المرأة الكردية من أين وإلى أين؟ ..نظام الرئاسة التشاركية (الحلقة ١٦)
أهمية وحدة الاختلاف في عالَم المعنى:
لا بد لنا من إدراك الذاكرة التاريخية للعديد من المصطلحات التي نستخدمها حالياً، خاصة وأننا نعيش في منطقة كانت مهد البشرية وشهدت بدايات الكثير من القيم الحضارية الجذرية. فما من شيء يتكون مصادفةً أو بنحو منفصل عن أواصره التاريخية. بالتالي، لا يمكننا تناول أي مجتمع منفصلاً عن الزمان والمكان اللذين مر ويمر بهما، ولا بالتغاضي عن أنواع الاختلاف التي يحتضنها. فكل مجموعة أثنية أو عقائدية أو ثقافية (وكل فرد حتى) تساهم في إغناء مجتمعاتها. وبذلك تتكون المعاني الفاضلة في تلك المجتمعات.
من أهم المصطلحات العريقة التي تبرز أمامنا كإرث ثمين في هذا السياق، هي الأخلاق والسياسة. فالأخلاق تشير إلى تكامل مشاعر العيش المشترك، وتخلق معها “الضمير الجمعي” في المجتمع. بينما السياسة تشير إلى كل ما هو معني بكيفية تمكين دينامية العيش المشترك وترجمة جمالياته إلى أرض الواقع. أي أنها “العقل الجمعي” للمجتمع. بالتالي، فلدى اتحاد هذين المصطلحين واندماجمهما بتناغم متكامل ومتوازن، نكون قد حصلنا على المجتمع الواعي والتشاركي، أي على المجتمع الأخلاقي والسياسي، الذي شهدته البشرية في بداياتها وعلى أرضنا الشرق أوسطية هذه طيلة عصور مديدة.
وحدة الاختلاف هي أساس العيش المشترك:
بالتالي، فإن وحدة الاختلاف تترك بصماتها على الزمان والمكان في عالم المعنى للحياة التشاركية. فالاختلاف يدل على الوعي الحر الخاص من جهة، ومؤشر على العيش المشترك السليم من جهة أخرى. بالتالي، ليست قليلةً أبداً مثل هذه النماذج المجتمعية في منطقتنا الشرق أوسطية. نستخدم عمداً مصطلح “العيش المشترك” وليس “المساواة”. ذلك أن المساواة مصطلح قانوني حديث وينادي بالتطابق الافتراضي، وقد يؤدي إلى القضاء على الاختلاف في حال عدم الانتباه إلى نقاط التوازن الحساسة والحرجة.
فالمجتمعات التي تطلعت دوماً إلى تكريس العيش المشترك، قد سعت دوماً للوصول إلى الأفضل والأجمل والأصح. ووضعت معايير ذلك وأسسه. وحددت آليات تطبيق تلك المعايير. فدافعت بالتالي عن ذاتها وعن بعضها بعضاً، وكرّست جدلية الحياة المستقرة المستدامة في عهدها.
الإدارة التشاركية في النظام الأمومي:
الباحثة النسوية المختصة بدراسة النظامين الأمومي والبطرياركي، الدكتورة هايدي غوتنر أبندروت، تتطرق في مختلف مؤلفاتها إلى المجتمعات الطبيعية التي شهدتها البشرية في فجر التاريخ، وتؤكد على أن السياسة حينها كانت تعبّر عن تداول المجموعات فيما بينها لمختلف شؤون الحياة، إلى أن تحقق التوافق بشأنها. وتشير إلى أن هذا هو جوهر السياسة الحقيقية. ذلك أن التوافق يعني البتَّ في القرارات بالإجماع الطوعي وعن قناعة ورضا. وأن هذا كان يتم عبر الوحدات الاجتماعية الصغيرة والمجالس، التي تعمل على تنظيم أمورها حسب الحاجة. وتقول في هذا الصدد: “تتكون البشرية من النساء والرجال. وقد اعتمدت كل المجتمعات الأمومية التقليدية هذه القاعدة أساساً، لتكرس بذلك نظاماً اجتماعياً مرتكزاً إلى توازن متكامل ونموذجي بين الجنسين”.
كما تؤكد الباحثة غوتنر أبندروت على أن هذه الأمور كانت تحصل بنحو تشاركي. أي بمشاركة النساء والرجال معاً ودون تمييز أو إقصاء. وتشير إلى أن المبعوثين أو الممثلين لمجموعاتهم (العشيرة أو القبيلة) خارج إطار تواجدهم، كانوا يتشكلون من الجنسين بالضرورة. وأن هذا لم يكن يقتصر على المشاكل “السياسية”، بل كان يتعداها ليشمل كافة ميادين الحياة من فنية واقتصادية ودينية وثقافية واجتماعية وغيرها.
