هل منظمة الصحة العالمية فاشلة أم كبش فداء؟
منذ تفشي فيروس كورونا وتحوله إلى جائحة عالمية، أصبحت منظمة الصحة العالمية هدفاً للاتهامات من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشكل خاص، وسار على نهجه الكثيرون، لكن هل نقاط القصور في عمل المنظمة الدولية متعمدة أم أنها تتعرض للانتقادات؛ كونها الطرف الأضعف في المعادلة؟
مجلة The Economist البريطانية تناولت قصة منظمة الصحة العالمية بشكل موضوعي في تقرير بعنوان: “العالم بحاجة إلى منظمة صحة عالمية أفضل”، رصد الأسباب الحقيقية وراء قصور المنظمة في التصدي لكورونا منذ البداية.
كورونا وترامب.. تهديد مزدوج
تقول مارا بيلينجر، الباحثة في مجال السياسة الصحية في جامعة جورج تاون بواشنطن العاصمة، إن منظمة الصحة العالمية أدت عملها “على الوجه الأكمل” في التعامل مع فيروس كوفيد -19، بالنظر إلى القيود المفروضة على طريقة عملها. غير أن التهديد المزدوج المتمثل في ترامب وفيروس كورونا قد سلط الضوء على نقاط قوة المنظمة وضعفها، وأثار تساؤلات حول مستقبلها.
يخضع عمل منظمة الصحة العالمية في حالات الطوارئ لإطار قانوني، يُعرف باسم اللوائح الصحية الدولية، وقد دخلت نسختها الحالية حيز التنفيذ منذ عام 2005. وهي توضح طريقة التعامل مع حالات الطوارئ المتعلقة بالصحة العامة. وتوضح القواعد الخاصة بالطريقة التي ينبغي أن تتحرك بها الدول. وهذه اللوائح تقيد منظمة الصحة العالمية، والدول الأعضاء ملزمة بالإبلاغ عن تفشي الأمراض في أسرع وقت ممكن، وإذا لم تفعل أو ماطلت في الإبلاغ كما فعلت الصين في حالة كوفيد-19، فالمنظمة لا تملك أي وسيلة لإجبارها على ذلك.
وتقول الدكتورة مارا إن إحدى المشكلات التي تواجه منظمة الصحة العالمية هي أن الكثير من عملها غير ظاهر، إذ إنها تتعاون تعاوناً وثيقاً مع الحكومات، وتسمح لها بأن تنسب الفضل لنفسها في جهودها. وعندما تسوء الأمور تصبح هي كبش الفداء المناسب، وهذا ما أدركه ترامب.
وقد خضعت طريقة تعاملها مع كوفيد-19 للتدقيق والتمحيص كما ينبغي. وترى غرو هارلم برونتلاند، رئيسة وزراء النرويج السابقة، التي ترأست منظمة الصحة العالمية من عام 1998 إلى عام 2003، أن منظمة الصحة العالمية أعلنت كوفيد-19 حالة طوارئ صحية عامة بعد فوات الأوان. وقد يكون السبب وراء ذلك هو حجب الصين للمعلومات عن تفشٍّ جديد. وهذا، كما تقول، “إخفاء ومماطلة محظوران، وفقاً للوائح الصحية الدولية”.
ويقول البعض إن المنظمة لم تصدر إرشاداتها المتعلقة باستخدام ديكساميثازون بالسرعة الكافية، وهو دواء يمكنه علاج بعض المرضى الذين ساءت حالتهم كثيراً، وانتقدها آخرون بسبب مماطلتها في الدعوة لارتداء الكمامات القماشية في الحافلات والمتاجر. في البداية لم يكن لديها الدليل الذي يمكنها الاستناد إليه لإصدار مثل هذه التوجيهات، مثلما أوضحت ماريا فان كيركوف، عالمة الأوبئة في منظمة الصحة العالمية. وكان يتعين عليها معرفة مدى توفر هذه الكمامات، وما قاله العلم عن فاعلية التوسع في استخدام الكمامات القماشية. وقد طلبت من الباحثين في جامعة ستانفورد التحقيق في الأمر. واستناداً إلى بحثهم، غيرت نصيحتها في يونيو/حزيران، بالقول إنه يجب ارتداء هذه الكمامات في الأماكن العامة، حيث يكون التباعد الجسدي مستحيلاً.
