واشنطن بوست: أردوغان مناور تكتيكي بارع وتصرفات ترامب قد تصبُّ في مصلحة أنقرة
عندما حاول الرئيس الأميركي دونالد ترمب إرغام تركيا على إطلاق سراح قسٍّ أميركي محتجز هذا الشهر، راهن على أنَّ فرض وابلٍ من الإجراءات العقابية، تضمَّن عقوباتٍ اقتصادية تهز السوق التركية وتوبيخاتٍ علنية مُهينة، سيُجبر الرئيس رجب طيب أردوغان على الانصياع بسرعة. لكنَّ هذا لم يحدث. يوضح تقرير لصحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، أنه بعد أكثر من ثلاثة أسابيع من بدء الأزمة بين تركيا وأميركا ، لا يزال القس الأمريكي أندرو برونسون قيد الإقامة الجبرية في تركيا، ويبدو أردوغان حتى الوقت الحالي متحدياً صامداً.
تركيا «لن تستسلم»
وبينما تتدهور العملة التركية، ركَّز أردوغان بدلاً من ذلك على تغذية الغضب الداخلي ضد الولايات المتحدة، وصوَّر بلاده كضحية لتخريبٍ مُتعمَّد، الأمر الذي حوَّل الانتباه عن المشاكل الاقتصادية التي قال محللون إنَّ حكومته قد فشلت على مدار سنوات في معالجتها بشكلٍ مناسب، وفق ما ذكرته الصحيفة الأميركية.
وتلقَّت تركيا أيضاً الدعم في التوقيت المناسب من حلفاءَ أجانب، مما أدَّى إلى تقويض جهود إدارة ترمب لعزلها. يشمل هذا الدعم زيارةً من وزير الخارجية الروسي إلى أنقرة، ومكالمة هاتفية بين أردوغان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتعهد من قطر باستثمار 15 مليار دولار في الاقتصاد التركي.
ووفقاً لوكالة أنباء «الأناضول» التركية شبه الرسمية، قال أردوغان يوم السبت 18 أغسطس، في أحدث حلقة في سلسلة حملته الهجومية اليومية التي تستهدف البيت الأبيض، إنَّ تركيا «لن تستسلم لمن يتصرفون كشريكٍ استراتيجي، لكنَّهم يجعلوننا هدفاً استراتيجياً».
على الرغم من «تكلفة العداء» مع الولايات المتحدة
قالت ليزل هنتز، أستاذة العلاقات الدولية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز الأميركية، إنَّ العداء مع الولايات المتحدة مكلف بالنسبة لتركيا، إذ دفع عملتها الليرة إلى تسجيل أدنى مستوياتها مقابل الدولار. لكنَّ قدرة أردوغان على الاستفادة من الأزمة أثارت تساؤلاتٍ حول ما إذا كان ترمب قد استخفَّ بالزعيم التركي، فهو «خبير ومناور تكتيكي بارع»، لديه اقتناع أنَّ القوى الغربية عازمة على تعطيل تركيا بسبب وضعها كدولة إسلامية قوية.
وأضافت ليزل أنَّ «تصرفات ترمب صبَّت بالضبط في مصلحة أردوغان، إذ إنَّ الإجراءات الأميركية الصارمة، بما في ذلك تغريدات الرئيس «الصارخة المتهورة»، بدت موقوتةً لتقويض جهود أردوغان ومسؤولين أتراك آخرين لطمأنة الجمهور والأسواق. وبذلك كان ترمب يؤدي بالضبط دور القوة المزعزعة للاستقرار، التي كان الرئيس التركي يتهم الولايات المتحدة بها».
وقال سولي أوزيل، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة قادر هاس في إسطنبول، إنَّ تركيز أردوغان على الخصوم الأجانب عندما يواجه تحدياتٍ داخلية، بما في ذلك انتخابات صعبة، هو جزءٌ من «سيناريو مألوف».
في المقابل تمكن أردوغان من كسب «حُلفاء» جدد
وأضاف أوزيل أنَّ «الاختلاف هذه المرة هو وجود أدلة قوية جداً على نوايا عدوانية مُعلنة ضد تركيا»، مشيراً إلى الإجراءات الأميركية القاسية التي يبدو أنَّها تهدف إلى «قصم ظهر تركيا». وتابع: «كانت التداعيات تؤكد للعديد من الأتراك أنَّ هذه ليست مجرد أزمة اقتصادية، وقد لا تكون أزمة اقتصادية، بل حرباً اقتصادية من جانب الولايات المتحدة».
وبعد أن دعا أردوغان لمقاطعة المنتجات الإلكترونية الأمريكية الصنع، بما في ذلك أجهزة iPhone التي تنتجها شركة Apple، ظهرت مقاطع فيديو على الإنترنت لمواطنين أتراك يدمرون هواتفهم المحمولة من طراز iPhone بالمطارق أو مضارب البيسبول.
ولتجنيد الحلفاء في القتال، نحَّى أردوغان مؤقتاً علاقاته الشائكة مع القادة الأوروبيين، إذ بذل المسؤولون الأتراك جهداً كبيراً لتسليط الضوء على مكالمات أردوغان الهاتفية الأسبوع الماضي، في خضم الأزمة التركية مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. وأفرجت المحاكم التركية في الأسبوع الماضي عن اثنين من الجنود اليونانيين والرئيس الفخري لفرع منظمة العفو الدولية في تركيا. وقال محللون إنَّ هذه التحركات ربما كانت تهدف إلى تخفيف حدة التصورات عن تركيا في أوروبا، في تلك اللحظة الحرجة التي تمر بها البلاد.
