يلتقي المواطنين قبل الإفطار ويشرف على الدروس الدينية.. تفاصيل طقوس الملك محمد السادس خلال شهر رمضان
في الساحة الفسيحة لمسجد حسان بالعاصمة المغربية الرباط، كانت الاستعدادات جارية لزيارة خاصة يقوم بها العاهل محمد السادس لضريحي والده وجده الحسن الثاني ومحمد الخامس يوم 10 رمضان، تتوقف سيارة المراسم الملكية ويخرج منها الملك صحبة ولي عهده وأخيه وباقي ذكور العائلة الملكية حسب ترتيب استحقاق العرش.
وسط الضريح المبنيِّ وفق الهندسة المغربية الأندلسية، حيث تنتشر الآيات القرآنية على شكل زخرفات بقِطع الفسيفساء الدقيقة والرخام الأبيض الفاخر، انتشر أفراد العائلة الملكية بجلابيبهم التقليدية المنسجمة مع المكان، كلُّ فرد منهم بلون خاص وثوب خاص وتصميم خاص يناسب درجته، حيث لا يجب التطاول على اللباس الخاص بالملك أو تقليده.
إضافة إلى زيارة ضريح الأجداد والترحم عليهم، فإن البرنامج الملكي يشهد تغيراً كبيراً خلال شهر رمضان، حيث يصبح مناسبة من أجل ترسيخ مكانة أمير المؤمنين في ذهنية المغاربة عبر طقوس متنوعة وأنشطة خيرية، وعلى رأسها الدروس الحَسَنية التي يُستدعى إليها العشرات من العلماء المسلمين من كل دول العالم.
بركة الأجداد
وسط دخان البخور، تعالت الأدعية الملحَّنة على الطريقة المغربية؛ ترحُّماً على روح مؤسِّس المملكة المغربية الحديثة، ففي العاشر من رمضان 26 فبراير/شباط 1961 تُوفي الملك محمد الخامس قائد معركة التحرير من الاستعمار الفرنسي، ومن يومها قرر وريثه الحسن الثاني ربط المناسبة بشهر رمضان وجعلها طقساً راسخاً يتكرر كل سنة.. مارسه كملك مع ولي عهده، ويقوم به اليوم محمد السادس صحبة ابنه الأمير الحسن.
طقوس العائلة الملكية في رمضان توارثها الملوك كما يتوارثون العرش العلوي، إلا أن من رسَّخها فعلاَ وأعطاها طابعها المؤسساتي، كما يقول مسؤول في إدارة التشريفات والأوسمة الملكية، هو الراحل الحسن الثاني، الذي كان يسعى إلى إظهار الجانب المثقف من شخصيته كرجل فكر ودين وليس فقط رجل دولة وحكم.
في بداية الستينات حينما تولى الحسن الحكم، ورث معه لقب “أمير المؤمنين”، الذي اعتاد ملوك الدولة العلوية حمله؛ اعتباراً لنسبهم الممتد لآل البيت. ومع اللقب “الثقيل”، كان محتاجاً للبرهنة على أنه يستحقه؛ لأنه ارتبط في تاريخ الإسلام بالتفقُّه في أمور الدين ومعرفة بأحوال المسلمين وتصاريف عيشهم، خاصة أن تلك الحقبة شهدت أوج الصراع على زعامة العالم العربي بين الاتجاه الإسلامي، ممثلاً في الوهابية، والذي كانت تقوده المملكة العربية السعودية، والاتجاه القومي الذي كانت تقوده مصر بزعامة جمال عبد الناصر.
الصراع السياسي وُظِّف فيه الإسلام والفكر القومي بين الطرفين، واختار الحسن الثاني منذ البداية، أن يقف إلى جانب السعودية؛ لذلك كان الجانب الديني أحد العناصر التي جرى توظيفها لتحديد معسكره السياسي، وهو ما أكده في أكثر من مرةٍ وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية القوي في عهد الحسن الثاني، عبد الكبير العلوي المدغري.
في أحد حواراته، يحكي الحسن الثاني عن أجواء طفولته في رمضان، يتذكر كيف كان يجد مربِّيته الخاصة وهي تصلي طيلة ليلة السابعة والعشرين من رمضان وتدعو الله بما في نفسها من طلبات، كانت تقول لهم: “اطلبوا ما شئتم.. سيدنا قدر سيستجيب لكم في هذه الليلة الخاصة”، الذكرى صاحبت الحسن الثاني طيلة شبابه، وأول ما جلس على العرش قرر أن يجعل من ليلة القدر طقساً رمضانياً ملكياً بامتياز، وسار ابنه بعده على خطاه نفسها.
فبعد صلاتي العشاء والتراويح ليلة الـ27، يتم استقبال الفائز بالرتبة الأولى لجائزة محمد السادس الوطنية في حفظ القرآن الكريم وتجويده وترتيله، يحيِّي الملكَ ويتسلَّم جائزته من يديه، ثم تنطلق حصص الذكر والمديح إلى موعد اقتراب الفجر، ليتم ختم صحيح البخاري بعد سرد “حديث الختم” من طرف شخصيتين علميتين مرموقتين.
