هندسة التجريد تجربة الأمريكي Lewis Dube .. رمزية الهندسة وابتكارات مفاهيم حركتها التعبيرية
عندما تجتمع الموهبة وتناقضات المراحل الزمنية مع البحث الذي يصقل خبرة التذوق والإنجاز المبني على التجريب يكون التميّز والابتكار الذي يقود نحو تجريد العمق من خلال دمج الأساليب وعصامية التكوين والعبقرية في ترتيبها البصري وسردها المنطقي الذي يذهب بها نحو تصعيد وتطوير الأسطح من الأشكال الأولية إلى التعمق بها بين البصريات والحواف الصلبة نحو هندسة التجريد الأحادية والسير أبعد في التكوين والتركيب والترتيب المتفاعل مع الأحجام والأشكال والألوان والعناصر، فيُصبح للفن حكمته التي عتّقتها سنوات البحث والإبداع، ليكون الحديث نابعا من عمق التأمل في الرحلة البصرية التي أسّس لها الفنان التشكيلي الأمريكي لويس دوبي Lewis Dube.
يعتمد لويس البساطة البصرية ويجيد التحكم فيها جماليا من خلال ترتيب الأشكال التي يصفّفها بدقة بصرية وتقنية حتى تبدو مثل خطوط دقيقة تخترق الفراغ بانحناءاتها وانكساراتها المكثفة بين الطول والعرض بتوازن ناعم هادئ منظّم، حيث تبدو علاماته فارقة ومميزة في استدراجها للعين حتى لو لم تعوّل كثيرا على الألوان إذ يكفيه التحكّم في البعد الضوئي والتوافق المعتم ومساحات العمق ليتملّك العين بل ويُتعبها في اختبار بصري موجع للرؤية ولكنه بصير في إثاراته الهندسية العبقرية التي يتحكّم فيها مُستغلا حركته البصرية التي يحاكي بها نقصه الكامل في الإيهام بالعمق وبالمشهد لتتراءى متتابعة في مخزون ذاكرة العين.
فأعماله التي تمتاز بالبساطة في الشكل والعمق تفرض الترتيب وتلغي الفوضى من مساحاتها وهي تتصادم معها ذهنيا وحسيّا لتبلغ حد الفهم الإنساني للإنسان المطّلع على ذلك العمق، فهو لا يقف عند الدرجة الأولى للعين وهي تراقب المنجز ذهنيا بل يتجاوزها نحو التفاعل الحركي مع تلك الأبعاد والأشكال في حوافها وتصادمها وتلألئها وإشراقها وأشكالها وفي انطلاقاتها لتحرّرها من الفضاء وتستغل فلسفة العمق في الفراغ بالفعل الديناميكي والحركة، لقد استطاع لويس تجاوز كل عوائق البصريات ليخلق له مؤثرات تجريدية بالأبعاد ويتواصل معها بدقّة دقيقة التشكّل بينها وبين الفضاء حتى لا تبدو المساحة خالية بل مشحونة ومُكثّفة بالإحساس والمفاهيم والفكرة التي تحاكي الوجود بفلسفة بصرية.
تجتمع تلك الفلسفة على التفاعل الإنساني المشترك بين كل فرد فاعل في الكون “أنا الانسان قبل الفنان فالفن انعكاس للإنسانية” هي الجملة التي يردّدها ويفعّل أعماله وفقها فهو وكما يقول “أحب أن أتعامل مع مشاريعي الفنية وكأنها مغامرة تستحق التحدي والبحث والاستمرار فكل ما أفعله في الإنجاز الفني تحملني إليه الغريزة إنها غريزة الفنان”.
إن البصمة التي شكّلها لويس دوبي لم تكن من فراغ لقد بدأت بصراع بسيط وصبيانية طالما جرّدت تحوّلاته المرحلية في الإنجاز الفني التي تناقضت بين الغرور والإحباط بين الفعل والتخلي بين التمادي والقطع خاصة وأنه كان كثيرا ما يتراجع عما يُنجز ويُقارن ما يفعله هو بما خلّده العظماء في الفن، ما يطرح في داخله أسئلة تستفزه للبحث الدائم في التجديد والطرح والعرض، فتلك التساؤلات كانت تحمله أبعد في الدراسة والبحث أعمق في الدرس والاستيعاب فلا يمكن أن يتوقّف ولا يستطيع ألا يقارن نفسه مع الفن وهو ما خلق لديه الغريزة الفنية التي تحدّث عنها.
تقول عنه كاثي باتيستا من معهد سوثبي للفنون “يمتلك دوبي إحساسا فريدا باللغة البصرية المجرّدة”،
وهذا الإحساس هو الذي جعله يتحدّى نفسه عند كل مرحلة ويطوّر تطبيقه البصري الدقيق على الأعمال بحرص على تفجير الطاقة البصرية وتحريرها من ضيق مساحاتها، وهو ما يقدّم رؤية غير متوقّعة في أعمال لويس دوبي فهي تدريب بصري على البصيرة على التحكم في رؤى العقل والسفر المرح عبر أشكالها لأنها تثير الراحة والفزع في آن واحد مثل تنويم فني جمالي يجذب لمعرفته وفهمه أكثر فأكثر بشكل متناغم.
إن المثير في أعمال لويس هو التقارب التشكيلي في الإنجاز تلك اللغة البصرية التي يجمع من خلالها جذور التكعيبية مع غموض التجريد وجماليات الهندسة بتوازن يكثّف الأشكال ويلقي بها في عتمة الوجود وفي فضاء الكون الرحب وكأنه يشغلها بذاتها في الطبيعة ويحوّل نحوها الإشعاع فيستفز بقاءها بالحركة البصرية التي يخضعها لمواقفه البصرية الخاصة مع تلك الخصوصية التي يوظف بها الأبيض والأسود وهو يشتغل على المساحة ويجادل الفراغ فكأنه يثير المتلقي ليقرّر بنفسه قراءاته ويستنتج الجماليات القريبة من بصيرته وإيديولوجيته فالثنايئية اللونية والضوئية والتقنية تجتاح الفكرة وتحوّل الإنجاز من الصورة المألوفة إلى الحركة الذهنية المقصودة.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections