هل سيُؤدي فيروس كورونا إلى ركودٍ اقتصادي؟
بينما يتتبع علماء الأوبئة بقلق الإشارات على أنّ فيروس كورونا ينتشر على نطاقٍ واسع بعيداً عن مصدره في الصين، يتساءل الاقتصاديون: هل يسقط العالم في ركود اقتصادي بسبب كورونا؟
أدّى تفشّي المرض عالمياً إلى حدوث اضطرابات في أسواق الأسهم، وتعطيل سلاسل التوريد حول العالم. وفي يوم الثلاثاء، الثالث من مارس، اتّخذ بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي خطوات صارمة لمحاولة احتواء الأضرار، مُعلناً أنّه سيخفض أسعار الفائدة بنصف نقطةٍ مئوية.
وحتى الآن، ظهرت علاماتٌ قليلة على انتشار الأضرار الاقتصادية على نطاقٍ واسع، في الولايات المتحدة على أقل تقدير، حسبما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
إذ لم تبدأ غالبية الشركات في إقالة الموظفين، ولا يزال المستهلكون ينفقون أموالهم، ولا تزال المتاجر والمطاعم مفتوحة. وتأتي خطوة الاحتياطي الفيدرالي بوصفها جهداً لإبقاء الأمور على هذا الوضع.
هل يسقط العالم في ركود اقتصادي بسبب كورونا؟
قال الاقتصاديون إنّ الجائحة قد تُؤدّي بوضوح إلى حالة ركودٍ اقتصادي في الولايات المتحدة، ولكن حدوث ذلك يتطلب انتشار الآثار أبعد من قطاعات التصنيع والسفر وغيرها من القطاعات التي تتأثّر مباشرةً بالمرض.
وقالت تارا سينكلير، الاقتصادية بجامعة جورج واشنطن، إنّ العلامة الحقيقية على وجود مشكلة ستظهر حين تبدأ الشركات -التي لا علاقة لها بالفيروس- في الإبلاغ عن ركودٍ في الأعمال الاقتصادية.
وقالت تارا: “الفكرة الرئيسية هنا هي مراقبة الأرقام الكُبرى بدلاً من تتبُّع الأشياء المرتبطة بالفيروس وسلاسل التوريد عن قرب. إذا توقّف الناس عن قص شعرهم فهذه علامةٌ سيئة”.
يتطوّر وباء فيروس كورونا بسرعةٍ كبيرة، ولا يستطيع أحدٌ التنبُّؤ بالآثار الاقتصادية بثقة. وبدلاً من ذلك، يميل المحللون إلى التفكير في السيناريوهات: ما الطرق المُختلفة التي يُمكن أن تسير بها الأوضاع؟ وما هي المخاطر القائمة قبل ظهور الفيروس؟
فيروس كورونا سوف يُدمّر الاقتصاد
تسبّب التفشّي بالفعل في إغلاق عددٍ من المصانع، وإلغاء رحلات طيران والكثير من الفعاليات، وشارفت مُدنٌ كاملة في آسيا وأوروبا على الإغلاق الكامل تقريباً.
وحذّرت Apple وMastercard وUnited Airlines وعشرات الشركات الأخرى من أنّ الفيروس سوف يضُر بالأرباح.
وقالت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يوم الإثنين، الثاني من مارس/آذار، إنّ النمو العالمي قد ينخفض بمقدار النصف، ليصل إلى 1.5% عام 2020، في حال واصل الفيروس انتشاره. وحذّرت لورنس بوون، كبيرة الاقتصاديين في المنظمة، من أنّ هذه التوقعات “لا تُمثّل أسوأ السيناريوهات المُحتملة”.
لن تكون الولايات المتحدة مُحصّنةً من تلك الأضرار. إذ قدّر مصرف Goldman Sachs في عطلة نهاية الأسبوع، أنّ تفشّي المرض سيخفض النمو الاقتصادي بنقطةٍ مئوية كاملة في عام 2020.
وكان الاقتصاد ينمو بمُعدّلٍ سنوي يصل إلى حوالي الـ2% قبل ظهور الفيروس. لذا فإنّه في حال ازداد تفشّي الفيروس سوءاً، فليس من المستغرب تخيُّل أنّ إجمالي الناتج المحلي سيتراجع بالكامل.
لكن الركود هو أكثر من مجرد انخفاضٍ في إجمالي الناتج المحلي. إذ ينطوي الركود على دائرةٍ تتغذى على نفسها، بحسب رؤية غالبية الاقتصاديين؛ إذ يؤدي تراجع الوظائف إلى ضعف الدخل، وهو ما يُؤدي إلى تراجع الإنفاق، ويُسفر بالتالي عن تقليل عدد الوظائف أكثر. (لن يستمر هذا إلى الأبد بالطبع، خاصةً في ظل تدخّل البنوك المركزية والحكومات بالقوة لدفع النمو).