وهو ما مكَّن الرئيس التركي من «إحراج» الرئيس الأميركي
وقالت ليزل إنَّ هذه التحركات لم تكن بالضرورة بشأن «تحسين العلاقات مع أوروبا. أنا أعتقد أنَّ الأمر يتعلق أكثر بإحراج الولايات المتحدة».
أوضح أردوغان أنَّه يرسل إشارةً؛ إذ كتب في مقالٍ افتتاحي نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، في 10 أغسطس: «يجب على واشنطن قبل فوات الأوان التخلي عن الفكرة المُضللة، التي مفادها أنَّ علاقتنا يمكن أن تكون غير متكافئة، وفهم حقيقة أنَّ تركيا لديها بدائل».
لا تحمل سياسة حافة الهاوية المُتَّبعة سوى القليل من المخاطر السياسية الداخلية بالنسبة لأردوغان، الذيأُعيد انتخابهفي شهر يونيو/حزيران وتولى صلاحياتٍ واسعة جديدة، بموجب نظامٍ رئاسي جديد.
ومع ذلك، تصاعدت الانتقادات الموجَّهة إلى حكومته، مع التركيز على سعيها لتحقيق نموٍ غير مستدام واستدانة بنوكها وشركاتها، وصفقاتها غير النزيهة. ووُجِّهَت أيضاً انتقاداتٍ لقرار أردوغان بتعيين صهره كوزير للمالية والخزانة في البلاد، وعزوفه عن رفع أسعار الفائدة.
وازدادت المشكلات الاقتصادية حدةً، لدرجة أنَّ أردوغان دعا إلى إجراء انتخاباتٍ مبكرة، في يونيو، قبل أكثر من 18 شهراً من موعدها المحدد، فيما قال المحللون إنَّه كان محاولة لتجاوز التداعيات السياسية المحتملة.
خاصة أن قضية القسّ «ليست المصدر الوحيد» للتوتر
ومن جانبه، قال كمال كيليتشدار أوغلو، زعيم حزب المعارضة الرئيسي في تركيا الأسبوع الماضي: «ما يفعله أردوغان هو محاولة لتغطية فشله في الاقتصاد، بتصوير قضية القس الأميركي أندرو برونسون كذريعة لأزمة العملة». وتساءل كيليتشدار أوغلو: «هل تعتقد أنَّ الليرة ستحقق مكاسب مقابل الدولار إذا أُفرج عن برونسون؟ هل ستتقلص مبالغ الديون في تركيا؟».
قضية برونسون بعيدة كل البعد عن كونها المصدر الوحيد للتوتر بين تركيا والولايات المتحدة.
في السنوات الأخيرة، اختلف الطرفان التركي والأميركي حول إدارة الحرب في سوريا، وحول مشتريات تركيا للأسلحة. وطالبت أنقرة بتسليم رجل الدين التركي المقيم في الولايات المتحدة فتح الله غولن، لدوره المزعوم، وفقاً للسلطات التركية، في تنسيق محاولة الانقلاب ضد حكومة أردوغان منذ عامين. ونفى غولن تورطه في ذلك.
وتُحاكم تركيا أيضاً ستة مواطنين أميركيين بالإضافة إلى برونسون، حول ما يقول مسؤولون أميركيون إنَّها تهم سياسية، إلى جانب ثلاثة موظفين أتراك من البعثة الأميركية في البلاد.
وكان أردوغان وترمب، وفقاً لمعظم الروايات والتقارير الواردة، يتمتعان بعلاقة شخصية ودّية حتى الأسابيع الأخيرة. واندلع الخلاف بينهما بعد انهيار اتفاق كان يقضي بالسماح بعودة القس برونسون إلى الولايات المتحدة، وذلك وفقاً لأشخاصٍ مُطلعين على التفاصيل.
وبدا أنَّ ترمب قد اعترف علناً بأحد عناصر هذه الصفقة، يوم الخميس 16 أغسطس، عندما قال «أفرجنا عن شخص ما من أجله»، في إشارةٍ إلى الجهود التي بذلها نيابةً عن أردوغان، من أجل إطلاق سراح مواطن تركي مُحتجز لدى إسرائيل. وعندما انهارت الصفقة، أصبح النزاع بين الولايات المتحدة وتركيا قاسياً للغاية.
لكن، هل تصمد تركيا في وجه «عقوبات إضافية»؟
ويقول سنان سيدي، المدير التنفيذي لمعهد الدراسات التركية في جامعة جورج تاون الأميركية، إنَّ أردوغان «يريد مواصلة جهوده ولم يغير رأيه. يبدو أنَّ هذا قد آتى ثماره في الوقت الحالي. لكنَّ هذا قد يصبح أكثر صعوبة إذا اتخذ البيت الأبيض والكونغرس خطواتٍ إضافية لمعاقبة تركيا»، في إشارةٍ إلى اقتراح مُقدَّم في مجلس الشيوخ الأميركي الشهر الماضي، من شأنه تقييد حصول تركيا على القروض من المؤسسات المالية الدولية إذا لم تفرج أنقرة عن مواطني الولايات المتحدة. وتساءل سيدي: «عندئذٍ ماذا سيكون لدى أردوغان ليفعله؟».
استمرار الأزمة قد يضر بإرث أردوغان الذي حققه حتى الآن، وفي قلبه المكاسب الاقتصادية للأتراك. وقالت ليزل إنَّه في هذا السيناريو، إذا بدأت الأسعار في الارتفاع بسبب التضخم وانهار إنجاز الرئيس البارز، فسيؤدي ذلك إلى «زعزعة ثقة الناس في الزعيم الذي يعتقدون أنَّه حقق الكثير».
وأضافت: «هذا سيهز ثقة أردوغان أيضاً. هو يحب شعبه، أولئك الذين يعتبرهم أتباعاً حقيقيين ومُخلصين».