ولكن بشكل عام، استجابت المنظمة لفيروس كوفيد-19 بسرعة، ففي بداية تفشي المرض، عمل المسؤولون مع شركات التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي لتشجيعهم على نشر معلومات دقيقة.
وقد ساعدت في تنسيق الجهود العالمية للتوصل إلى العلاجات واللقاحات. وهي تعمل مع شركات الأدوية لتأمين إمدادات الأدوية. وأصبحت الآن طرفاً رئيسياً في خطة Covax، التي تهدف إلى توزيع ملياري جرعة من لقاح كوفيد-19 عام 2021، وسارعت منظمة الصحة العالمية لدراسة واستيعاب الأبحاث الجديدة بسرعة عالية، وشرحت ما تعنيه. ومن خلف الكواليس، تبلغ منظمة الصحة العالمية الدول الأعضاء بصفة منتظمة حين تفتقر إجراءاتها للشدة أو الشمول الكافيين.
الأجراس تُدَّق لمنظمة الصحة العالمية
من المقرر أن تخضع جهود منظمة الصحة العالمية للمزيد من التحليل، ففي مايو/أيار، طالبت جمعية الصحة العالمية، منتدى صنع القرار التابع لمنظمة الصحة العالمية، بإجراء تقييم مستقل كامل لتعامل المنظمة مع الجائحة، وكذلك تعامل كل بلد على حدة. ومن المقرر نشر هذا التقييم العام المقبل، وبغض النظر عما سيخلص إليه فالعديد من نقاط ضعف منظمة الصحة العالمية واضحة بالفعل. ففي الشهر الماضي، وزع مسؤولون في وزارتي الصحة الألمانية والفرنسية ورقة بحثية تقول إن المنظمة تعاني من نقص حاد في التمويل، وإن الدول الأعضاء تفرّط في تقييدها، وإنها ضعيفة عمداً.
غير أن المال هو مشكلة منظمة الصحة العالمية الأكثر إلحاحاً، إذ يبلغ حجم ميزانية الصحة العالمية 2.5 مليار دولار سنوياً (أي ما تنفقه أمريكا على الرعاية الصحية لمدينة صغيرة تقريباً). يقول هوارد كوه، الأستاذ في كلية هارفارد تشان للصحة العامة ومساعد وزير الصحة السابق في إدارة أوباما: “إنه رقم محزن”. و”نتوقع منها إنهاء الجوائح في العالم” بهذا الرقم. ويُشار إلى أن منظمة الصحة العالمية تضطر في معظم حالات الطوارئ إلى التوسل إلى مموليها لجمع المزيد من الأموال. وقد نفدت منها الأموال في ذروة تفشي فيروس إيبولا في الكونغو في الفترة بين عامي 2018 و2019.
وما زاد عملها صعوبة أن 20% فقط من تمويلها البالغ 2.5 مليار دولار مضمون ويأتي دون قيود. ويأتي معظم هذه الأموال من عدد صغير من كبار المتبرعين. ويقول الدكتور تيدروس، رئيس منظمة الصحة العالمية، إن المنظمة أصبحت مثل بلد يعتمد على النفط، أي تعتمد بشكل كبير على مصدر دخل واحد، ألا وهو أمريكا. أما الدول الكبيرة الأخرى، مثل الصين وفرنسا، فتساهم بمبالغ زهيدة. وتأتي نسبة 80% المتبقية في شكل ما يقرب من 3000 مساهمة طوعية وغير مضمونة وتُخصص لمشاريع محددة.
