت المحصلة تأكيد هؤلاء الزوار على أن الحملة سجلت فعلاً بعض النجاحات . هذا ما تجلى في موقف واشنطن التي اقترحت بعد حين أن تكون وسيطاً في الأزمة. وفي نيسان أبريل 2018، استقبل السيد ترامب أمير قطر الذي أعلن – كتعبير عن امتنانه – شراء أسلحةٍ أمريكية. بل وتبرع الأمير لعدة منظمات صهيونية8 منها “جنودنا يتكلمون”، التي ترتب زيارات لجنود إسرائيليين الى الولايات المتحدة الأمريكية .
إلا أن التقارب مع قطر يشق صفوف اللوبي الإسرائيلي ففي مقالٍ عنوانه “قطر: الإمارة التي تحتال على الجميع” يقول ييغال كارمون92018 ، مدير معهد البحوث في وسائل الإعلام الشرق أوسطية (ميدل إيست ريزورش إينسيتوت) وهو موقع يرصد الإعلام العربي ، ولا يتردد في تشويه محتوياته ، يقول “من المؤسف أن نرى مسؤولين يهود أمريكيين يرسخون الأفكار المسبقة المعادية للسامية بتدخلهم عن جهل في نزاعات لا تعنيهم، نزاعات بين أطراف عربية، معقدة ومستعصية على الفهم حتى بالنسبة لمن يتابعها عن كثب” .
كذلك أعرب جوناتان شانتزر من مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية في الصحيفة الإسرائيلية هآرتس، عن تذمره: “لا ضرر في أن يتوجه المحللون والمثقفون الى قطر للاستطلاع. المشكلة أنهم في هذه الزيارات لا يستمعون الى الرأي الآخر حول الموضوع. يستمعون الى موقف الحكومة ثم يعودون الى البلاد. عليهم بالأحرى أن يستمعوا كذلك ا الى الانتقادات الموجهة الى قطر. فثمة الكثير من الأمور التي يتعين عليهم أن يعرفوها حول روابط قطر مع حركة حماس والقاعدة وطالبان والإخوان المسلمين وأطراف أخرى مشبوهة.” وفي مقابلة مطولة مع طوني كلاينفلد في الفيلم الوثائقي، يأسف شانتزر أن تذهب سدىً في الرأي العام الأمريكي الجهود التي بذلها لجعل حركة مقاطعة إسرائيل (بي دي إس، أي الأحرف الأولى من الكلمات التالية: مقاطعة، سحب الاستثمارات، عقوبات) ترتبط بما يسمى بال“منظمات الإرهابية” (أولاً حركة حماس ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين).
.. ولكن ما هو الثمن الذي يدفعه الفلسطينيون لهذه السياسة الجديدة؟ يشير البعض الى إمكانية التعاون بين إسرائيل وقطر ل“إضفاء الاستقرار” على الأوضاع في غزة. ولكن الأمر مازال مجرد تكهنات..