هل يسعى ماكرون لمساعدة لبنان فعلاً أم يحاول الهروب للأمام من مشاكله الداخلية؟
لا تزال أصداء الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للبنان المأزوم في أعقاب تفجير بيروت، تطغى على الأحداث المتسارعة هناك، ووصلت تداعياتها إلى الداخل الفرنسي، وسط تساؤلات حول دوافع الزعيم الحقيقية وأسلوبه في التعامل مع المستعمرة الفرنسية السابقة، فما القصة؟
صحيفة Washington Post الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: “هل فرنسا تساعد لبنان حقاً أم تحاول إعادة احتلاله؟”، تناول زيارة ماكرون وردود الفعل بشأنها، متساءلة عما إذا كان الرئيس الفرنسي فشل في حل مشاكل فرنسا نفسها، فلماذا يبدو واثقاً هكذا بقدرته على حل مشاكل لبنان؟
كأنه نسي أن لبنان لم يعد تحت الانتداب!
في زيارته لبيروت المنكوبة على أثر الانفجار، الأسبوع الماضي، طمأن الرئيس الفرنسي الحشود القلقة، وتعهد بإعادة بناء المدينة، وزعم أن الانفجار اخترق قلب فرنسا نفسها. قال ماكرون: “فرنسا لن تتخلى عن لبنان أبداً. إنَّ قلب الشعب الفرنسي ما زال ينبض باسم بيروت”.
شجب منتقدو ماكرون محاولاته باعتبارها غزواً نيوكولونيالياً من زعيم أوروبي يسعى إلى استعادة نفوذ بلاده على أرضٍ مضطربة بالشرق الأوسط، وتشتيت الانتباه في الوقت نفسه عن مشاكل عدة في بلده. وانتشرت صور ساخرة على شبكة الإنترنت تسميه ماكرون بونابرت، نابليون القرن الـ21.
لكن المدافعين عن ماكرون، ومن بينهم بعض أهل بيروت اليائسين الذين اعتبروه “الأمل الوحيد”، امتدحوا زيارته للأحياء المنكوبة التي يخشى زعماء لبنان النزول إليها، وأثنوا على محاولته محاسبة ساسة لبنان على الفساد وسوء الإدارة المتسببين في الانفجار القاتل الذي وقع يوم الثلاثاء، 4 أغسطس.
المعادلة الصعبة
وكشفت زيارة ماكرون التحدي المحوري الذي يواجه فرنسا، بينما تستضيف مؤتمراً دولياً للمتبرعين للبنان الأحد 9 أغسطس/آب: كيف تساعد فرنسا البلدَ المأزوم، الذي تربطها به صلات اقتصادية عميقة، دون التدخل في شؤونه الداخلية؟
يقول جاك لانغ، وزير سابق بالحكومة الفرنسية ورئيس معهد العالم العربي في باريس: “نحن نسير على شفا جرف. علينا أن نساعد الشعب اللبناني وندعمه ونشجعه، وفي الوقت نفسه لا نعطي أي انطباع بأننا نريد وضع لبنان تحت الانتداب الفرنسي مجدداً، وهذا أمرٌ سيكون في قمة الغباء. علينا أن نجد حلولاً جديدة وذكية لمساعدة اللبنانيين”.
تمتد علاقة فرنسا بلبنان إلى القرن السادس عشر على الأقل، حين تفاوض ملك فرنسا مع العثمانيين لحماية المسيحيين في المنطقة، وتأمين النفوذ الفرنسي، وبحلول الانتداب الفرنسي على لبنان بين عامي 1920 و1946، تواجدت في لبنان بالفعل شبكة من المدارس الفرنسية والناطقين بالفرنسيين ما زالت قائمة إلى اليوم، هذا بالإضافة إلى العلاقات الحميمة بين فرنسا وكبار الزعماء وأصحاب النفوذ في لبنان، ومن بينهم متهمون بإشعال الأزمات السياسية والاقتصادية.