ويحاول الدكتور تيدورس، منذ توليه المنصب عام 2017، تأمين الموارد المالية للمنظمة. إذ أنشأ “مؤسسة الصحة العالمية” لتأمين مصدر ثابت للمال. وهو يحاول إقناع الدول الأعضاء بتقديم المزيد من التمويل غير المشروط. وحتى قبل الجائحة، سعى جاهداً لتتصدر الصحة الأجندة السياسية. ويقول عاملون في مؤسسة خيرية صحية كبيرة، إن منظمة الصحة العالمية في عهده انتقلت من مناقشة عملها مع وزراء الصحة إلى مناقشته مع رؤساء الدول.
وينسب الدكتور تيدروس فضل إلهامه أفكاراً جديدة إلى موظفيه، مثل إنشاء أكاديمية منظمة الصحة العالمية لدعم تدريب كوادر العاملين الصحيين في العالم، وقد أسس دور كبير العلماء. وتواصل مع القطاع الخاص، وهو أمر ترددت الصحة العالمية في فعله من قبل، خوفاً من تضارب المصالح. ويقول إنه على استعداد للعمل مع مصانع الأغذية للتخلص من الدهون المتحولة غير الصحية في الطعام بحلول عام 2023. وتدرس المنظمة العمل مع شركات التكنولوجيا الكبرى على تقنيات الصحة الرقمية، وهذه الإصلاحات التي نفذها الدكتور تيدروس حتى الآن طموحة، ولكن يتعين على الدول الأعضاء دعمها.
وبخلاف الجوائح، فعملها على تعزيز السياسات القائمة على العلم، وتعزيز النظم الصحية وتوسيع الحصول على الرعاية ليس باهراً، لكنه حيوي، فصحيح أن سجل المنظمة في كوفيد-19 بعيد كل البعد عن الكمال، إلا أنها حذرت منذ فترة طويلة من احتمال حدوث جائحة بهذا الحجم. ففي عام 2018 تحدثت عن “المرض X” الذي يسببه عامل ممرض لم يُشاهد من قبل في البشر، ومن شأنه أن يتسبب في جائحة وينشر الدمار. وقد أنشأ الدكتور تيدروس قسماً جديداً للتحضير لذلك، لكن العديد من البلدان لم تبدِ اهتماماً.
وفي الوقت نفسه، تواجه منظمة الصحة العالمية واجبات جديدة، إذ يتطلب تفشي فيروس إيبولا الجديد في الكونغو الانتباه، وستحتاج البلدان الفقيرة إلى الدعم في التعامل مع كوفيد-19، إلى جانب الأمراض الموجودة مثل السكري والحصبة، وستضطر منظمة الصحة العالمية إلى الحد من توزيع مواردها المحدودة بالفعل.
وقد حاول الدكتور تيدروس إقناع إدارة ترامب بأن أمريكا يجب أن تظل جزءاً من منظمة الصحة العالمية، لكنه قال إنها وضعت شروطاً “غير مقبولة بالكامل” لفعل ذلك (لم يحدد ماهيتها). غير أن جو بايدن تعهد بأن أمريكا ستنضم إلى المنظمة على الفور، إذا فاز بالرئاسة. وفي كلتا الحالتين، فإن احتمال انسحاب أحد المانحين الرئيسيين للمنظمة جعل البلدان الأخرى تدرك أنه ينبغي عليها بذل المزيد من الجهد لدعمها. وقد تشكلت لجنة داخلية لدراسة إصلاح اللوائح الصحية الدولية. وقد تحتاج المنظمة إلى السلطة للتحقيق في تفشي الأمراض بشكل أكثر استقلالية، وإنشاء نظام يمكّنها من إصدار تحذيرات مبكرة في حالات الطوارئ الصحية العامة. لقد كان من الصعب تقدير مخاطر ضعف النظام الصحي العالمي قبل عام. أما اليوم، فوصل حجم تكلفة الفشل إلى تريليونات الدولارات، وخسارة حوالي 900 ألف شخص جراء الإصابة بكوفيد-19.