بروتوكول خاص برمضان
حينما سئل الملك محمد السادس، في أحد حواراته النادرة، عن موضوع البروتوكول الملكي ومطالب إلغائه أو التخفيف من صرامته، أجاب بكل وضوح بأن “البروتوكول الملكي كان وسيظل، بروتوكولاً”، وأضاف في تصريحه لمجلة Paris Match الفرنسية، أن للبروتوكول المغربي خصوصيته، وهو شخصياً حريص على المحافظة على دقته وعلى كل قواعده.
واعتبر العاهل المغربي أن الطقوس الملكية، خاصة في شهر رمضان، تعتبر إرثاً ثميناً من الماضي، غير أنه لا يمانع في المقابل أن يتماشى البروتوكول مع أسلوبه، “لقد وُلدت وترعرعت ضمن هذه التقاليد البروتوكولية، وهي تمثل جزءاً لا يتجزأ من كياني، وخاصة من حياتي المهنية، التي تظل هذه التقاليد مقرونة بها”.
وإذا كانت طقوس الملك الحسن الثاني في رمضان مقتصرة على أنشطته داخل القصر وبالمساجد لترسيخ صورته كأمير للمؤمنين- فإن وريثه على العرش أضاف طقوساً جديدة تنسجم مع اللقب الذي عُرف به من الأيام الأولى لحكمه؛ وهو “ملك الفقراء”، كما يشرح لـ”عربي بوست” متخصص في الأنشطة الملكية.
يوم 17 مايو/أيار 2018 وقبل موعد الإفطار مباشرة، أشرف الملك محمد السادس على انطلاق “العملية الوطنية للدعم الغذائي رمضان 1439″، التي تنظمها مؤسسة محمد الخامس للتضامن بمناسبة شهر رمضان والتي كانت من بين المؤسسات الأولى التي أنشأها العاهل المغربي لمحاربة ازدياد عدد الفقراء طيلة فترة والده الراحل.
ومن بين التغييرات الأخرى التي أضافها الجالس على العرش حتى تناسب أسلوب حكمه، كما يشرح المختص في البروتوكول الملكي، تكثيف أنشطته ولقاءاته المباشرة مع الشعب، وخاصة في المدن المهمَّشة، فخلال شهر رمضان لا تنقُّلات خارج البلاد عكس باقي أشهر السنة، “يحرص على أن يكون حاضراً طيلة الشهر.. يصوم مع الناس ويجدِّد شعبيته معهم”، يضيف المختص.
السلطان العالِم
في شهر رمضان من سنة 1966، فوجئ الجميع بالحسن الثاني وهو يلقي على شاشات التلفزيون المغربي، الذي كان في بداياته الأولى، درساً دينياً أمام جمع من العلماء المغاربة وكبار الموظفين في الدولة وضباط الجيش، انطلاقاً من الحديث النبوي “من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”.
الملك الراحل اختار لدروسه تلك اسم “الدروس الحَسَنية”، حيث حرص على إحيائها بعدما كانت قد اختفت منذ عهد جده الأكبر إسماعيل، الذي حكم المغرب في القرن الـ18، يستدعي إليها أكبر العلماء والفقهاء في العالم الإسلامي والغرب، يقيمون بأفخر الفنادق ويتناولون وجبات الإفطار الرمضانية في القصر الملكي بالرباط. وفي سنة 1998، كانت آخر الدروس الحسنية في حياة الملك الحسن الثاني، حيث تم استدعاء 120 عالماً من مصر ولبنان وأوزبكستان والسنغال والصين والولايات المتحدة الأميركية بعدما اشتد عليه المرض.
بعده، حافظ الملك محمد السادس على طقس الدروس الحَسَنية، لكن جعلها تتماشى مع أسلوبه البسيط شكلاً وموضوعاً، عدد الضيوف تناقَص، ومواضيع الدروس أصبحت تُختار بعناية لتتماشى مع ميول الملك الجديد، وحتى الوقت أصبح أكثر ضيقاً، ففي عهد أبيه كان يمكن أن يأخذ الدرس الواحد يوماً كاملاً، أما في عهد الابن فلم تتجاوز الدروس الساعة في أغلب الأحيان.
وإلى جانب جلباب السلطان/العالِم، فقد وضع محمد السادس بصمته الشخصية على تقاليد رمضان الملكية، حينما يجد متسعاً من الوقت يرتدي ثيابه العصرية ويركب سيارته الرياضية؛ ليقوم بجولة في كورنيش الرباط أو الدار البيضاء قبل ساعة الإفطار بقليل.. يراقب المشاريع التي أشرف على تدشينها ليعرف أين وصلت، ويحدث أن يترجل ليسأل المارة عن وضعهم، بذلك أضاف الشارعَ إلى الطقوس السلطانية بعد أن كانت مقتصرة على القصر والمسجد.