وقالت المسؤولة السابقة بالاحتياطي الفيدرالي كلوديا سام، التي تعمل الآن مديرة لسياسة الاقتصاد الكلي بمؤسسة Center for Equitable Growth البحثية التقدُّمية: “نظراً لأنّ إنفاق المُستهلك يُمثّل 70% من الاقتصاد، فسيتعيّن عليك أن تنظر إلى الأمر من جانب المستهلك حتى ترى كيف سيُؤدي ذلك إلى تراجع الاقتصاد الأمريكي”. وأشارت إلى أنّ بعض الباحثين درسوا كيفية انتشار الصدمات في عالم الاقتصاد، مُستخدمين أساليب طُوِّرت في الأصل لنمذجة انتشار الأمراض.
إنه يشبه الإعصار والزلازل، وهذا أمر جيد
فكّر في الأعاصير والزلازل مثلاً. ستجد أنّ كارثةً طبيعية سيئة تستطيع بسهولة أن تخفض الإنتاج في أحد أجزاء البلاد، بالتزامن مع إغلاق المتاجر وتأخير الشحنات وبقاء الناس في منازلهم وملاجئهم. في حين أنّ الكارثة شديدة السوء قد تُؤدّي إلى تراجع إجمالي الناتج المحلي.
وحين تخرج العوامل الأخرى من الصورة، سيعود الاقتصاد مرةً أخرى إلى سابق عهده بمجرد انحسار المياه أو توقُّف الأرض عن الاهتزاز. وفي الواقع، تأتي الكوارث الطبيعية متبوعةً عادةً بزيادةٍ مُؤقتة في النشاط الاقتصادي، إبان جهود الناس لإعادة البناء. ومن هذا المنطلق، تختلف الكوارث عن الأزمات المالية مثلاً، إذ إنّ الأخيرة تخفض الإنفاق والاستثمار على المدى القصير وتُقلّل استعداد وقدرة الناس والشركات على الإنفاق طوال أشهرٍ أو سنوات.
وحتى الآن، يبدو تفشّي فيروس كورونا أشبه بالإعصار أكثر من الأزمة المالية، لكن الأمور قد تتغيّر سريعاً.
إليكم الطريقة التي يُمكن أن يُؤدي بها فيروس كورونا إلى الركود الاقتصادي: مع انتشار الخوف من الفيروس سيتوقّف الأمريكيون عن الذهاب إلى المطاعم والحفلات والأفلام، وستُلغي شركات الطيران رحلاتها المحلية، وستُؤجّل مباريات الدوريات الرياضية، وستُغلق الفنادق والمتاحف والملاهي.
ثم سيدفع تراجع الأرباح والشكوك حول توقيت استرداد الأعمال لعافيتها بالشركات إلى البدء في إقالة الموظفين، في حين أنّ العاملين العاطلين حديثاً سيخفضون الإنفاق أكثر، وسيفعل الآخرون ذلك أيضاً خشية أن يحدث لهم الأمر نفسه. وهذا يُؤذي الطلب على مجموعةٍ أكبر من المنتجات، وهو ما سيُؤدي إلى المزيد من الإقالات وإفلاس بعض الشركات.
أو يُمكنك تخيُّل سيناريو آخر: حيث يزيد تعطُّل سلاسل التوريد من صعوبة حصول المُصنّعين على الأجزاء اللازمة، وحصول تجار التجزئة على منتجات تملأ الرفوف. وحين يعجزون عن العثور على شيءٍ للبيع، يُضطرون إلى إقالة العاملين، وهو ما يُدخِلنا في نفس الدائرة من فقدان الوظائف وخفض الإنفاق.
وإليك العامل المشترك في الحالتين: بمجرد أن تنتشر الآثار المباشرة لفيروس كورونا إلى سوق العمل، ستتعمّق تموّجاتها أكثر في قلب الاقتصاد. وفي حال حدوث ذلك، ربما يظل الاقتصاد بطيئاً حتى في أعقاب السيطرة على الفيروس.
وقالت كارين دينان، اقتصادية هارفارد والمسؤولة السابقة في وزارة الخزانة: “السؤال هنا هو ما إذا كان ذلك سيدفع الشركات إلى الخروج من السوق، أم مجرد إقالة بعض الموظفين، فهنا ستحصل على التأثيرات الأكبر على الاقتصاد”.
ما هو تأثير كورونا على الاقتصاد حالياً؟
لن يظهر تأثير فيروس كورونا في الإحصاءات الاقتصادية على الفور، إذ لم تتوافر أيّ بيانات تقريباً في فبراير/شباط، حين بدأ الفيروس في انتشاره الواسع خارج الصين، وربما لن يظهر تأثيره على الوظائف والإنفاق قبل الربيع أو الصيف.
