عاش الكاتب والأديب المصري وديع فلسطين (94عاما) شاهدا علي عصور متغيرة، تغيرت مسارات حياته، وظل طويلا قابضا علي شعور بالغبن ، حتي جاء الوقت الذي طرق وزير الثقافة حلمي النمنم بابه ليمنحه تكريم وطنه بعد أن اعتذر الرجل عن حضور حفل التكريم بسبب ظروفه الصحية. الأيام أصبحت تتشابه مع فلسطين مؤخراً خاصة بعد أن غاب عنه نور عينه، فأضحي لا يري إلا القليل .. يحكي أنه أصبح لا يقرأ ولا يكتب الآن، ليعيش فترة من السلام النفسي بعيدا عن العالم. لكنه بالرغم من هذا يعاوده بين حين وآخر إحساس بالتجاهل و أن أحدا لم يعد يهتم لأمره، وهو الذي عاش طيلة عمره في علاقات ممتدة تعرف فيها علي كبار المبدعين في مصر والوطن العربي وعاصرهم وعايشهم بفعل عمله في الصحافة والذي بدأه مبكرا منذ كان عمره 19 عاما، فور تخرجه في الجامعة الأمريكية حيث كان من أول دفعة تخرجت من قسم الصحافة فيها، ليظل طيلة حياته يحمل قلمه كاتبا في كافة المجالات ومعايشا لأبرز الأجيال من كتابنا، الأمر الذي أدي بمعاصريه أن يطلقوا عليه لقب سفير الأدباء.
عاش سفير الأدباء حياة عصيبة، منذ خرجت ثورة 23 يوليو للنور، وبعد قرابة الشهرين من الثورة، وضع فلسطين ورفاقه في جانب العداء مع الثورة بفعل عمله بصحيفة المقطم، التي أغلقت آنذاك، ومن وقتها تغير مساره وهو الذي كان بمثابة رئيس تحرير لهذه الصحيفة «التليدة» .
وديع فلسطين هذا الشيخ الذي ينتظر الاحتفال بعيده الخامس والتسعين، يعيش هذه الأيام في منزله الذي يحمل في كل جنباته عبق حياة طويلة قضاها بين الكتب يقرأ ويكتب ويتأمل، ليخرج قرابة 40 كتابا، ويخرج عملا شبه موسوعي عن أعلام عصره، يقدم فيه سردا عنهم بحكاية أكثر تشويقا.. أخبار الأدب التقت وديع فلسطين في هذا الحوار لتتعرف منه علي كثير من المسارات بعد تكريم وزير الثقافة له ورؤاه وهو علي أبواب عامه الـ95..
الحقيقة هذا التكريم كان مفاجأة بالنسبة لي، ولم أتوقعه إطلاقا لاسيما أني كنت أشعر في كثير من الأحيان بأني غريب في وطني، بمعني أني رشحت ثلاث مرات لمجمع اللغة العربية هنا في مصر ولم أنتخب، بينما انتخبت وللمرة الأولي في مجمع دمشق ومجمع الأردن، لهذا كنت أشعر دائما بأني غريب.. لكن عندما يأتيني وزير الثقافة بنفسه إلي بيتي ويكرمني فهذه محاولة لتعويض تقصير سابق.
كان حديث ودي لا أكثر ولا أقل، لم نتناول مسائل سياسية ولا ثقافية ولا غيره.. حديث ودي بيننا، وأنا كنت قابلته مرة في نقابة الصحفيين، وكان بيننا معرفة، واستأنفنا هذا الحديث، والحقيقة كان معه مجموعة كبيرة جدا من الوزارة ومن صحفيين وكاميرات، وجري اللقاء علي نطاق ودي.
بصراحة أنا أصبحت في سن لا أتوقع شيئا، أنا عمري الآن 94، وقاربت علي95، والآن أصبحت لا أتوقع شيئا ولا أنتظر شيئا، فما يأتيني أهلا وسهلا به، وما دون ذلك فلن أغضب منه.
أبرزهم «صافيناز كاظم» وهي تسأل عني باستمرار، وحتي عندما مرضت كتبت في »الفيس بوك» أن فلانا مريض، وكذلك تلميذي السابق «لويس جريس»، وكانت «ليلي رستم» -تلميذتي في الجامعة الأمريكية- لكنها الآن مريضة ولا أستطيع الاتصال بها، وهناك أيضا زميل يعمل في مجلة صباح الخير اسمه »رشدي أبو الحسن» هو دائما ما يسأل عني ويزورني، وفيما عدا هؤلاء تقريبا أصبحت في مجتمع بعيد عن الدنيا.
كنا نتواصل بريديا سابقا، لكن الآن البريد لم يعد يعول عليه، فالاتصال الآن إما بالهاتف أو يزوروني وقتما تتسني لهم الفرصة لزيارة مصر. مؤخراً مثلا زارني أحد أدباء لبنان، وأهداني آخر كتابين صدرا له، وهو الكاتب جان داية. وقبله أيضا وفد من السعودية، من بينهم كان محمد بن سعود الحمد، وكنت قد نشرت مقالات قديمة بعنوان »سوانح»، فجمعها وطبعها في كتاب بعنوان »سوانح وديع فلسطين»، وأهداني مجموعة نسخ منه.
كنت قد نشرت هذه المقالات في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وكنت قد نشرتها في مجلات مصرية قديمة تنشر في صعيد مصر اسمها الإنذار، وهذا الباحث جمع هذه المقالات ونشرها في الكتاب، وهي مقالات أدبية وثقافية وأحيانا سياسية، لكنه استبعد المقالات السياسية، وهي مقالات كنت أكتبها بوحي الخاطر، وكل مقالاتي كنت أرتجلها وهذا من مرتجلاتي، مؤكد أن بعد مرور كل هذه السنوات في مسيرة العمر تكون الرؤية مختلفة.
الحقيقة أنني لم أندم علي أي شيء قمت به أو لم أقم به طوال عمري، فلم أندم إطلاقا علي شيء، ما قمت به من أمور بإرادتي كان حسب اعتقادي هو الصائب، وأما معاملة المجتمع لي سواء بالانكار أو حتي أحيانا بالهجوم فأنا تجاهلت هذا الموضوع، وأنا راض عن نفسي تماما وعن المشوار الذي قطعته في الدنيا.
ليت جريدة المقطم استمرت، هي ومجلة المقتطف لأنها في الحقيقة فتحت لي أبواب الكتابة السياسية وكنت مهتما بالسياسة في ذلك الوقت، وكذلك الموضوعات الثقافية التي كنت أنشرها في جريدة المقتطف، وعرفتني بالناس في مصر والبلاد العربية، حتي إن مقالاتي كانت تنقل ليس فقط في البلدان العربية، لكن أيضا وكالات الأنباء كانت تنقلها وتترجمها وتبثها، وهذه فترة من أغزر وأهم فترات حياتي وبالطبع لن تعود.
منذ سنة 1919 والمقطم جريدة مصرية عروبية ولم تكتب حرفا واحدا دفاعا عن الاستعمار البريطاني أو غيره، وأنا شخصيا في فترة عملي فيها كنت سيفا مسلطا علي كل أنواع الاستعمار، سواء في البلاد العربية أو حتي في غيرها، فإندونيسيا مثلا كانت مستعمرة من هولاندا، فكنت أهاجم هولاندا، وهكذا. وبالنسبة للمقطم فإن الاستعمار البريطاني انتهي بالنسبة للمقطم سنة 1919، وأنا لي مقالات لا حصر لها دفاعا عن قضية فلسطين، حتي إن الناس كانوا يتصورون أنني أدافع عن وطني، لأن اسمي »فلسطين» لكني مصري من صعيد مصر وأفخر بذلك. ومن خلال المقطم بالمناسبة تعرفت علي جميع رموز فلسطين في ذلك الوقت وكانوا يقدرونني لأنني كنت أدافع عن حق العرب في بلادهم.
عرفت تقريبا كل كبار الأدباء والمفكرين في الفترة التي عاصرتها، لكن كان لي أساتذة مباشرين مثل فؤاد صروف، وكان أستاذي في الجامعة الأمريكية، التي تخرجت فيها، وكان يوجهني ويساعدني، وكذلك خليل باشا ثابت، رئيس تحرير المقطم، وكان صحفيا لا أجد له مثيلا اليوم. وأيضا فالحقيقة أن الشوام كانوا يكرمونني أينما ذهبت، وأنا تأثرت بالشوام حتي ظنوا أنني شامي أيضا.
ذاكرتي الآن لم تعد تسعفني كثيرا، لكني عاصرت وصادقت كثيرا منهم.. ومثلا نزار قباني، كان صديقا لي، الأمير مصطفي الشهابي، الذي كان رئيسا لمجمع اللغة العربية السوري، وهو المجمع الذي انتخبت عضوا فيه، في عهد خليفته، وكانت صداقتي به كبيرة، وكان يزورني، وزكي المحاسني وزوجته وداد سكاكيني، وهؤلاء كانوا من أعز أصدقائي، وكثير غيرهم أيضا.