الذهنية الذكورية: أهم عائق على درب الإدارة التشاركية:
لكن المجتمعات التي جُرِّدت من كل ذلك في راهننا، قد تحولت إلى بؤرة للمشاكل المتفاقمة، والتي بدأت تأخذ حالة سرطانية قاتلة. وهنا يطرح سؤال: كيف لنا العودة إلى “الأصل” البشري النبيل؟ وكيف لنا أن نستحدثه ونُكيِّفه مع عصرنا؟ هذا هو السؤال المصيري الذي ينبغي البحث عن إجابات جذرية وشاملة له لمعالجة أمراضنا السرطانية الراهنة.
لعل من أهم المصطلحات التي تبرز أمامنا في خانة العوائق الجدية التي تعترض طريق “الإدارة التشاركية”، هي مصطلحات الدولة، السلطة، والطبقة. وهي مصطلحات لم تعرفها المجتمعات البشرية في الماضي العريق. بل فُرضت عليها من فوق بالإرغام، وتم حقنها في العقول والأذهان، إلى أن حلت محل المصطلحات المقدسة التي كانت المجتمعات تؤمن بها وتسير عليها.
ولعل المنبع الأس لكل تلك المصطلحات هي الذهنية الذكورية المهيمنة، والتي لولاها لما عرفت البشرية كل المصطلحات المَرَضية الأخرى المتأسسة على حساب “الأنوثة الحرة والأصيلة”. فقد أسس الرجل الحاكم نظامه الذكوري السلطوي على حساب المجتمع الأمومي العادل والتشاركي، وسرق من الإلهة الأم كل إرثها لينسبه إلى ذاته بعد تزويره وإفراغه من معانيه الأصلية ومن مضامينه النبيلة. ومن حينها تأسست عبودية المرأة لتكون الأرضية الخصبة لاستعباد المجتمع بأكمله.
ومن حينها غابت مصطلحات “العيش المشترك” و”الإدارة التشاركية” و”الحياة التشاركية” من ذاكرة المجتمعات تدريجياً، بدءاً من العلاقة بين الجنسين (وخاصة الزوجين) وصولاً إلى كافة العلاقات الاجتماعية وعلى جميع الأصعدة وكافة مجالات الحياة؛ لتحل محلها علاقة “الحاكم-المحكوم” أو “السيد-العبد”. ومن حينها غاب التنوع وتلاشت التعددية من الحياة حصيلة سياسات التفرقة والتجزئة والوعيد والترهيب.
وها نحن اليوم نعيش في القرن الحادي والعشرين، الذي يقال بأنه قمة التطور العلمي والتكنولوجي. لكنه بالمقابل يشكل قمة “المذابح البشرية” عموماً وقمة استعباد المرأة خصوصاً، حتى في “أرقى البلدان” على حد تعبير حُكامها. وتأتي هذه النتيجة حصيلة ذهنية “الدولة القومية” التي تشكل قمة الذهنية الذكورية السلطوية، والتي تفصح عن مضمونها اللاإنساني من خلال شعاراتها الأساسية: “لغة واحدة، قوم واحد، تاريخ واحد، شعار واحد، علَم واحد”… وتطول لائحة “الأحادية” الرمادية الباهتة إلى مالانهاية.
نضالات البشرية ضد طراز “الإدارة الأحادية”:
ما من شك في أن المجتمعات واجهت هذه المصطلحات طيلة العصور. وأنها لم ترضخ لها طوعاً أو استسلاماً. بل ناضلت ضدها، وما تزال… فبدءاً من الكفاحات التي شهدتها أفريقيا وحتى أمريكا اللاتينية، وصولاً إلى منطقة الشرق الأوسط؛ جميعها كانت نضالات مهمة تجسدت أحياناً في حراكات جماهيرية واجتماعية حاشدة، وأحياناً أخرى في شخصيات طبعَت تاريخها ببصماتها. وجميعها تركت لنا إرثاً نضالياً ثميناً بكل إيجابياتها وسلبياتها. بالتالي، علينا ألا ننسى أن تلك النضالات تُعَبِّر في المحصلة عن تمرد المجتمعات على ميول تجريدها من ذاتانيتها الفاعلة، أي من هويتها ووجودها وكيانها. أي أنها في أحلك الظروف كانت تصبح شكل الصراع من أجل الحفاظ على الوجود.