في حين ترسم المؤشرات المتوافرة حالياً صورةً مُتداخلة، وفي استطلاعٍ لمعنويات المستهلكين بجامعة ميشيغان الأمريكية، أشار 20% من المُشاركين الأسبوع الماضي إلى أنّ فيروس كورونا يُمثّل مصدر قلقٍ لهم، رغم أنّهم كانوا واثقين نسبياً في الاقتصاد في المتوسط. ووجدت الاستطلاعات الأخيرة من مصرف الاحتياطي الفيدرالي بمدينة كانساس سيتي، ومعهد إدارة التوريد، أنّ الشركات تشعر بالقلق حيال الفيروس رغم أنّ النشاط الاقتصادي آخذٌ في الازدياد.
وربما يكون هذا النوع من مؤشرات المعنويات هو الأول من نوعه في اكتشاف المشكلة. كما سيُراقب الاقتصاديون المزاعم الأسبوعية بالتأمين ضد البطالة لرؤية ما إذا كانت الإقالات تزداد، فضلاً عن مراقبة بيانات مبيعات التجزئة الشهرية بحثاً عن إشاراتٍ على عزوف المستهلكين عن وجبات المطاعم وأوجه الإنفاق الأخرى.
علاوةً على أنّ مقاييس الظروف المالية، مثل مؤشر مصرف الاحتياطي الفيدرالي في شيكاغو، يجب أن تُشير إلى ما إذا كانت المؤسسات المالية ستُحجِم عن الإقراض. وهذه هي إحدى الطُّرق التي يُمكن أن يُبطئ بها تفشي المرض الاقتصاد الأوسع.
وأحد المؤشرات التي لا ينصح الاقتصاديون بالتركيز عليها هي سوق الأوراق المالية، صحيحٌ أنّ الأسهم شهدت أسوأ أسبوعٍ لها منذ الأزمة المالية عام 2008. وصحيحٌ أنّ تبخُّر (على الورق في أقل تقدير) ستة تريليونات دولار من الثروة قد يدفع ببعض الناس إلى التفكير مرتين قبل شراء سيارات جديدة أو الإنفاق ببذخ في العطلات، وهي الظاهرة التي يُسميها الاقتصاديون بـ “تأثير الثروة”.
لكن سوق الأوراق المالية تُهيمن عليه الشركات متعددة الجنسيات، وعكس تراجعه -قبل عودته يوم الإثنين- المخاوف مما قد تعنيه الجائحة بالنسبة لآسيا وأوروبا والولايات المتحدة. وتأثير الثروة ليس كبيراً لهذه الدرجة رغم وجوده، إذ إنّ غالبية الأمريكيين لا يمتلكون أسهماً خارج حسابات التقاعد، لذا فإنّ آثار الانخفاض قصير الأجل سيكون محدوداً.
الأداء الجيد للاقتصاد يوفر مناعة نسبية ولكنّها ليست كبيرة
قبل انتشار فيروس كورونا، لم يتوقّع أي من المتنبئين تقريباً حدوث ركودٍ عام 2020. إذ وصلت معدلات البطالة في الولايات المتحدة إلى أدنى مستوياتها تقريباً منذ 50 عاماً، وجرى احتواء التضخُّم، فضلاً عن أنّ سوق الإسكان بدأ يكتسب قوةً كبيرة، في حين تمتّع نمو الوظائف بالثبات.
ويُمكن أن يُساعد هذا الزخم الأساسي في الحيلولة دون حدوث الركود، إذ ربما تتردّد الشركات التي كافحت للعثور على العمالة في تسريح موظفيها مع أول مؤشر خطر. وتحظى الأسر بنسبةٍ قليلة من الديون، وهو ما يمنحها مصداً جيداً إبان التباطؤ الاقتصادي.
لكن العديد من الشركات تُعاني أعباء ديونٍ ثقيلة، وهو ما سيزيد صعوبة تحمُّلها لأيّ تباطؤ بسبب الفيروس. وكان الاستثمار التجاري يتراجع بالفعل، إذ تركت الحرب التجارية للرئيس ترامب أثرها على القطاع الصناعي.
وتوقّع غالبية الاقتصاديين بالفعل تباطؤ النمو خلال العام الجاري بما يكفي لتعريض الاقتصاد للخطر.
وقالت كارين: “قال الكثير من المتنبئين قبل انتشار الفيروس: إذ كنا سنشهد ركوداً خلال العام أو العامين المقبلين، فسيكون السبب صدمة خارجية. وهذا هو ما حصلنا عليه الآن”.
ولا يزال غالبية الاقتصاديين يتوقعون أنّ الولايات المتحدة ستُفلت من هذا الركود، رغم أنّ الدول الأخرى لن تكون محظوظةً بالقدر نفسه على الأرجح. ويقولون إنّ الركود الناجم عن فيروس كورونا سيكون طفيفاً نسبياً، لكن هذا ليس مُريحاً للأعصاب، إذ يُخطئ الاقتصاديون عادةً في التنبُّؤ بالركود.