هل نسف تسلل كورونا دون أن يلاحظه أحد فكرة مناعة القطيع من أساسها؟
كشف تحليل وراثي جديد لفيروس كورونا الذي يسبب مرض كوفيد-19 اعتمد على عينات من أكثر من 7600 مريض من دول ومناطق مختلفة أن الفيروس القاتل كان منتشراً حول العالم منذ أواخر العام الماضي، فماذا يعني هذا الاكتشاف؟ وكيف نسف فكرة مناعة القطيع من أساسها؟
منظمة الصحة العالمية لم تتفاجأ
أمس الثلاثاء 5 مايو قالت منظمة الصحة العالمية إن تقريراً عن ظهور حالة كوفيد-19 في فرنسا خلال ديسمبر، أي أبكر مما كان يعتقد عن موعد بدء انتشار المرض، ليس مفاجئاً، وحثت الدول الأخرى على تحري أي حالات مبكرة أخرى يشتبه أنها للمرض الناجم عن الإصابة بفيروس كورونا.
كانت السلطات الصينية قد أبلغت المنظمة الصحة العالمية بظهور الفيروس لأول مرة يوم 31 ديسمبر ولم يكن يعتقد أنه انتقل لأي مكان آخر في العالم حتى يناير، لكن التأكد من وجود مُصاب بالعدوى في فرنسا يوم 27 ديسمبر يقلب الأمور رأساً على عقب.
وهذا ما عبر عنه كريستيان ليندماير، المتحدث باسم منظمة الصحة العالمية، في إفادة بالأمم المتحدة في جنيف أمس الثلاثاء، مشيراً إلى التقارير الفرنسية بقوله إن “ذلك يعطي صورة جديدة تماماً لكل شيء”، ومضيفاً أن “النتائج تساعد في فهم الانتشار المحتمل للفيروس المسبب لكوفيد-19 بشكل أفضل”، وتابع أن حالات مبكرة أخرى قد تظهر من إعادة فحص العينات.
يأتي ذلك على خلفية توصل مستشفى في فرنسا أعاد فحص عينات لمرضى الالتهاب الرئوي إلى أنه عالج رجلاً كان مصاباً بمرض كوفيد-19 في 27 ديسمبر قبل نحو شهر من تأكيد الحكومة الفرنسية ظهور أول حالة.
ليندماير حث الدول الأخرى حول العالم على فحص سجلات حالات الالتهاب الرئوي ذات المصدر غير المحدد في أواخر 2019 قائلاً إن ذلك سيعطي العالم ”صورة جديدة أكثر وضوحاً“ عن التفشي، ورد ليندماير على سؤال عن منشأ الفيروس في الصين قائلاً ”من المهم للغاية“ بحث هذا الأمر.
وقال ليندماير: ”هذا الأمر قد يتطلب بعثات أو بعثة أخرى (للصين) ونحن نتطلع لذلك“، وقال مايك ريان، كبير خبراء الطوارئ بالمنظمة، لرويترز الإثنين 4 مايو إن مدير عام المنظمة تيدروس أدهانوم غيبرسيوس أثار مسألة منشأ الفيروس ”على أعلى مستوى“ أثناء بعثة المنظمة للصين في يناير.
ماذا يعني هذا الاكتشاف؟
الباحثون في بريطانيا وهم جزء من تلك الدراسة اكتشفوا أيضاً أدلة تؤكد سرعة انتقال عدوى كورونا، دون أن يكون لتحولات الفيروس تأثيرات مباشرة سواء على سهولة انتقال العدوى أو درجة خطورة حالة الشخص المُصاب، وعن ذلك يقول باحث الهندسة الوراثية فرانسوا بالو من معهد الهندسة الوراثية بجامعة لندن لشبكة CNN، إن “الفيروس يتغير لكن ذلك في حد ذاته لا يعني أنه يزداد شراسة أو سوءاً”.
بالو وزملاؤه قاموا بدراسة التسلسلات الفيروسية من خلال قاعدة بيانات عالمية عملاقة يستخدمها العلماء والباحثون لتشارك البيانات، ودرسوا عينات مأخوذة خلال أوقات مختلفة ومن أماكن مختلفة حول العالم وتوصلوا لنتيجة تشير إلى أن الفيروس بدأ في إصابة البشر بالعدوى منذ نهاية العام الماضي.
قصة فيروس كورونا بدأت تنتشر عالمياً بصورة مكثفة منذ منتصف يناير وكان وقتها التركيز على مدينة ووهان الصينية في مقاطعة هوبي بؤرة التفشي، ولم تتحرك الصين لإغلاق المدينة ثم المقاطعة قبل الأسبوع الأخير من الشهر، بينما لم تعلن منظمة الصحة العالمية تحول الفيروس إلى جائحة عالمية إلا يوم 11 مارس.
وأول ما يعنيه هذا الاكتشاف بالنسبة لبالو وزملائه هو أنه “يستبعد أي سيناريو يفترض كون فيروس كورونا قد ظهر قبل مدة طويلة من التعرف عليه، وبالتالي استبعاد فكرة أن يكون عدد كبير من سكان العالم قد أصيبوا به بالفعل”، وهو ما ذكروه في النتائج المنشورة في الجورنال العلمي للعدوى والهندسة الوراثية والتطور.
