هل ستعيد الصين بناء سوريا؟
في بداية يونيو 2019، زار الرئيس الصيني شي جين فينغ روسيا. وفي مقابلة مع وسائل الإعلام، أفاد بأن بلاده “تقف على أهبة الاستعداد للمشاركة في إعمار سوريا، وفقاً لقدراتها”. هناك من رأوا في هذا التصريح تعزيزاً لأملهم، وكبديل لخوفهم من أن تكون الصين هي التي ستأخذ على عاتقها مهمة الإعمار، التي قدر البنك الدولي كلفتها بنحو ربع تريليون دولار. كان هناك من سار بعيداً وحذر إسرائيل من مخاطر التواجد الصيني المرتقب على حدودها الشمالية، ولكن من الأفضل لهؤلاء وأولئك أن يقللوا مستوى التوقعات؛ فالأهداف الأساسية للصين في الشرق الأوسط ترتبط بأماكن الطاقة ومسارات توليدها، وكذا في مسارات التجارة إلى أوروبا وإفريقيا.
وقد نالت سياستها في المنطقة وصفاً صائباً: “وزن ثقيل في الاقتصاد، وزن خفيف في المجال السياسي، ووزن الريشة في المجال العسكري”. فجملة المصالح، وسلة الأدوات والتفضيلات الإستراتيجية للصين، تشير جميعها إلى احتمال طفيف لدور صيني مهم في سوريا، التي على هامش غربي آسيا، المنطقة ذات الأفضلية المتدنية بالنسبة للصين، وعديمة مقدرات الطاقة أو المناجم المهمة. لا شك في أن لدى الصين القدرات اللازمة لإعمار سوريا، ولكن مزايا سياستها وسلوكها في الشرق الأوسط تطرح شكاً كبيراً حول إمكانية الاستثمار هناك.
المستوى الاقتصادي: قدرة صينية مثبتة، دافعية محدودة
إن قدرات الصين المثبتة في مجال البنى التحتية، وحجم اقتصادها، والمال المتوفر، ومشاريع البنى التحتية التي تقيمها في العالم، تتناسب بالتأكيد مع متطلبات المهمة الهائلة في إعمار سوريا من خرائبها. ظاهراً، فإن أعمال الإعمار، لا سيما في مجال البنى التحتية: الطرقات، القطارات، محطات توليد الطاقة، الاتصالات والطاقة، تندرج مع المفهوم الصيني المتعلق بـ”السلام من خلال التنمية”، وكذا مع “مبادرة الحزام والطريق” للرئيس شي جين فينغ، التي أساسها إقامة البنى التحتية للمواصلات، والتجارة، والاتصالات في البر والبحر والجو، بين الصين والأسواق والمواد الخام في العالم، لا سيما أوروبا وإفريقيا.
لقد لاحظت دمشق هذه الإمكانية الكامنة منذ زمن بعيد، وهي تسعى لأن تربط الصين للاستثمار فيها بمالها وقدراتها. في أكتوبر 2017، قال السفير السوري في بيجين إن بلاده ستكون مستعدة لأن تورد للصين النفط مقابل القروض، وأنها ستكون مستعدة لأن تعقد هذه الصفقات بالعملة الصينية، اليوان، وفقاً لتطلعات الصين لإدراجه في سوق العملات العالمية.
ولكن في ضوء الإمكانيات الكامنة، يشتد السؤال حول رغبة الصين في استخدامها في سوريا من الناحية العملية. عموماً، تمتنع الصين عن المخاطرة في استثماراتها ومصالحها في الخارج، سواء لأسباب اقتصادية أم خوفاً من التأثير السلبي في مكانة الحزب وصورته، في الصين وفي العالم بشكل عام. فبعد أن حصل في أثناء الهزة الإقليمية في الشرق الأوسط أن اكتوت الصين بضياع استثماراتها في ليبيا واضطرت لأن تخلي مواطنيها من اليمن أيضاً، فإنها لن تسارع لأن تعرض نفسها إلى مخاطر أخرى قبل أن تستقر سوريا وينتهي فيها القتال.
مثلما في أماكن كثيرة أخرى في أرجاء العالم، في سوريا أيضاً ينمو الأمل والأوهام بشأن “مبادرة الحزام والطريق”. فقد قال مستشار الرئيس السوري مؤخراً إن “طريق الحرير ليس طريق حرير إذا لم يمر عبر سوريا والعراق وإيران”. ولكن الجغرافيا تسمح بطرق أكثر راحة وقصراً إلى أوروبا -من إيران مباشرة إلى تركيا– بينما المرور غير الضروري في العراق وسوريا ينطوي على مخاطر أمنية زائدة من ناحية الصين. وبموجب ذلك، رغم أن السفير الصيني في العراق كان وصفها كإحدى الدول العربية الأولى التي انضمت إلى مبادرة “الحزام والطريق”، فإن الصين تستثمر في العراق بالأساس في مجال الطاقة وليس في البنى التحتية، بخلاف الاستثمارات المكثفة في البنى التحتية في جارتها إيران. صحيح أن لسوريا موانئ على شاطئ البحر المتوسط، ولكن ميناء طرطوس أجر منذ الآن لروسيا لمدة 49 سنة، بينما حصلت الصين على عقود سيطرة و/أو تفعيل في موانئ كثيرة أخرى، وبينها السويس، وطرابلس، وحيفا، وإسطنبول، وبيراوس.