الحقيقة لا أعرف ردا لهذا، كل ما في الأمر أني كنت منشغلا أولا بوظيفتي وعملي الأساسي، في الكتابة الصحفية ـــ السياسية والأدبية وغيره-، والأمر الآخر أني لم أحاول أن أقلد أحدا لأبرز ككاتب مسرحي أو روائي، وأنافس نجيب محفوظ وأنداده.. وأنا لم أحاول أن (أحشر) نفسي بين هؤلاء وإن كنت قد عرفتهم علي المستوي الشخصي، وكانت لي علاقة طيبة بهم، فعرفت نجيب محفوظ ويوسف إدريس وكل هؤلاء الناس.
كنت كلما يأتيني كتاب من أديب أكتب عنه، وما جري أني كتبت مقالا عن نجيب محفوظ، وأنا كنت قد كتبت خمس مقالات عنه في بداياته، أول مقال نشرته في الأول من مارس.. وسيد قطب نشر مقالا عن نجيب محفوظ في 28 فبراير، فقيل أن سيد قطب سبق، ولكن المسألة لم يكن فيها سباق بيني وبينه لكنها مصادفة في تاريخ النشر، وأنا كما قلت كتبت عنه خمس مقالات في بدايته، وفي مقالي عن روايته »رادوبيس» قلت: لو قدر لهذه الرواية أن تترجم إلي اللغات الأجنبية، لنافست الأدب الروائي العالمي، وقيل إن هذه نبوءة لجائزة نوبل التي حصل عليها فيما بعد.
ربما أعزو هذا اليوم إلي الذاكرة، هو عندما نال جائزة نوبل، سألوه هل لك اطلاع علي الأدب السويدي، فأجاب: نعم، قرأت مسرحية الأب للأديب السويدي سترنديرج، ولم يذكر اسمي، واعتبر السؤال ارتجاليا والرد ارتجاليا ولا أظن أنه أراد أن يتجاهلني.
أنا أخذت أحلام فترة النقاهة ودرستها، فوجدت أن بعضها يعتبر من الهلاوس، لا الأحلام، فكتبت، ومثلت بواحدة واثنين وثلاثة، وقلت إن هذه عبارة عن هلوسات وليست أحلاما وما كان ينبغي لنجيب محفوظ أن يسجلها، وبالتالي فإن المسألة كانت بناء علي تقديم شخصي لقراءتي لهذه الأحلام، وأما الانتقادات فهذه آراء ووجهات نظر وكل منا قرأ وله رأيه، وهم لم يهاجموني شخصيا، لكن هاجموا رأيي في استبعاد أحلام فترة النقاهة.
أنا لم أهاجم طه حسين، واقتربت منه كمترجم، استعان بي عندما كان يستقبل صحفيين أمريكيين وهو لم يكن يعرف اللغة الإنجليزية فكنت أترجم فيما بينهم، ولم أهاجمه أبدا وأنا رأيي فيه أنه من أعلامنا الكبار، وكتابي الذي أصدرته عن أعلام عصري أتكلم فيه بكل إجلال واحترام عنه.
كان لدي في مكتبتي 23 كتابا له كلها مهداة منه لي وبتوقيعه، وكتبت عن بعضها في وقتها وكنت معتزا بها كثيرا، لكن اتصل بي أديب يمني مقيم بالإمارات وقال إنه معني بدراسة أدب باكثير من واقع الطبعات الأول التي صدرت له، وسألني إذا كان ممكنا أن يحصل علي هذه الكتب، فقلت له طالما أنها ستفيد دراستك وستفيد غيرك، فتفضل… وأعطيته إياها، ودفع لي مبلغا في ذلك الوقت نظيرها، وتنازلت عن 23 كتابا له، لا استخفافا بأدبه لكني وجدت من سيعتني به أكثر من عنايتي أنا به. أما عن باكثير وأنا فكنا صديقين إلي الأبد، وظلت علاقتنا حتي وفاته، ولم نختلف إطلاقا، وكنت أزوره باستمرار في بيته بمنيل الروضة، ثم في نواحي الزمالك.. وأتذكر أنه عندما قدمت روايته »واإسلاماه» علي المسرح أصر علي دعوتي لحضور العرض الأول، وظلت علاقتنا مستمرة وعلي أعلي مستوي حتي فرق الدهر بيننا.
هذه مسألة يسأل عنها النقاد، فلماذا أهملوا علي أحمد باكثير في حياته ولم يهتموا به.