هل هذا أمر جيد؟
الخبراء يرون أن هذا أمر غير جيد، حيث كان يأمل كثير منهم بأن يكون الفيروس قد أصاب بالفعل عدداً كبيراً من السكان يزيد بصورة لافتة عن الأرقام المعلنة حالياً، وهو ما كان يعني أملاً كبيراً في تولد مناعة لدى عدد كبير من الناس الذين أصيبوا بالعدوى وتعافوا منها دون أن يتم رصدهم، أو بمعنى آخر مناعة القطيع.
ويقول بالو: “كان الجميع يأملون ذلك. أنا أيضاً كنت آمل ذلك”، لكن اكتشافات الدراسة سكبت الماء البارد على تلك الفكرة، حيث يقدر بالو وزملاؤه أن 10% فقط، على أقصى تقدير، من سكان العالم هم من تعرضوا للفيروس حتى الآن.
كثير من الدراسات أظهرت أن فيروس كورونا، الذي يعرفه العلماء باسم سارس-كوفيد-2، كان موجوداً في الخفافيش ولابد أن يكون قد انتقل أولاً لحيوان آخر قبل أن ينتقل للبشر، وكانت أولى حالات العدوى بين البشر قد ظهرت في أحد أسواق الحيوانات البحرية في ووهان في ديسمبر/كانون الأول، وبحسب العلماء فإن الفيروسات ترتكب أخطاء في كل مرة تظهر نسخة من نفس السلالة ويمكن استخدام تلك التحولات لتحديد ما يعرفه العلماء بالساعة الخلوية للفيروس لتعقبه من خلال الوقت والمكان.
وكتبت فريق الدراسة أن “نتائجنا تتفق مع التقديرات السابقة وجميعها تشير إلى أن جميع تحولات الفيروس تتشارك في كونها تتبع سلالة واحدة ظهرت أواخر 2019، وهو ما يؤيد نظرية انتقال الفيروس للبشر في تلك الفترة”، وقال بالو للشبكة الأمريكية: “إنه فيروس حديث جداً. إننا واثقون تماماً أن القفزة من الحيوان للبشر تمت في أواخر العام الماضي”.
ماذا يعني هذا إذن؟ يعني أن جميع تحولات أو نسخ فيروس كورونا متشابهة وأنها موجودة في كل مكان، وليس كما يردد البعض من أن نسخة أكثر فتكاً من الفيروس متواجدة في أوروبا والولايات المتحدة، بينما نسخة أقل خطراً منتشرة في البلاد التي تشهد حالات عدوى ووفيات أقل.
هل يفسّر هذا ما يحدث في أوروبا وأمريكا؟
الدراسة وجدت أدلة تدعم الشكوك بأن الفيروس كان يصيب الناس في أوروبا والولايات المتحدة وأماكن أخرى قبل أسابيع أو حتى شهور من الإعلان الرسمي عن أولى الحالات أواخر يناير وفبراير، وقال بالو إنه “مستحيل التوصل لأول حالة عدوى في أي دولة”، مضيفاً أن “كل تلك الأفكار بشأن محاولة التوصل للمريض صفر بلا جدوى؛ لأن هناك الكثير جداً من المريض صفر في كل الدول”.
الدراسة خضعت بالطبع لمراجعات من جانب باحثين وخبراء فيروسات آخرين حول العالم قبل نشرها كدراسة علمية، وقال بالو إن بعض مَن راجعوها توصلوا لنتائج خاطئة ونشروها، مضيفاً أن “جميع الفيروسات تتحور بشكل طبيعي، والتحورات في حد ذاتها ليست أمراً سيئاً ولا يوجد ما يشير إلى أن فيروس كورونا يتحور أسرع أو أبطأ من المتوقع، وحتى الآن لا يمكننا الجزم أن الفيروس يتحور إلى نسخ أكثر فتكاً أو أقل فتكاً ونفس الأمر بالنسبة لسرعة الانتشار”.
الخلاصة التي يمكن الخروج بها من نتائج تلك الدراسة ترسم صورة مقلقة بخصوص البدء في تخفيف إجراءات الإغلاق الاقتصادي والتباعد الاجتماعي التي اتخذتها بالفعل غالبية دول العالم قبل التوصل لفكرة متكاملة عن طبيعة الفيروس القاتل، وهي الرسالة نفسها التي عبر عنها خبير الأوبئة الأول في الولايات المتحدة الدكتور أنطوني فوتشي قبل أيام.
فالدراسة تشير إلى أن السبب الوحيد لنجاح بعض الدول في احتواء تفشي الوباء هو إما البدء مبكراً في تطبيق إجراءات الفحص والتتبع والعزل بصورة صارمة أو تطبيق إجراءات الإغلاق شبه الكامل للنشاط الاقتصادي والتباعد الاجتماعي مبكراً قبل تفشي الوباء بين السكان، وحتى الآن لا يوجد ما يضمن عودة التفشي بصورة أكثر خطورة قبل التوصل للقاح للفيروس.