وقد برزت عريضة مفاجئة على شبكة الإنترنت هذا الأسبوع، تطالب فرنسا بإعادة الانتداب على لبنان، متذرعة بأن زعماء لبنان أظهروا “عجزهم التام عن تأمين لبنان وإدارته”.
إنها فكرة يراها كثيرون سخيفة، فقد قال ماكرون نفسه لأهل بيروت، يوم الأربعاء 5 أغسطس/آب: “عليكم كتابة تاريخكم بأنفسكم”. لكن العريضة وقَّعها 60 ألف شخص، من بينهم أبناء الجالية الفرنسية في لبنان البالغ عددها ربع مليون نسمة، وبعض أهل لبنان الذين قالوا إنها طريقة للتعبير عن يأسهم وفقدانهم الثقة بالنخب السياسية.
مدير مدرسة وتلاميذ
وبعيداً عن كونها إظهاراً للدعم الدولي الذي يحتاجه لبنان بشدة، رأى كثيرون أن زيارة ماكرون وسيلة للحصول على المساعدات المالية لبلدٍ تُثقله الديون.
وقد تمكن الزعيم الفرنسي أيضاً من لمِّ شمل النخب السياسية المنقسمة، ولو لفترة وجيزة، ففي مشهدٍ نادر، اجتمع رؤساء الفصائل السياسية في لبنان، وبعضهم ما زالت بينهم عداوات مريرة منذ أيام الحرب الأهلية التي امتدت من عام 1975 وحتى عام 1990، بقصر الصنوبر، مقر السفارة الفرنسية في بيروت، وغادروا بعد مقابلة ماكرون.
لكن كثيرين رأوا هذه الزيارة متعالية، وبعضهم هاجم العريضة والمحتفلين بـ”فرنسا، الأم الحنون”، وكتب سمير فرنجية أن ماكرون جمع السياسيين كأنهم “أطفال في مدرسة”، ووبَّخهم على فشلهم في الاضطلاع بمهامهم.
وكانت هناك بعض الاعتراضات الأخرى الأكثر خفية ضد استعراض النفوذ الفرنسي. ففي حين كان ماكرون يتجول في الأحياء المنكوبة بفعل الانفجار، كان وزير الصحة بالحكومة المدعومة من حزب الله، يتجول في المستشفيات الميدانية التي تبرعت بها إيران وروسيا، وهما من كبار اللاعبين في المنطقة.
وتقول ليا، طالبة الهندسة في بيروت والتي رفضت ذكر اسمها بالكامل؛ خوفاً من العواقب السياسية: “أتفهم لماذا يرغب الناس في إعادة الانتداب؛ فقد فقدوا الأمل”. لكنها عارضت الفكرة بشدة، وعارضت من يرون ماكرون “مُنقذ” لبنان.
وقالت ليا إن هذا قد يزيد انقسامات لبنان سوءاً، لأن المسيحيين المارونيين والمسلمين المتعلمين بالفرنسية يؤيدون ماكرون، بينما ينأى الآخرون عنه. وتساءلت ليا: “إن ماكرون لم يحل مشاكله في بلاده، مع شعبه. فكيف ينصحنا نحن؟!”.
ماذا عن مشاكل فرنسا الداخلية؟
في باريس، حذَّر خصوم ماكرون السياسيون من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، الرئيس الوسطي من الزحف النيوكولونيالي، والخروج بتنازلات سياسية من لبنان مقابل المساعدات، وغردت جوليان بايو، زعيمة حزب الخضر الفرنسي، قائلة: “إن التضامن مع لبنان ينبغي أن يكون غير مشروط”.
وقد رفض ماكرون بشدةٍ فكرة إعادة الانتداب الفرنسي، وقال: “لا يمكن أن تطلبوا مني أن أحل محل زعمائكم؛ إن هذا غير ممكن. لا يوجد حل فرنسي”، لكنه أشار إلى اعتزامه العودة إلى لبنان؛ ليتأكد من أن الإصلاحات التي تعهد بها الزعماء تم تنفيذها، في غرة سبتمبر، الذكرى السنوية المئة لإعلان قيام لبنان الكبير، وبداية الاحتلال الفرنسي.