لكنها رغم كل ذلك ظلت مفتقرة إلى الرؤية الجذرية الشاملة، وبالتالي إلى البرامج الاستراتيجية القادرة على أن تكون بديلاً جذرياً أو تطرح حلولاً شاملة متداخلة ومتكاملة. والأمر يسري أيضاً على المرأة، بل وبأضعاف مضاعفة.
السياسة في الحضارة الديمقراطية:
تعتمد الحضارة الديمقراطية على السياسة المجتمعية، وتتخذها أساساً. لأنها تَعتَبرها شأناً مجتمعياً بامتياز، وتميِّز بينها وبين “الحكم” الذي تلجأ إليه الدولة وتطبقه عموماً تحت اسم السياسة. ذلك أن السياسة هي النشاطات التي تترجم الميول نحو الحرية إلى أرض الواقع. بمعنى آخر، وعلى حد تعبير قائد الشعب الكردي “عبد الله أوجالان”، فإن “السياسة هي فنّ الحرية”. وهي تعود بهذا المضمون إلى أقدم المجتمعات والمجموعات البشرية. بالتالي، لطالما تلازمت مع الإبداع الخلاّق في حل المشاكل، من أبسطها إلى أكثرها تعقيداً حسب خصوصيات تلك العصور.
ومشاركة المرأة في إدارة شؤون الحياة (أي في السياسة المجتمعية الحقيقية) مرتبط عن كثب بطموح الحرية لديها. لذلك نجد أن المرأة في المجتمع الأمومي الطبيعي “سياسية” بامتياز. وربما هذا ما جعلها تتحول إلى إلهة معبودة لمئات الآلاف من السنين. فأياً يكن، فهي صاحبة الكدح الأعظم في كافة مجالات الحياة. ولها تعود الكثير من الاكتشافات والاختراعات البدئية، التي ما تزال البشرية تقتات منها وعليها حتى يومنا الراهن. والكدح بذات نفسه ما هو إلا تعبير عن التشبث بالحياة الحرة الكريمة وإثبات الحضور الفاعل فيها والتأثير في رسم مسارها. أي أنه مبدأ محوري في الحياة.
ويبدو أن ثورة روجافا الحالية تتبنى هذا الإرث الأمومي الأصيل في تأسيس هيكليتها التنظيمية وإدارة شؤون ثورتها النسائية بامتياز. ذلك أنه، وقبل حوالي ثمانية آلاف عام من الآن، أي في أعوام 6000 ق.م؛ شهدت منطقة “تل حلف” الثورة النسائية الأولى، التي تركت بصماتها على الذاكرة المجتمعية حتى يومنا الراهن، وخاصة في مجال الكدح الجمعي والإدارة التشاركية. واليوم، وعلى نفس الأراضي، نشهد ازدهار براعم “الثورة النسائية الثانية” الوليدة بريادة نسائية بامتياز.
نضال حركة حرية المرأة الكردستانية:
بعد كل الخطوات التي قامت بها حركة حرية المرأة الكردستانية قرابة نصف القرن، فقد توَّجت نضالاتها تلك في خطوة “الإدارة الذاتية” وطبعتها بطابعها، كثمرة ملموسة لمسار توعية المرأة وتعريفها بذاتها ونفض الغبار عن قدراتها ومهاراتها، لتؤدي دوراً فاعلاً، بل وريادياً في بناء مجتمعها ورسم مسار مستقبلها الواعد، كامرأة ضمن مجتمعها، وكمواطنة في بلدها: بدءاً من تشكيل “جيش المرأة” الذي كشف النقاب عن الوعي الذاتي والقدرات الذاتية لدى المرأة، وحتى الإعلان عن “أيديولوجية حرية المرأة” التي عبّرت عن الفكر الحر والتنظيم الذاتي الخاص، وصولاً إلى تأسيس “حزب المرأة” كترجمة عملية لكل ذلك، بالإضافة إلى كل الخطوات التي تخللت هذه المحطات الأساسية، وما رافقها من مصطلحات، الجديدة منها أو القديمة التي استردت معانيها الأصيلة.
تاريخ مصطلح “الرئاسة التشاركية”:
من هنا تأتي أهمية وضرورة ومعنى نظام “الرئاسة التشاركية” الذي طرحه القائد “عبد الله أوجالان”. وهو كمصطلح قد استُخدم لأول مرة في أمريكا اللاتينية. حيث كان سكان تلك البلاد يَعتَبرون “سيمون بوليفار” قائداً طبيعياً لهم، فكانوا ينادونه “الرئيس الثاني” أو “الرئيس التشاركي”. وهذا ليس لأنه كان رئيساً تشاركياً مع شخص آخر على كيان تنظيمي ما، بل احتراماً له ومحبةً فيه.
وفي عام 1980 اعتمد “حزب الخضر الألماني” مبدأ المناصفة، وحدد الكوتا بـ50% كبادرة غير مسبوقة، وعَدَّل نظامه الداخلي بموجبه. وهذا ما أثر في الأحزاب الأخرى، وأدى مع أواخر الثمانينيات إلى اعتماد عدة أحزاب أخرى هذه الكوتا. ثم كان لحزب الخضر الألماني شرف كونه أول مَن طبَّقَ مصطلح “الرئاسة التشاركية” بتعيين رئيسَين تشاركيين للحزب. وفيما عدا هذين المثالين، لا نجد أي مثال آخر لاستخدام أو تطبيق هذا المصطلح.
نظام الرئاسة التشاركية في كردستان:
وفي 20 أيلول 2004، طرح القائد عبد الله أوجالان مصطلح “نظام الرئاسة التشاركية” قائلاً: “إننى أرى نموذج الرئاسة التشاركية صحيحاً. وقد اعتمده حزب الخضر الألماني بتعيين رجل وامرأة لرئاسة الحزب. إن الحرمان من الديمقراطية الداخلية هي القضية الأساس التي تعاني منها كل الأحزاب في تركيا. فبدون تكريس الديمقراطية داخل الحزب، لا يمكن دمقرطة السياسة. ومن دون دمقرطة السياسة، لا يمكن دمقرطة المجتمع. وإذا لم تتم دمقرطة المجتمع، فلا يمكن دمقرطة الدولة. كل هذه الأمور مرتبطة ببعضها بعضاً”. ثم بدأ أوجالان بالتطرق إلى هذا النظام في جميع لقاءاته اللاحقة مع محاميه.
ولأول مرة تم تطبيق هذا النظام في عام 2004 في شمال كردستان بتركيا، حيث انتخَبَت “حركة المجتمع الديمقراطي DTH” رئيسين تشاركيين.
وفي عام 2005 انتخَبَ “حزب المجتمع الديمقراطي DTP” رئيسين تشاركيين للحزب، ليَكون بذلك أول حزب في تركيا يطبق نظام الرئاسة التشاركية.
أما في عام 2010، فقد طَبَّقَ “حزب الديمقراطية والسلام BDP” هذا النظام على مستوى الإدارات المحلية في كل المحافظات والمناطق الكردية. وفي الانتخابات المحلية التركية التي جرت عام 2013، دخل هذا الحزب الانتخاباتِ بلائحةٍ اعتمدت نظام الرئاسة التشاركية رسمياً. ثم شارك “حزب الشعوب الديمقراطي HDP” في الانتخابات المحلية في عموم تركيا عام 2015، لتشهد تركيا لأول مرة هذا النظام على أرض الواقع.
وأعقبَ ذلك انتهاج “المؤتمر القومي الكردستاني KNK” نفس النهج. أما بالنسبة لعموم حركة الحرية الكردستانية، فقد اعتمدت نظام الرئاسة التشاركية رسمياً في عام 2013، بانتخاب كل من جميل بايك وبسة هوزات رئيسين تشاركيين لـ”منظومة المجتمع الكردستاني KCK”. وقد عمَّ هذا النظام باقي أجزاء كردستان أيضاً، بدءاً من روجافا/شمال سوريا وحتى باشور/شمال العراق وروجهلات/كردستان إيران.
نظام الرئاسة التشاركية في روجافا:
ما تزال نشاطات بناء المجتمع الديمقراطي المتمحور حول حرية المرأة مستمرة على قدم وساق في روجافا/شمال سوريا. وتعتمد هذه النشاطات نظام الرئاسة التشاركية في كل ميادين الحياة السياسية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية والدفاع الذاتي وغيرها انطلاقاً من التنظيمات والكيانات والمنظمات والمؤسسات النسائية الخاصة المستقلة ذاتياً. ولهذا السبب يتم نعت هذه الثورة الوليدة في هذه البقعة الصغيرة على أنها ثورة نسائية حقيقية. إذ يسري مبدأ المناصفة والتمثيل المتساوي في كل المجالات وعلى جميع الأصعدة، ليتحول هذا النظام إلى هيكلية تعكس نظرية “الأمة الديمقراطية” النسائية بامتياز على أرض الواقع.
بمعنى آخر، فما يجري في روجافا هو تأسيس للحضارة الديمقراطية التي طالما شهدتها وعرفتها شعوب الشرق الأوسط منذ فجر التاريخ. وذلك بعد استحداثها، والاستفادة من هذا الإرث التاريخي العريق، وأقلمته مع متطلبات العصر، ولكن بوجهة نظر جديدة وبديلة تماماً.