ما كان يسيطر علي الحركة النقدية هو المجلات الأدبية التي كانت تصدر وخصوصا مجلة الرسالة والتي أصدرها أحمد حسن الزيات وكان يتناول كل القضايا الأدبية بما في ذلك التعرض لكل الكتب الجديدة التي تصدر بالمشهد الثقافي، لكن الآن مع الأسف لم يعد لدينا مجلات من هذا النوع، وبالتالي أعتقد أن حركة النقد الأدبي حاليا تكاد تكون غائبة. اختفاء المجلات الأدبية هو أكبر عامل مثبط للحركة الأدبية، فلا تقابلنا اليوم مجلة كمجلة الرسالة ولا مجلة المقتطف والتي كانت في أيامنا، ولا مجلة الكاتب المصري التي كان يصدرها طه حسين، ولا مجلة الكتاب التي كانت تصدرها دار المعارف، وحتي في البلاد العربية كانت تصدر مجلة الأديب واختفت، وكتبت فيها علي مدار 41 عاما، وكانت منتشرة في كل البلاد العربية، واختفاء المجلات الأدبية هو الذي أعاق حركة النقد الأدبي.
أنا أري أن الإبداع اختلط الآن بالمصلحة.
بمعني أن أحدهم يكتب رواية وهو يريد أن يجري إخراجها في السينما أو تقديمها علي المسرح، أو لنيل جائزة، لكني لا أعتقد اليوم أن هناك من يكتب علي مستوي نجيب محفوظ مثلا.
هو ذلك فعلا، والحقيقة أني توقفت عند كتابات المرحلة القديمة التي تمثلني.
لا أتابعها الآن أيضا، و أنا لدي مبدأ في حياتي وهو أني طالما أستطيع قراءة كتاب بلغته الأصلية فلا أقرأ ترجمته أيا كان، وسأحكي لك حكاية.. كان جابر عصفور قد سألني في الهاتف عن مشكلة ورددت له عليها، وتقريبا أحب مكافأتي، فأرسل إلي كيسين فيهما 50 كتابا مترجما، والحقيقة لم أجد عنوانا واحدا فيها يهمني موضوعه، فقلت ربما هذه كتب بائرة لم تجد سوقا فأرسلها لي.
لا أتذكر، لكن ما أريد قوله إن 50 كتابا لم أجد بينها كتابا واحدا يهمني موضوعه، وانضمت لمكتبتي.
بصراحة أنا بعد أن كبرت في السن كنت أعرف أن مصير المكتبة هو سور الأزبكية لأن ابنتي لا تهتم بها وابني مهاجر إلي كندا، وكنت الحقيقة قلقا بشأن هذه المكتبة، وفي هذه الأثناء جاءتني صاحبة دار الجديد في لبنان وقالت إنها مستعدة أن تأخذ هذه المكتبة وتحافظ عليها، فوافقت مقابل مبلغ رمزي ولم يهمني المبلغ، لكن كان الأهم أن المكتبة تنتقل باحترام إلي هناك، وهناك يحتفظون بها تحت اسمي وفهرسوها وهي متاحة للباحثين الذين يريدون أن يستعينوا بها، وقد ضممت إليها أيضا كل الرسائل الأدبية التي كانت لديّ وكنت أراسل عدد كبير جدا من الأدباء في مصر والعالم العربي والمهاجر، فحوالي 10 آلاف رسالة ذهبت أيضا إلي هناك. وأنا الآن مطمئن جدا أن مكتبتي محفوظة تحت اسمي في بيروت ولن يؤول بها الحال إلي سور الأزبكية ككثير من الكتاب.
إطلاقا.
أنا أود شكر أخبار الأدب علي هذا الحوار، لأني أشعر أحيانا أني نسيت من الدنيا الأدبية التي عملت فيها بمنتهي النشاط علي مدي سنوات طويلة، فشكرا علي اهتمامكم وعلي هذا الحوار.
يقام في السادسة من مساء اليوم احتفال بأول إصدارات دار أم الدنيا للدراسات والنشر والتوزيع…
الرياض 13 أبريل 2022: أتاحت التأشيرة السياحية السعودية للحاصلين عليها أداء مناسك العمرة إلى جانب…
يحتاج التأمل في أعمال التشكيلي السوري محمد أسعد الملقّب بسموقان إلى يقظة شرسة تجعلنا قادرين…
في حلقة جديدة من برنامجه "تراثنا الشعري" استضاف بيت الشعر بالأقصر الأستاذ الدكتور محمد…
يقيم المركز الدولي للكتاب، خلف دار القضاء العالي، ندوته الشهرية لمناقشة أعمال (سلسلة سنابل) للأطفال،…