إلى جانب تحفظ حكومة الصين، فإن الشركات الصينية أيضاً لا تسارع إلى العمل في سوريا، ولم تفعل ذلك حتى قبل الحرب. في العام 2010، بلغت الاستثمارات الصينية في سوريا 16.6 مليون دولار فقط. وحتى 2015 هبطت إلى 11 مليون دولار. والتحديات التي ستكون أمام الشركات الصينية في سوريا تحديات كثيرة: يضاف إلى المخاطر الأمنية تحديات التشريع، وعدم الاستقرار السياسي، والتسويف، وانعدام النجاعة، التي تزايدت في سنوات الحرب. كما يقلق الشركات الصينية أيضاً الاسترداد المتوقع لاستثمارها، مقارنة بالنموذج الصيني لـ”الاستثمار من خلال القروض”، هناك تخوف معقول من ألا تتمكن سوريا من تسديد القروض التي تحصل عليها. هناك شركات صينية وافقت على أن تحصل على الدفع بالنفط والبضائع، ولكن هذا النموذج لا يسمح باستثمارات واسعة.
من ناحية اقتصادية، يمكن أن نلخص فنقول إنه سيكون أمراً مبالغاً فيه أن نتوقع دوراً صينياً مهماً في إعمار سوريا بعد الحرب، مثلما لخص الوضع نائب رئيس اتحاد العلاقات الصينية العربية بقوله: “الوضع الحالي في سوريا ليس مناسباً لاستثمارات واسعة النطاق”.
المستوى السياسي والعسكري
تقوم الصين بأعمال دبلوماسية في سوريا، تعكس الاهتمام المحدود جداً من جهتها في مستوى العلاقات هذا. فقد عينت الصين مبعوثاً خاصاً إلى سوريا، وأعربت عن استعداد للتوسط بين الأطراف الصقرية. وفي 2016، استضافت في بيجين، على انفراد، ممثلي الحكومة السورية وممثلي المعارضة. على المستوى العسكري بلغت الصين عن تأهيل قوات لجيش الأسد في سوريا في 2016، بإرسال مستشارين عسكريين إلى سوريا في أبريل 2016 وفي بداية 2017، وأعلنت مرات عديدة عن نيتها إرسال مساعدة عسكرية وإنسانية عبر القوات الروسية في سوريا.
من ناحية تفاصيل النشاطات الصينية في سوريا، يتبين أن أساسها رمزي وخطابي، بينما فعلها العملي ضيق ونفوذها هامشي. على المستوى العسكري، فإن المستشارين الصينيين الذين أرسلوا إلى سوريا اهتموا بمواضيع عديدة: الطب والنقليات. كما أنه، بخلاف الشائعات التي نشرتها محافل المعارضة، امتنعت الصين عن إرسال قوات للقتال ضد مقاتلي الجهاد الإيغوريين في سوريا، وأساس ردها على التهديدات من جانبهم يتم داخل الأراضي الصينية وفي أعمالها الأمنية هناك. على المستوى الإنساني، انحصرت المساعدة الصينية لسوريا بالوعد بعشرات ملايين الدولارات، التي من الصعب أن نعرف إذا ما ومتى تحقق، وبألف كيس أرز، توفر مقياساً ممتازاً للشهية الصينية لفعل ذي مغزى في سوريا.
في السياق السوري، تتعامل الصين وفقاً لقرار “احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى”. وهذا عملياً معناه الإسناد لنظام الأسد. وفي الأمم المتحدة، ساندت الصين روسيا في دعم الرئيس الأسد واستخدمت الفيتو في ستة من أصل سبعة قرارات طرحت في مجلس الأمن لشجب استخدام السلطات السورية القوة ضد مواطنيها. وجرى التصويت السابع في أبريل 2017 بعد لقاء الرئيسين ترامب وشي، الذي طلبت فيه الولايات المتحدة شجب سوريا على استخدام السلاح الكيميائي. امتنعت الصين في هذا التصويت، بينما استخدمت روسيا الفيتو. هذه الحالة تدل على أن الصين لا تقف تلقائياً إلى جانب روسيا، ولكنها تفكر وفقاً لوضع علاقاتها مع الولايات المتحدة.
يقول باحثون صينيون من جامعة شنجهاي، موجزين الدور السياسي للصين في سوريا، بأنه “دور محدود” محفوظ لنزاعات هامشية في النظرة الإستراتيجية لمصالح الصين التجارية، وتتمثل في “إبداء الحضور الرمزي”.
في ضوء صورة المصالح الصينية ومزايا سياستها في المنطقة، والوضع الأمني في سوريا، لا مجال لتوقع دور كبير للصين في الاستثمارات أو في مشاريع البنى التحتية في هذه الدولة في المدى المنظور. وفي ذلك من الصعب أن نجد خطورة على إسرائيل، إلا إذا ساهمت استثمارات الصين في سوريا في تثبيت تواجد إيران فيها، كشريكة إستراتيجية مركزية للصين في الشرق الأوسط. على إسرائيل أن تركز على التهديدات الإيرانية، والتنسيق مع روسيا، والتعاون مع حليفتها الولايات المتحدة، فيما يتضح أن الصين تترك الملعب لكلتيهما. وفي موضوع علاقات إسرائيل مع الصين، هناك الموضوع السوري في أسفل سلم الأولويات المشترك بينهما، وقد يبقى هناك.