لماذا نظام الرئاسة التشاركية؟
هكذا، فإن نظام الرئاسة التشاركية يشكل بديلاً مضاداً للإدارة الأحادية السائدة في المدنية الدولتية. فمن خلاله تم التعرف على طراز الإدارة التشاركية الملتفة حول حرية المرأة على هدى منظور الحضارة الديمقراطية. حيث يؤدي هذا النظام إلى إطراء التغييرات البنيوية كماً وكيفاً على النسيج والبنية الاجتماعية.
وبإمكاننا القول أنه تجسيد عملي للسياسة الديمقراطية، بتحويلها إلى كيان ملموس. ويُعَدّ أقصى ما وصلته المرأة الكردية من مكتسبات ومنجزات. فالنضالات التي خاضتها المرأة الكردية من أجل تطبيق نظام الكوتا (30% للمرأة، ثم 40% للجنسين) قد ارتقت بمستواها لتتجسد في نظام الرئاسة التشاركية، الذي يعتمد مبدأ المناصفة والتمثيل المتساوي في كافة المستويات والمجالات. أما آلية انعكاس هذا النظام على المجتمع، فتكون عبر الكومينات والمجالس الشعبية والبلديات والإدارات المحلية، التي تهتم مباشرة بكل تفاصيل الحياة وبشؤون المجتمع عموماً.
ونظام الرئاسة التشاركية لا يعني فقط المشاركة الجسدية للمرأة في ميدان السياسة. إذ ثمة الكثير من الناشطات السياسيات والمنخرطات في أجهزة الدولة والسلك السياسي في عموم العالم. لكن المهم هنا هو التحلي بالوعي الذاتي الخاص بالمرأة، والتعويل على إرادة وقوة وذهنية المرأة الحرة، والانطلاق منها في خرق عالم الذهنية الذكورية. وهذا ما يحتّم اللجوء إلى تنظيم الذات ورص صفوفنا نحن النساء، إن وطنياً وقومياً أو إقليمياً أو حتى عالمياً. وعليه، فإن نظام الرئاسة التشاركية يهدف إلى تمكين إرادة المرأة في الميدان السياسي.
كما إن نظام الرئاسة التشاركية لا ينحصر فقط في شخص الرؤساء التشاركيين. بل إنه يهدف إلى نسف الطراز الإداري الأحادي على مستوى الرئاسة من جهة، ويحول شكل الإدارة إلى “فن مجتمعي” مؤسساتي تشكل المرأة فيه النصف الفاعل والمؤثر والريادي. بالتالي، فهذا النظام هو حجر أساس على طريق تمكين التحول الديمقراطي في ميدان السياسة أولاً، وفي كل الميادين المعنية بالحياة والمجتمع عموماً، ولكن بلون المرأة، وبطابعها وهويتها الذاتية الحرة.
لقد انطلق هذا النظام من أرضيةٍ كانت الأحزاب السلطوية والكيانات المركزية هي السائدة فيها. لذا، فقد اعتُبِرَ في بداية الأمر على أنه “تقاسم السلطة” بين الجنسين. وهذا ما خلق معه مشاكل جدية. لكن، ومع التوعية المستمرة، تم تخطي هذه المقاربات الخاطئة السطحية والضيقة؛ ليتحول هذا النظام إلى هوية مؤسساتية للسياسة المجتمعية الديمقراطية.
وهذا ما ساهم في تمكين التحول الديمقراطي في المجتمع والسياسة وفي جميع ميادين الحياة، وفي تنمية الروح المجتمعية الجمعية، وفي تحجيم الأرضية السلطوية لصالح صعود “الإدارة الذاتية” المجتمعية. بمعنى آخر، فإن كل هذه التطورات تنمُّ عن تغيرات وتحولات مجتمعية استراتيجية وجذرية على درب حرية المرأة خصوصاً وحرية المجتمعات عموماً. بمعنى آخر، فنظام الرئاسة التشاركية هو نظام تمكين الحريات المجتمعية والفردية على السواء. إنه زبدة وعُصارة المنجزات والمكتسبات النسائية في النضال التحرري الوطني.
كما أنه ميدان لخوض الصراع الفكري والذهني ضد الذهنية الذكورية السلطوية المهيمنة، بكل مؤسساتها وتنظيماتها وتفرعاتها وميادينها. أي أنه ميدان حرب حقيقية على درب الحرية. والفائز في هذه الحرب هو كل “مواطن/ة حر/ة” يعي ذاته ويصقل إرادته الحرة ويكرس مبدأ التشاركية الحقيقية ويؤمن في الصميم بحرية المرأة.